التخطي إلى المحتوى الرئيسي

 


ما هي الحسنة؟
الحسنة سُلّم للصعود إلى الإسلام وإلى الله تعالى، ولكن يجب أن تعرفوا ما هي الحسنة؟ اعلموا أن الشيطان يقطع على الناس كل سبيل ليضلهم عن الصراط المستقيم. فمثلاً: لو صُنع الخبز في بيت المرء مساءً، وزاد عن حاجته رغيف، وفي الصباح مُدَّ له الخوان، وعليه كل ما لذ وطاب من الطعام، وبينما كان أن يهم أول لقمة في فمه، أتى على بابه سائل، ونادى وطلب الطعام، فقال صاحب البيت آتوه الخبز البائت الذي زاد عن حاجتنا البارحة، فهل يُعَدّ عمله هذا برا وحسنة؟ كلا، لأن الرغيف البائت الزائد سيبقى في بيته هكذا ، إذ لن يأكله مَن يحبّ العيش الرغيد. قال الله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) (الإنسان (۹) . علما أن الطعام يطلق على الأكل الطيب الشهي، أما الأكل القديم الرديء، فلا يسمى طعاما. خلاصة القول، لو أن هذا أخذ من الطعام اللذيذ الشهي الموضوع أمامه على الخوان طازجا، ولم يأكل منه شيئا بعد، وآتاه السائل الذي ينادي على الباب، فعندها سيعد عمله حسنة.
لا يحق لأحد ينفق في سبيل الله الأشياء التافهة الرديئة أن يدعي فعل البر. اعلموا أن باب الحسنة ضيق، ولن يدخله أحد بإنفاق الأشياء التافهة، فقد ورد في النص القرآني الصريح : لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ . (آل عمران: ٩٣)، أي لن تحوزوا درجة أحباء الله تعالى ما لم تُنفقوا ما هو أحب وأعز عليكم. إن كنتم لا تريدون مكابدة المشقة ولا تريدون أن تعملوا البرّ الحقيقي، فأنى لكم أن تكونوا من الفائزين والناجحين؟ هل مجانًا نال الصحابة المكانة التي نالوها؟ كم ينفق الناس من الأموال وكم يكابدون من الأهوال في سبيل الفوز بألقاب دنيوية. يحظون بعد صنوف المشقة والعناء بلقب دنيوي عادي، ولكنه لا يبعثهم على الطمأنينة والسكينة القلبية! فكّروا ، هل مجانا وبسهولة حاز الصحابة لقب الله الذي كان مدعاة لاطمئنان النفس وسكينة القلب ورضا الله تعالى؟
الحق أن رضوان الله الذي يبعث على السعادة الحقيقية للإنسان، لا ينال إلا بمكابدة الصعوبات التي تكون مؤقتةً عابرة. في الواقع إن الله تعالى لا يمكن خداعه. فطوبى للذين لا يأبهون بالأذى في سبيل الفوز برضا الله تعالى، لأن نور السرور الأبدي والسعادة الأبدية لا يناله المؤمن إلا بعد تلك المعاناة المؤقتة.


من هو المسلم الحق؟
 أقولها صراحةً، إن من المحال أن يسمَّى المرء مؤمنًا صادقًا ما لم يُؤْثِر الله على كل شيء، وما لم ينظر الله إلى قلبه، ويعلم أنه صار له وحده سبحانه وتعالى. وإلا فإن المرء يُدعى مؤمنا ومسلما عُرفًا - لكونه من آل محمد  ، كما يدعى حتى كناسو المراحيض عندنا مصلّين - كان في القارة الهندية كناسو المراحيض الذين كانت مهنتهم تنظيف مراحيض الناس البدائية المبنية في البيوت التي كانت عبارة عن غرفة كان يستخدمها أصحاب البيت لقضاء الحاجة، ثم كان الكناسون يأتون ويزيلون الفضلات، وينظفون المكان مرة أخرى. وبعضهم أسلموا، وسموا أنفسهم "مصلين"، ولكن معظمهم لا علاقة لهم بالإسلام، بل يعيشون كالمشركين، حتى يأكلون الميتة وغيرها مما حُرّم في الإسلام المترجم)- أو مؤمنين. إنما المسلم: من أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ﴾ (البقرة: ۱۱۳) 
والوجه يُطلق على الذات والشخص، بالإضافة إلى معناه المعروف، فمن سلّم جُلّ قواه الله تعالى، فهو الذي يستحق أن يُدعى مسلما على وجه الحقيقة. تذكرتُ أن أحد المسلمين دعا يهوديا إلى الإسلام ، وكان المسلم فاسقا متورطا في أنواع الفسق والفجور، فقال له اليهودي: حاسب نفسك أولاً، ولا تغتر بأنك تُسمى مسلما، فإن الله تعالى يريد الإسلام حقيقةً لا اسما ولفظا فقط. ثم ذكر اليهودي قصته وقال: كنتُ سمّيتُ ابني خالدًا، ولكنه مات في اليوم الثاني، ووضعته بيدي في القبر. لو كانت البركة في مجرد الاسم لما مات.
إنك لو سألت مسلما : هل أنت مسلم، لأجابك: الحمد لله.
فاعلموا أن فارغ الكلام وثرثرة اللسان من دون العمل لا ينفع شيئا. الكلام الفارغ لا يساوي عند الله شيئا، قال الله تعالى: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (الصف: ٤).



السبيل لنيل شرف خدمة الإسلام:
أعود إلى مقصدي ثانية، أعني إلى قول الله تعالى: صَابِرُوا وَرَابِطُوا (آل عمران (۲۰۱)، وأقول : كما أنه لا بد من رباط الخيل على الحدود صدا للعدو من دخولها، كذلك كونوا مستعدين دائمًا مخافة أن يدخل العدو الحدود فيضر بالإسلام. لقد سبق أن بينت أنكم إن كنتم تريدون حماية الإسلام وخدمته، فتحلوا أولاً بالتقوى والطهارة ، لكي تدخلوا في حصن الله الحصين، فتكونوا أهلا لنيل شرف هذه الخدمة. ترون كم ضعفت قوة المسلمين الخارجية، إذ تنظر إليهم الأمم بكراهية وازدراء. أما إذا خارت وضعفت قوتكم القلبية والروحانية أيضا، فلا مصير لكم إلا الهلاك. فطهروا أنفسكم حتى تتسرب إليها القوة القدسية، فتصبح قوية وحامية كالخيول المرابطة على الحدود. إن فضل الله يحالف المتقين والصادقين دوما  فقط، فلا تكونوا سيئي الأخلاق والتصرفات، فتصيبوا الإسلام بوصمة عار. إن المسلمين الفاسقين الذين لا يعملون بتعاليم الإسلام يصمون الإسلام بوصمة عار. يشرب بعضهم الخمر، فيتقيأ هنا وهناك، وتكون عمامته ملتفة في رقبته، ويقع في المجاري والحفر الوسخة، وتضربه الشرطة بالنعال ويضحك عليه الهندوس والنصارى. والحق أن تصرفه هذا المنافي للشرع لا يجعله هو وحده عرضة للسخرية، بل يسيء إلى الإسلام نفسه. يصيبني حزن شديد بقراءة مثل هذه الأخبار وتقارير السجون، وعندما أعلم أن هذا العدد الهائل من المسلمين يعاقبون على تصرفاتهم السيئة، يصاب قلبي بصدمة شديدة بأن هؤلاء الذين كانوا قد هُدوا إلى الصراط المستقيم يتضررون بأعمالهم السيئة، وليس هذا فقط، بل يعرّضون الإسلام أيضا للسخرية والازدراء. ومن أجل ذلك قد كتب السيد أيبوتسون عن المسلمين كثيرًا في تقريره لدى إحدى الإحصائيات السابقة. إنما أقصد من قولي هذا أن المسلمين رغم ادعائهم بالإسلام يتورطون في هذه المنهيات والرذائل التي لا تسيء إليهم فحسب، بل تثير الشبهات حول الإسلام نفسه. فاجعلوا أعمالكم وتصرفاتكم صالحة حتى لا يجد الكفار فرصة الطعن فيكم، لأنه في الواقع طعن في الإسلام.


التقوى والطهارة هما الشكر الحقيقي:
إنما يكمن شكركم الحقيقي في تحليكم بالتقوى والطهارة، أما قول أحدكم: نعم أنا مسلم، والحمد الله، فليس من الشكر في شيء؟ إذا سلكتم درب الشكر الحقيقي، أي درب الطهارة والتقوى، فإني أبشركم أنكم مرابطون على الحدود، ولن يغلبكم أحد.
أتذكَّرُ أنه كان هناك هندوسي متعصب باسم جغن ناث، وكان محاسبا أعلى في المحكمة، وأخبرني مرة وقال: كنت أعمل في أمرتسر أو في مكان آخر، وكان هناك موظف مسلم يصلي في الخفاء ، ولكنه كان يتظاهر أنه هندوسي،  فكنت أنا وسائر الموظفين الهندوس نزدريه جدًا، فقررنا أن نكيد له كيدًا حتى يُطرد من العمل. وكنتُ أكثرهم كيدًا له، فشكوته إلى المدير مرارا أنه قد ارتكب خطأ كذا ومخالفة كيت، ولكن المدير كان لا يعير شكايتي بالاً. ولكنا كنا مصممين على تسريحه من العمل في كل حال، فجمعنا كثيرًا من المطاعن والشكاوى ضده لتنجح مكيدتنا، وكنت أرفع هذه الشكاوى للمدير من حين لآخر، فكان لو غضب على هذا أحيانًا استدعاه ، ولكنه ما إن يقف أمامه حتى يهدأ غضبه كما تهدأ النار إذا صبّ عليها الماء، فكان ينصحه بغاية اللطف والرفق، وكأنه لم يرتكب أي خطأ.



تقوى المرء ترعب الآخرين:
الحق أن تقوى المرء تخلق الهيبة في الآخرين، والله لا يضيع المتقين. لقد قرأت في كتاب أن حضرة عبد القادر الجيلاني -رحمة الله عليه - الذي كان من أكابر الأمة وذوي النفوس المطهرة جدا ، قال لأمه مرة : إني راغب عن الدنيا، وأريد أن أبحث عن مرشد يرشدني إلى سبيل السكينة والطمأنينة. فلما رأت أنه لم يعد ذا نفع لها، رضيت بما أراد ، وقالت حسنا سأودعك حالاً. ثم دخلت البيت وجاءت بثمانين دينارا كانت ادخرتها، وقالت له: إن لك أربعين دينارا، ولأخيك الأكبر أربعين دينارًا بحسب الشرع، فأعطيك الأربعين، ثم خاطت هذه الدنانير في قميصه في موضع الإبط، وقالت له : بعد وصولك إلى مأمنك، استخرجها من هنا واصرفها عند الحاجة. فقال: أوصيني بشيء يا أماه. قالت: اصدق القول ولا تكذب، فإن في الصدق بركات كثيرة. وبعد سماع وصية أمه ، خرج في السفر، واتفق أنه مرّ بفلاة يختفي فيها لصوص يقطعون على المسافرين طريقهم وينهبونهم. فلما رأوا حضرة عبد القادر من بعيد اقتربوا منه، فوجدوه رجلا فقيرا . ثم سأله أحدهم مستهزئا: هل عندك شيء؟ وكان حضرته قد خرج مسافرا قبل قليل بعد سماع وصية والدته بألا يكذب، فما كان منه إلا أن قال: نعم، عندي أربعون دينارا خاطتها أمي في قميصي في مكان الإبط. فظنّ اللصّ أنه يمازحه . ثم قال له لص آخر : هل عندك شيء؟ فأعاد حضرته الرد نفسه. وكلما سأله أحد من اللصوص أجابه بنفس الجواب. فأخذوه إلى زعيمهم ، وقالوا إن هذا يردّ علينا برد واحد. فقال لهم زعيمهم : فتشوا ثوبه. فلما فتشوه ووجدوا في قميصه أربعين دينارا، فأخذتهم الحيرة من أمره، وقالوا: لم نر شخصا عجيبا مثله!
فسأله زعيمهم: لماذا أخبرتنا هكذا عن مالك؟ قال: كنتُ خرجت في طلب دين الله، وكانت أمي قد أوصتني عند الوداع بألا أكذب أبدا، وكان هذا أول اختبار لي، فما كان لي لأكذب. فأخذ زعيم اللصوص في البكاء وقال: آه، لم أُطِعْ ربي في أي من أحكامه قط ! ثم خاطب أصحابه وقال لقد قضى علي كلام هذا الرجل واستقامته، ولا أستطيع البقاء معكم الآن، وها إني أتوب. فتاب معه سائر اللصوص. أرى أن المقولة الشهيرة عندنا: چوروں قطب بنایا اى. أي: لقد صيّرت اللصوص أقطابا، إنما تشير إلى هذه الواقعة نفسها. وقد قال حضرة السيد عبد القادر الجيلاني رحمة الله عليه : كان هؤلاء اللصوص أول التائبين على يدي. ومن أجل ذلك قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا (آل عمران: ٢٠١). ويكون الصبر كنقطة في أول أمره ، ثم يتسع كالدائرة ويحيط بالجميع، حتى إنه يؤثر على الصعاليك أيضا. فعلى المرء أن لا يتخلى عن التقوى أبدًا ، ويسير على سبل التقوى بقوة، لأن المتقي لا بد أن يؤثر على غيره، حتى يرعب تقواه قلوب المعارضين كذلك.



عناصر التقوى:
وللتقوى عناصر عديدة، فالكفّ عن العُجب والزهو وأكل المال الحرام وسوء الخلق أيضا كلها شُعب التقوى. إن صاحب الخلق الحسن يصبح أعداؤه أيضا أصدقاء له. قال الله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... (المؤمنون: ۹۷). فكّروا: ماذا يعلّمنا الله هنا؟ إنما يريد الله بذلك، أنه إذا شتمكم أحد من المعارضين، فلا تردوا عليه بالشتيمة بل اصبروا، لأن هذا يجعل المعارض يعترف بفضلكم فيندم ويخجل، وهذه العقوبة أشدُّ إيلاما له من العقوبة التي قد تصبونها عليه انتقاما. هذا الموقف (الشتم) قد يدفع بشخص عادي لسفك دم الخصم أيضا، ولكن هذا ليس مما تقتضيه الإنسانية والتقوى. إن حسن الخلق ميزة تؤثر حتى على أشد الناس إيذاء. ونعم ما قال الشاعر:
لطف کن لطف که بیگانه شود حلقه بگوش
أي: أَحسِنْ إلى الناس، فإن الإحسان يحول الغريب صديقا حميما.


إن الفساق الذين عارضوا الأنبياء، ولا سيما الذين عارضوا نبينا ، لم يؤمنوا بسبب المعجزات كما لم تكن المعجزات والخوارق لتقنعهم، وإنما اقتنعوا بصدقه برؤية أخلاقه الفاضلة. إن المعجزات الخلقية تعمل ما لا تعمله المعجزات الاقتدارية، وهذا المراد من القول الشهير: "الاستقامة فوق الكرامة. ويمكنكم أن تجربوا بأنفسكم لتروا كيف أن الاستقامة تُري العجائب. لا يلتفت الناس إلى الكرامة مطلقا سيما في العصر الحاضر، أما إذا علموا شخصًا متخلقًا بأخلاق فاضلة فيتوافدون إليه بكثرة، وهذا ليس بخاف على أحد. تؤثر الأخلاق الحميدة حتى في أولئك الذين لا يطمئنون ولا يقتنعون برؤية معجزات متنوعة. الواقع أن بعض الناس يؤمن برؤية المعجزات والخوارق، وبعضهم يؤمن برؤية أنواع الحقائق والمعارف، ولكن معظم الناس يهتدون ويطمئنون برؤية الأخلاق الفاضلة والألطاف الكريمة.



معجزات نبينا الكريم:
من أجل ذلك قد أعطي نبينا الا الله الخوارق والمعجزات من كل نوع وصنف. إنه لا أسمى شأناً من بياننا. حيثما نظرت تجد ما لا يعد ولا يحصى من معجزاته من الأقسام الثلاثة المذكورة آنفا، إذ كان جامعًا لهذه الأنواع الثلاثة، منها الخوارق الظاهرة المادية كشق القمر وغيره، وأما المعجزات الأخرى ، فيتجاوز عددها ثلاثة آلاف، وأما معجزات المعارف والحقائق، فكل القرآن الكريم زاخر بها، وهي تتجدد كل حين، وأما معجزاته الخلقية فكان مصداقا لقول الله تعالى: إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) (القلم:٥). وقد أعلن القرآن بشأن إثبات إعجازه: إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ (البقرة : (٢٤) . هذه معجزات روحانية. وكما ساق القرآن الكريم الأدلة على وحدانية الله تعالى، كذلك لا يقدر البشر على الإتيان بمثله في حكمته وفصاحته وبلاغته، وقد قال الله تعالى في آية أخرى: لَئِن اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجنُ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ (الإسراء : ۸۹)



فصاحة القرآن وبلاغته : 
ولا يظنن أحد بأن المعجزات الروحانية إنما هي مجرد زعم المسلمين ووهمهم. إن الطبيعيين المعاصرين - بل الأحرى أن أسميهم - غير الطبيعيين- لا يؤمنون بمعجزة فصاحة القرآن وبلاغته ، حتى إن السيد سيد أحمد - أي السير سيد أحمد خان مؤسس جامعة عليكره بالهند. (المترجم)- أيضا قد تعثر وأنكر معجزة فصاحة القرآن وبلاغته. عندما نتذكر ذلك، نتأسف على أن السيد سيد أحمد قد أنكر المعجزات. من المحال أن يؤمن السيد المحترم بكون القرآن معجزة بشكل من الأشكال، إذ يزعم أن أي شخص بسيط أو شخص عالي الطراز أن يأتي بنظير القرآن. من المؤسف أنه لا يدري أن الإنسان الذي جاء بالقرآن الكريم قد بلغ من العظمة أن وصفه الله تعالى بقوله : يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةٌ * فِيهَا كُتُبْ قَيِّمَةٌ. البينة : ٣-٤) ، أي يتلو سفرًا جامعًا لكافّة الكتب والحقائق. والمفهوم العام للكتب هنا هو كل الأمور الحسنة التي يراها الإنسان بطبعه صالحة للعمل.



شمولية القرآن المجيد:
والقرآن الكريم جامع لمثل هذه الحكم والمعارف كلها، كما هو خال تماما من كل ما هو تافه وغير نافع، ويفسّر كل أمر بنفسه، وفيه ما يسدّ كل حاجة، وهو آية ومعجزة من جميع النواحي. ولو أنكر أحد هذا، فإننا مستعدون لإثبات وإراءة إعجازه من كل النواحي.

تُشنّ اليوم على وحدانية الله ووجوده هجمات شديدة، وقد بذل النصارى أيضا جهدهم وكتبوا كثيرا في الدفاع عن الله تعالى، ولكن كل ما كتبوه وقالوه فإنما هو عن إله الإسلام فقط وليس عن إله ميت مصلوب وعاجز. ونقول على الملأ بكل تحدٍ : إن كل من أراد أن يمسك قلمه دفاعًا عن وجود الله تعالى سيرجع في النهاية طوعًا أو كرها - إلى ذلك الإله الذي قدّمه الإسلام، ذلك أن كل ورقة في الكون تنبئ عن ذلك الإله، وكل إنسان يحمل في طبعه نقش ذلك الإله نفسه. فمثل هؤلاء القوم، كلما تقدموا في هذا الموضوع ، فإنما يتقدمون إلى ساحة الإسلام. وهذا في حد ذاته إعجاز عظيم للإسلام.



التحدي القرآني:
إذا كان أحد ينكر معجزة القرآن الكريم هذه فيمكن أن نختبره في أمر واحد فقط، أعني أن الذي يزعم أن القرآن ليس بكلام الله ، فعليه أن يكتب، في عصر النور والعلوم هذا، الأدلة على وجود البارئ تعالى، ونحن بدورنا سوف نستخرج له كل تلك الأدلة من القرآن الكريم. ولو كتب أدلة مماثلة ثم ادّعى أنها لا توجد في القرآن ، فسوف نستخرج له كل تلك البراهين من القرآن نفسه، ثم لو كتب أدلة أخرى مدعيا أنها لا توجد في القرآن الكريم ، أو كتب حقائق وتعاليم مقدسة زاعما أن لا أثر لها في القرآن، فسوف نثبت له بكل جلاء مدى صدق دعوى القرآن الكريم: فِيهَا كُتُبْ قَيِّمَةٌ ( البينة : ٤). أو لو أراد أن يكتب الأدلة على الدين الحقيقي الفطري، فسوف نكشف له إعجاز القرآن الكريم من جميع النواحي، ونريه أن كافة الحقائق والتعاليم الحقة موجودة بين دفتي القرآن الكريم.
باختصار، إن القرآن الكريم كتاب يحوي المعارف والأسرار بكل أنواعها، ولكن الاطلاع عليها يتطلب تلك القوة القدسية التي أشار الله إليها بقوله: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة : ۸۰) .

كذلك من المحال أن يُبارى القرآنُ الكريم في فصاحته وبلاغته. خذوا سورة الفاتحة مثلاً، فلو غيّرنا ترتيبها الحالي لاستحال بيان ما فيها من معان سامية ومقاصد عظمى تتبين بترتيبها الحالي. بل خذوا أي سورة قرآنية، بل خذوا مثلاً سورة : قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ أيضا ، فإن المعارف والحقائق التي احتوتها هذه السورة بمنتهى اللطف والروعة لا يقدر أحد على بيانها. إنما هذا من إعجاز القرآن فقط. تأخذني الحيرة حين يقول بعض الجهلة أن المقامات الحريرية أو المعلقات السبع لا نظير لها ولا مثيل، وذلك لكي يهاجم حقيقة كون القرآن منقطع النظير. إن هؤلاء لا يدرون أن صاحب المقامات الحريرية لم يدع قط أنها عديمة النظير. هذا أولاً، وثانيا: كان الحريري نفسه معترفا بإعجاز فصاحة القرآن الكريم. وثالثا : إن هؤلاء الطاعنين لا يأخذون في الاعتبار ما في القرآن من حق وصدق، وإنما يأخذون الكلمات وحدها في الحسبان. والحق أن الكتب المذكورة أعلاه خالية من الحق والحكمة.


ميزة الإعجاز:
إنما ميزة الإعجاز وسببه أن يكون الكلام متحليا بكل أنواع المحاسن من فصاحة وبلاغة وصدق وحكمة. وهذه المعجزة لا توجد إلا في القرآن الكريم الذي هو واضح وضوح الشمس ومزود بقوة إعجازية من كل النواحي. إن القرآن لا يقوم على ثرثرة اللسان كالإنجيل الذي قال: "مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوّلْ لَهُ الْآخَرَ أَيْضًا، إِنْجِيلُ مَتَّى ٥  ٣٩ . دون أن يراعي مدى انسجام هذا التعليم مع الحكمة والفطرة. وعلى النقيض ، لو قرأت القرآن الكريم لأدركت أن أفكار البشر لا تقدر على الإحاطة بالنواحي كلها كما فعل القرآن، وأن هذه التعاليم القرآنية الكاملة المنزهة عن النقص والعيب يستحيل أن تكون نتاج عقول أهل الأرض. إذا كان أمامنا ألف مسكين، فهل يجوز لنا أن نعطي بعضهم شيئا ولا نفكر في الآخرين ونهملهم تماما؟ ولكن هذا ما فعل الإنجيل، فقد ركز على جانب واحد فقط، مهملاً الجوانب الأخرى تماما. إلا أننا لا نتهم الإنجيل في ذلك، إذ نزل هذا التعليم عقابًا على سوء أعمال اليهود، وجاء الإنجيل بما يتفق مع كفاءاتهم، كما يقال عندنا: "كيفما تكون الأرواح، تكون معها الملائكة . فأي ذنب في ذلك للإنجيل؟



تعاليم الإنجيل مختصة الزمان:
ثم هناك قانون آخر، وهو كون الشيء مختصا بمكان وزمان وقوم. نجد الإنجليز أيضا يسنّون بعض القوانين التي تكون مختصة بمكان وزمان، ولا يكون لها أثر فيما وراء ذلك. وكان الإنجيل قانوناً مختصا بعصره ولم يكن عاما. أما القرآن، فنطاق تعاليمه واسع جدا، فهو قانون أبدي لن يتبدل إلى يوم القيامة، وهو لكل قوم ولكل زمان ومكان. قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (الحجر: (۲۲)، أي إنما ننزل من كنوزنا بقدر معلوم. جاء الإنجيل لسد حاجة ذلك العصر فقط، ولذلك يمكن تلخيصه في صفحة واحدة فقط.



القرآن الكريم للعصور كلها :
أما القرآن الكريم فكانت غايته إصلاح العصور كلها. كان هدفه الارتقاء بالإنسان من حالته الوحشية ليكون إنسانا، ثم إنسانًا مهذَّبًا متحلّيا بالآداب الإنسانية، لكي يكون قادرًا على العمل بحدود الشرع وأحكامه، ثم ليكون إنسانا ربانيا. إنها كلمات موجزة إلا أن لها آلاف الفروع والشعب. لما كان اليهود والطبيعيون والمجوس وغيرهم من الأمم يعيشون عيشة انحراف وسوء، فخاطبهم النبي جميعا بإعلام رباني وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (الأعراف : ١٥٩)، فكان لزاما أن يكون القرآن الكريم جامعا للأحكام الصادرة في الماضي من حين لآخر، وشاملاً لكافة الحقائق التي وصلت من السماء إلى أهل الأرض على أيدي الأنبياء عبر العصور الغابرة. لقد أخذ القرآن الكريم في الحسبان جميع البشرية، لا أمة معينة أو بلدًا خاصا، أو عصرًا خاصا، أما الإنجيل فكان جُلُ اهتمامه بأمة معينة، ولذلك قال المسيح ال مرارا : "لَمَّ أُرْسَلْ إِلا إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ."
"إنجيل مَتَّى ١٥  ٢٤.


ضرورة القرآن بعد التوراة:

يقول البعض: ما الجديد الذي أتى به القرآن، إذ ليس فيه إلا ما في التوراة؟! إن هذا الاعتراض ناشئ عن قصور نظر ، وهذا ما شجع بعض المسيحيين على كتابة مقالات مثل عدم ضرورة القرآن". ليتهم أُعطوا نصيبًا من الفطنة والفراسة الحقة لكيلا يضلّوا . يقولون : ورد في التوراة لا تزنوا وكذلك ورد في القرآن لا تزنوا، ويعلّم القرآن وحدانية الله، كما تعلّم التوراة عبادة الإله الأحد، فما هو الفرق بينهما إذن؟ هذا السؤال معقد جدا في بادئ النظر، ولو وُجّه إلى شخص لا علم له لأصابه الذعر. الحق أن الرد على مثل هذه الأسئلة الدقيقة والمعقدة محال إلا بفضل خاص الله تعالى. وهذا هو السبيل لانكشاف المعارف القرآنية التي تنكشف في حينها. الواقع أن هناك توافقًا بين القرآن الكريم والتوراة لا ننكر ذلك، ولكن التوراة ذكرت الأحكام فحسب، دون بيان الأدلة والبراهين عليها ولا شرحها، أما القرآن الكريم فقد ذكر الأحكام بأسلوب معقول . ذلك أن كفاءات الناس عند نزول التوراة، كانت لا تزال ذات صبغة همجية. أما عند نزول القرآن، فكانت كفاءات الناس متصبغة بصبغة المعقولية ،  
فاتبع القرآن أسلوبا يكشف فوائد الأخلاق، وبيَّن ما في الأحكام من حكم ومنافع، ولم يكتف القرآن ببيانها فحسب، بل ذكرها بأسلوب منطقي مصحوب بأدلة وبراهين، لكيلا يبقى أمام الذين يُعملون عقولهم مجال للإنكار.

وكما قلت: إن كفاءات الناس عند نزول القرآن تطورت وأخذت طابع المعقولية والمنطق، أما في زمن التوراة ، فكانت متصبّغة بصبغة الوحشية. لقد ظلت الكفاءات البشرية تتطور عبر العصور منذ آدم إلى أن اكتمل تطورها في عصر القرآن الكريم.

لقد ورد في الحديث الشريف أن الزمان مستدير، وقال الله تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) (الأحزاب: ٤١).

 والضرورات بمنزلة محرّك للنبوة ، والليالي المظلمة تجذب ذلك النور الذي ينجي العالم من الظلام، ووفقًا لهذه الضرورة ،بدأت سلسلة النبوة، ولما وصلت النبوة إلى زمان القرآن اكتملت، وكأن كل الضرورات قد سُدَّت، فاستلزم ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء. إن من أكبر وأوضح الفروق بين تعاليم التوراة والقرآن أنه قدم الأدلة والبراهين التي لم تمسسها التوراة مطلقا.


الفرق الثاني بين التوراة والقرآن:
والفرق الثاني أن التوراة إنما وجّهت خطابها إلى بني إسرائيل فقط، لم تتوجه إلى الأمم الأخرى بتاتا، ولهذا السبب لم تهتم بتقديم الأدلة والبراهين، لأنها لم تأخذ في الحسبان أي فرقة أو طائفة أخرى كالملحدين والفلاسفة والبراهمة وغيرهم. أما القرآن الكريم ، فكان خطابه موجهًا إلى الملل والطوائف كافة وكانت الضرورات كلها قد اكتملت بنزوله، ولذلك تناول بيان العقائد والأحكام العملية أيضا بأسلوب منطقي. فقال الله تعالى في القرآن الكريم: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ﴾ (النور : (۳۱)، أي قُل للمؤمنين: أن لا يمدوا عيونهم إلى أماكن سترهم، وأن يحافظوا على كل فروجهم الأخرى أيضا . على المرء أن ينظر بنظرة فاترة لكيلا يقع في الفتنة برؤية النساء غير المحارم . علما أن الأذن أيضا من الفروج، حيث يسمع بها المرء القصص ، فيقع في الفتنة، ولذلك أمر الله المؤمنين بحفظ الفروج كلها من الأمور التافهة، وقال: ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ﴾ (النور: (۳۱)، أي أن هذا خير لكم وأدعى لطهارتكم بأعلى المستويات ، بحيث إذا عملتم به، فلن تكونوا من أهل الفحشاء.



القرآن بنفسه يقدم براهين صدقه:
انظروا إلى هذا الحكم الذي كان موجودا في التوراة بكلماته، إلا أن القرآن الكريم ذكره مقرونا بشرح واف مع أدلة وبراهين. وهذا هو الإعجاز القرآني، حيث لا يدع أتباعه بحاجة إلى أحد ، بل يذكر بنفسه الأدلة والبراهين لهم ، فيغنيهم عن الآخرين.
لقد ذكر القرآن الأحكام مع أدلتها ، وساق على كل حكم أدلة مستقلة. باختصار، هذان هما الفرقان الكبيران بين التوراة والقرآن الكريم، فالكتاب الأول لا يذكر دعواه مقرونة بالأدلة، بل على القارئ أن يبحث عن أدلتها بنفسه، أما الكتاب الثاني فيقدم دعواه مع الأدلة بكل أنواعها، ولا يُكره المرء على قبول أحكام الله قهرا ، بل يجعله يقول بطيب نفسه: قد صدّقتُ وآمنتُ، ولكن لا بالإكراه والجبر، بل باستدلاله اللطيف وبسيادة الفطرة. كانت رسالة التوراة موجهة إلى فئة معينة، لكن القرآن يخاطب كافة الناس إلى يوم القيامة. فأخبرونا الآن: كيف تكون التوراة والقرآن شيئا واحدا، ولماذا لا تمس الحاجة إلى نزول القرآن رغم وجود التوراة؟ عندما يقول القرآن الكريم: لا تزنوا، فكلامه موجه إلى الناس كافة، وعندما تقول التوراة: لا تزنوا، فكلامها موجه إلى بني إسرائيل فحسب. وفي هذا أيضا دليل على أفضلية القرآن الكريم، شريطة أن يكون المرء يملك فراسةً وقلبا خاشعا.


الخوارق المادية والروحانية:
هذا، ومن الفروق العظيمة بين التوراة والقرآن أنه يحوي الخوارق المادية والروحانية كلتيهما، وإن معجزة شق القمر هي من قبيل المعجزات المادية.


حصر النواميس الطبيعية محال:
يطعن بعض الجهال في معجزة شق القمر ، متذرعين بالنواميس الطبيعية، ولكنهم لا يدرون أن قدرات الله ونواميسه أسمى من الإحاطة والتقدير. آه، إنهم يقولون بأفواههم الله الله من ناحية ، ومن ناحية أخرى ينسونه تماما، دع عنك أن تخرّ قلوبهم أرواحهم ساجدة برؤية قدرات الله العظيمة، والتي هي وراء الوراء. لو كانت قدرات الله محصورة فيما تصل إليه أفكارنا وتقديراتنا، فأي حاجة للدعاء؟ كلا. وها إني أخبركم أنه ليس بوسع أحدٍ الإحاطة بقدرات الله وإراداته، ومن ادعى ذلك فهو ينكر الله تعالى. ويل لجاهل يؤمن بأن الله تعالى يملك قدرات غير محدودة، ثم يقول أن معجزة شق القمر منافية للنواميس الطبيعية. اعلموا أن هذا الشخص لا يملك فكرًا سليما ولا قلبا بصيرا. اعلموا جيدا أنه لا ينبغي لكم الاعتماد على نواميس الطبيعة أبدا، أعني لا تحدُّوها بحدود، ظانين أن أسرار ألوهية الله تنتهي هنا، إذ لو كان الأمر مقتصرا على ذلك، فهذا يعني أنكم قد أحطتم بألوهيته تعالى إحاطة كاملة. كلا، فإياكم وهذه الجسارة والجرأة التي تُسقط المرء من مقام العبودية، ويكون مالها الهلاك. ما كان لمؤمن أن يرتكب حماقة الزعم بحصر قدرات الله وتحديدها. وما أصدقَ الإمام فخر الدين الرازي في قوله بأن الذي أراد أن يقيس قدرات الله تعالى بمقياس العقل فهو أحمق. انظروا: إن الله تعالى قد خلق الإنسان من النطفة. إن التفوه بهذه الكلمة سهل ، ويبدو الأمر عاديا جدا، لكن الواقع أن خلق الله الإنسان من قطرة ماء وتزويده بهذه القوى، إنما هو سر من الأسرار . فهل بوسع العقل أن يدرك كيفية هذا السر وكُنْهه؟ لقد بذل الطبيعيون والفلاسفة كل ما في وسعهم، ولكنهم لم يستطيعوا معرفة هذا السر . كذلك، فكل ذرة في الكون تابعة لله تعالى، والله قادر على إظهار أمر خارق دون أن يختل نظام الكون الظاهري. إن العارفين يدركون هذه الأمور جيدا ويستمتعون بها ، ولكن بعض الناس يعترضون على أمور بسيطة ویرتابون. فمثلا: لم تحرق النار إبراهيم ، وهذا الحادث مشابه لواقعة شق القمر. إن الله تعالى يعلم جيدا متى تحرق النار وبأية أسباب تخمد. لو اخترعت مادة واقية من حرق النار، أو علموا بها هؤلاء القوم، لصدّقوا فورا بعدم إحراق النار، ولكن مثل هذا التصديق لا ييسر للمرء ميزة الإيمان بالغيب ومتعة حسن الظن؟ لم نقل قط أن الله تعالى لا يخلق الأسباب لفعل شيء، ولكن هناك أسباب تظهر للعيان وأسباب أخرى تظل خفية.
باختصار ، إن أفعال الله كثيرة وخارجة عن حد الإحصاء، وإن قدرته لا تعجز عن شيء أبدا، ولا يمسه من لغوب وتعب، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يس: (۸۰)، وهو القائل: (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ. ق :١٦). فليس بوسع البشر، مهما بلغوا من العقل والعلم أن يحصروا قدرة الله وأفعاله، ولا مناص لهم من الاعتراف بعجزهم تجاهها. تذكرت في هذه المناسبة واقعة يعلمها إخوتنا الأطباء هنا جيدا، وهي أنه جاءني شخص اسمه عبد الكريم، وكان في بطنه ورم يتعاظم إلى جانب مقعده، وقال الأطباء أن لا علاج للرجل، والأفضل أن يُقتل بإطلاق الرصاص عليه. قصارى القول، هناك أمراض كثيرة لا يعرف الأطباء ماهيتها جيدا. فمثلا : إن الطاعون أو الكوليرا هما من الأمراض التي حين يكلف الطبيب بعلاج المطعون يصاب بالهلع والهول مهما درس المرء من العلوم ومهما عكف على البحوث الفلسفية، فإنه سيدرك في النهاية أنه لم ينجز شيئا. ورد في الحديث أننا لا ندرك من معارف كلام الله وأسرار أفعاله إلا بقدر ما يأخذه العصفور في منقاره من ماء البحر. فكيف يحق للإنسان العاجز والفيلسوف أو العالم الأحمق المغرور بعلمه الناقص أن يعترض على فعل الله تعالى، ويحسب شق القمر منافيا للنواميس الطبيعية؟
نحن لا نمنع من الاعتراض. كلا، فليعترضوا كما يحلو لهم، ولكن يجب أن يضعوا في الحسبان أمرين اثنين. أولهما : خشية الله وقدرته غير المحدودة، وثانيهما: عجزُ الإنسان وعلمه المحدود. إن كبار الفلاسفة والعلماء أيضا قد اضطروا أخيرا للاعتراف بجهلهم. إن منتهى العقل يؤكد منتهى جهلهم دوما. خُذ الأطباء مثلا، فكلُّهم يعرفون ما هو العصبة المجوفة -هو اسم للعصب البصري المسؤول عن نقل الإشارات العصبية من شبكية العين إلى المخ الذي يقوم بدوره في التعرف على الأشياء المرئية وبهذا تبصر العين. (المترجم)-، ولكن لو سألتهم عن ماهية النور وكنهه أو سألتهم عن ماهية الصوت، لقالوا يحدث كذا وكذا على طبلة الأذن، ولكنهم لن يقدروا على بيان ماهية الصوت تمامًا أبدًا. ولو سئلوا عن سبب حرارة النار وبرودة الماء ، فلن يستطيعوا الرد أبدًا. الوصول إلى كُنْهِ الأشياء ليس بوسع حكيم أو فيلسوف أو عالم. فمثلا: تنعكس صورتك في المرآة ، ولكن لا يُفصل رأسك ليدخل المرآة، بل يرى وجهك في المرآة وأنت سالم. فاعلموا أن الله تعالى يعلم جيدا أنه من الممكن أن ينشق القمر بدون أن يقع أي خلل في نظام العالم. الواقع أن كل هذا يتعلق بخواص الأشياء، ولا يسع أحدا أن ينبس ببنت شفة في هذا الموضوع. لذا ، فإن إنكار الخوارق والمعجزات الإلهية نتيجة الاستعجال إنما هو دأب الجاهلين.



تحديد قدرات الله وعجائبه ليس معقولا:
ليس من الفطنة اعتبار قدرات الله وعجائبه محدودة . إن الناس لا يدركون ماهية أنفسهم هم ولا يستوعبونها، ومع ذلك يقحمون آراءهم في أمور سماوية مستعجلين!

وفي مثل هؤلاء قيل:
تو کارِ ز میں را نکو ساختی که با آسمان نیز پرداختی
أي: لم تصنع أنت ما في الأرض، حتى تتدخل في أمور السماء!

على المرء ألا يحاول التدخل فيما هو خارج نطاق وسعه. لا يعرف الأطباء أسباب كثير من الأمراض والأسقام وعوارضها ، فهل يليق بالمرء مع هذا العجز والضعف، أن يتدخل فيما ليس في نطاقه؟ كلا، إنما العبودية أن يكون مع الذين قالوا: سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا ﴾ (البقرة : ٣٣) . انظروا إلى النجوم، هذه الأجرام الهائلة، كيف أنها معلقة في جو السماء بدون أية أعمدة، ثم إن السماوات نفسها معلقات هكذا من ملايين السنين بغير عمد ولا سند. يطلع القمر بجماله وصفائه كل يوم، وتسطع الشمس كل يوم، وتسير في مدارها بسرعة مضبوطة تماما. أما أعمالنا، فنرتكب فيها بعض الأخطاء حتما، ولكن انظروا إلى أفعال الله العجيبة، إذ لا تبرح الشمس والقمر سائرين على منوال واحد بدون أي خلل . ولو فكرتم كل يوم كيف أن الشمس تطلع في موعدها يوميا؟ وكيف تدلّنا على شتى الجهات؟ لأصابكم الذهول. تطرأ علينا تغيرات شتى، ولكن الشمس لا يطرأ عليها أي تغير. فمثلاً : لو أن الساعة التي تباع بألفي روبية دقت الساعةَ الثانية عشرة في وقت الساعة العاشرة، أو العاشرة في وقت الثانية عشرة، لعُدّت ساعةً رديئةً عقيمة الجدوى، ولكن انظروا كيف أن ساعة الله هذه لا تتعطل أبدا ولا تحتاج إلى تعبئة ولا تنظيف. هل تستطيعون إحصاء قدرات هذا الصانع العظيم. من المذهل حقا أن ثيابنا وأوانينا وغيرها من الأشياء تُستهلك بالتدريج نتيجة الاستعمال، وأن الأطفال يشبّون ويشيخون ويموتون، ولكن الشمس التي طلعت اليوم هي هي كما طلعت أمس، وتطلع هكذا منذ أزمنة غابرة سحيقة جدا، وستظل تعمل على هذا المنوال في المستقبل أيضا بدون أن تُستهلك أو يؤثر عليها كر الغداة ومَرُّ العشي. فمن الجسارة بمكان أن يهبّ الإنسان الذي هو بمنزلة دودة حقيرة، ويحاول الهجوم على الإله العظيم الرفيع الشأن، ويزعم أنه تعالى لا يقدر على فعل كذا وكذا.


هدف معجزات الأنبياء عليهم السلام:
إن إله الإسلام إله قدير، ولا يحق لأحد الطعن في قدراته. المعجزات التي يعطاها الأنبياء عليهم السلام، إنما سببها أن تجارب الإنسان لا تساعده على معرفة الله تعالى، ولكنه عند رؤية الأمور الخارقة على الأقل - يضطر للاعتراف بأنها من الله تعالى.
أما لو اتكل على عقله فقط، ولم ير حاجة إلى تفهيم من الله تعالى، لانسد عليه الطريق من الجانبين. إن إنكار الإنسان الجاهل للمعجزات من جانب ، واتكاله على عقله الناقص من جانب آخر، يدفعه إلى التفكير في معرفة كنه الدقائق الكامنة في المعجزات، والتي يستحيل انكشاف حكمتها على عقله الأرضي وأفكاره السطحية، فيدفعه إصراره على إنكارها إلى إنكار النبوة نفسها، ويجمع عنده كما كبيرا من الشكوك والشبهات التي تلقيه في الشقاوة في آخر المطاف حتمًا. فأحيانا يقول: إن هذا بشر مثلنا، يأكل ويشرب ويحتاج إلى ما يحتاج إليه سائر البشر، فأنى له أن يكون أكثر منا كفاءاتٍ ومواهب ، وأقوى منا روحانيةً، وأكثر منا استجابةً للدعاء؟ فيا أسفا عليهم، إنهم يتكلمون بمثل هذا الكلام معترضين، مما يدفع بهم إلى إنكار النبوة أصلا. كما قلت آنفًا . أليس غريبا أنهم لا يؤمنون حتى إيمانا بسيطا، ومع ذلك يطعنون طعنا شديدا. إذا لم يكن قولهم هذا إنكارًا متعمدا وصريحا لوجود الأنبياء أنفسهم، فما هو إذن؟ هل يفخرون بهذه العقول والأفهام التي جعلتهم ملحدين رغم ادّعائهم أنهم علماء وفلاسفة. الحق أن قدرات الله الخفية لا تتجلى من دون الوحي والإلهام أبدا ، كلا، إنما تتجلى في زي الوحي والإلهام نفسه.

إنما العاقل من يعرف النبي:
 إنه لمن فضل الله ومقتضى رحمانيته أنه يرسل أنبياءه إلى الدنيا، والعاقل من يعرف النبي، لأنه بذلك يعرف الله تعالى ، والأحمق من يكفر بالنبي، لأن إنكار النبوة مستلزم لإنكار ألوهية الله. ومَن يعرف الولي فهو يعرف النبي. وبتعبير آخر، إن النبي بمنزلة الوتد للألوهية، والولي وتد للنبوة. فكّروا مليا بهدوء، كيف أن الله تعالى بدأ أمر الإسلام في الدنيا قبل ثلاثة عشر قرنا على يد نبينا ، والآن وبعد انقضاء ۱۳ قرنا - بل بعد انقضاء ١٥ عاما من القرن الرابع عشر أيضا لو عرضت الإسلام على الآريين والبرهمو والهندوس والطبيعيين والمسيحيين فإنهم يضحكون ويسخرون منه. لقد أصبح تقديم هذه القضايا وإقناع الناس بها أمرا معقدا جدا في الوقت الراهن العصيب الذي كثرت فيه الفِرق والمذاهب بسب انتشار ضوء العلوم الجديدة من ناحية، وبسبب حدوثِ ثورة في الطبائع من أخرى ، وأَخَذَ الناس يعتبرون الإسلام وتعاليمه أساطير الأولين. ولكن الله تعالى
كان قد تكفل بحماية القرآن والإسلام، إذ وعدَ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: ۱۰)، وهكذا نجى المسلمين من المصيبة وجنبهم الفتنة. فطوبى للذين يقدرون ظاهرة الوحي والإلهام وينتفعون بها. لا شك أنه لو لم يكن هناك ثبوت ودليل حي على هذا الأمر ، فيسيء الناس الظن في نفوسهم، ويتبرأون من القرآن والإسلام باعتباره أسطورة فارغة ، كما هو دأب طبائع البشر المائلة إلى سوء الظن في استعجال، فمثلا: لو حصل صوتُ شيء داخل غرفة، ظنَّ الواقفُ خارجها من تلقائه أن بداخلها شخصا، ولكنه لو انتظر يومين أو ثلاثة ولم يخرج من الغرفة أحد، لغيّر ظنه ، وأدرك بدون أن يدخل الغرفة أنه لو كان فيها إنسان لخرج منها لسدّ حاجاته من أكل وشرب وغيرهما. فلو لم تظهر في عصر الفلسفة والعلم والنور هذا أنوار النبوة وبركاتها التي تظهر على شاكلة وحي الولاية، لعَدَّ أولاد المسلمين الإسلام والقرآن قصةً وأسطورةً فارغة رغم عيشهم معهم في بيوتهم، ولم يبق لهم صلة بالإسلام بتاتا، ولأخذَ الإسلام في الانقراض باستمرار. ولكن كلا، فما كانت غيرةُ الله وحماسه لإيفائه بوعده لترضى بهذا الأمر.



سبب تسمية القرآن ذكراً : 
وكما قلت آنها فقد سبق وعد الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر: ۱۰) انظروا: لقد سمى الله تعالى القرآن هنا " الذكر"، ذلك لأنه يذكّر بالشريعة الكامنة في فطرة الإنسان. علما أن استعمال المصدر مكان اسم الفاعل يفيد المبالغة، ومثاله قولنا: زيدٌ عَدْلٌ، أي أنه جِدُّ عادل. الواقع أن القرآن الكريم لم يأت بشرع جديد، وإنما يذكرنا بالشرع الكامن في الفطرة الإنسانية على شاكلة شتى القوى والكفاءات من حِلْم وإيثار وشجاعة وجبر وغضب وقناعة وغيرها. باختصار، إن القرآن جاء ليذكرنا بفطرتنا الكامنة في جبلتنا، كما قال الله تعالى: في كِتَابِ مَكْنُونِ (الواقعة : (۷۹) ، أي أنه ذلك الكتاب الكامن في صحيفة الفطرة الإنسانية، ولكن لم يكن بوسع كل إنسان أن يراه. كذلك قد جاء في وصف هذا الكتاب أنه "الذكر"، وذلك ليُذكر الإنسان عند قراءته بما أُودعت فطرته من قوى باطنية وروحانية ونور قلب، هبةً من السماء.
باختصار، قد أرى الله تعالى بإنزال القرآن الكريم معجزة روحانية، ليكتشف الإنسانُ تلك المعارف والحقائق والخوارق الروحانية التي لم يكن يعلمها من قبل. ولكن المؤسف أن المسلمين نسوا علّة نزول القرآن المذكورة في قول الله تعالى: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة : (۳)، ويعدّونه مجموعة قصص فارغة فحسب، ويعرضون عنه بغاية الإهمال والأنانية باعتباره أساطير الأولين، وذلك كما فعل مشركو العرب. ذلك العصر كان عصر بعثة الرسول الله ونزول القرآن الذي جاء يذكر الناس بالحقائق المفقودة، أما هذا العصر فهو الزمن الذي تنبأ عنه النبي وقال: إن أهل ذلك العصر سيقرأون القرآن ولكنه لن يجاوز حناجرهم. وترون بأم أعينكم اليوم كيف أن الناس يقرأون القرآن بألحان عذبة وبطريقة رائعة، ولكنه لا يجاوز حناجرهم.


جاء معلم من السماء في هذا العصر:
 وكما أن القرآن الكريم الذي اسمه الآخر هو الذكر - نزل في العصر الأول لتذكير الناس بما في فطرتهم من قوى كامنة وحقائق منسية، كذلك في هذا العصر أيضا، وبحسب وعد الله الموثق: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر: ١٠) ، قد جاء معلّم من السماء، وهو المصداق لوعد الله تعالى في قوله: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ. (الجمعة: (٤) ، وهو ذلك الذي يتكلم بين ظهرانيكم الآن.
 وأعود ثانية إلى نبوءة الرسول الله هذه وأقول : لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم مشيرا إلى هذا العصر بأن الناس سيقرأون القرآن، ولكنه لن يجاوز حناجرهم، فترون كيف إن معارضينا بل الأحرى أن أقول - كيف إن هؤلاء الذين لا يقدرون وعود الله ولا يعيرون أقوال النبي بالا ، يقرأون بملء حناجرهم وبألحان عجيبة غريبة قول الله تعالى: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ . آل عمران: ٥٦)، وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي (المائدة : (۱۱۸) ، ولكنهم لا يفهمونه. والمؤسف أن أحدا لو أراد تفهيمهم ذلك نصحًا لهم وشفقةً عليهم، فلا يسعون لفهمه . إذا كانوا لا يريدون أن يتفهموا منه شيئًا، فليصغوا إلى كلامه على الأقل. وهيهات أن يفعلوا ذلك، إذ ليس لهم آذان يسمعون بها، ويعوزهم الصبر وحسن الظن. لولا أن الله تعالى اهتم بأهل الأرض من فضله، لَعُدّ الإسلام في هذا العصر ميّتًا وأسطورة كالديانات الأخرى. لا يقدر أي دين من هذه الأديان الميّتة على أن يهب الناس الحياة، ولكن الإسلام مستعدّ ليهب الحياة اليوم. غير أن السنة الإلهية أنه تعالى لا يعمل شيئًا من دون الأسباب، بغض النظر عما إذا كانت هذه الأسباب مرئية لنا أم لا ، إلا أنها تكون موجودة حتما. كذلك تنزل من السماء أنوار تتحول بعد وصولها إلى الأرض أسبابا. عندما وجد الله تعالى عصر النبي صلى الله عليه وسلم في ظلام وضلال ، وأحاطت غيوم الغواية والظلمة بالدنيا من كل طرف وصوب، أشرقَ على قمم فاران سراج منير، أعني بعث نبينا لتبديد هذه الظلمة ، وتحويل هذه الضلالة إلى الهداية والسعادة.



ضرورة مصلح في العصر الراهن:
 كذلك في زماننا هذا كانت القوى الإيمانية قد ماتت وحل محلها الفسوق والفجور، وظهر الفساد في كل شيء سواء في معاملات الناس أو عباداتهم. لو كان الأمر متوقفا إلى هذا الحد لما كان هناك ضير ولا خطر، ولكن الأدهى من ذلك هو تلك الآفة الكبرى التي اضطررت للحديث عنها مرارا، وقد أحس بها كل قلب ناصح للإسلام أو يمكن أن يحس بها، ألا وهي ذلك التأثير السام الذي تتركه العلوم الطبيعية والطبية والفلكية والفلسفة الباطلة على الإسلام وأهله اليوم. أما المشايخ، فلا يتوجهون إلى هذا الأمر، وأنى لهم ذلك، وهم مشغولون بالحروب والخصومات والتكفيرات الجارية فيما بينهم؟ وأما الزهّاد، فلو أنهم عكفوا على الدعاء والابتهال في خلواتهم، لكان لذلك شيء من التأثير الطيب، ولكنهم منهمكون في توطيد مشيختهم وفي نقاشات حول جواز السماع وما إلى ذلك. لقد حلت محل التصوّف الحقيقي الآن تقاليد ورسوم فارغة لا أثر لها في القرآن والسنة. باختصار، لا ينفك الإسلام يصبح كل يوم غرضًا لسيوف الجهلاء والسفهاء من كل طرف وصوب. في هذا الوقت، قد بلغت الدواعي لظهور مصلح ومجدد ذروتها، فكل امرئ قد اختار لنفسه ديانة جديدة في الواقع. ونظرًا إلى هذه الأمور والأوضاع ، كان يخيل للمرء أن نهاية الإسلام وشيكة. من عادة الأطباء أنهم إذا رأوا أن مريض الهيضة قد برد جسده كالثلج أو أنه قد أصيب بالسرسام -هو وَرَمٌ في حجاب الدماغ يتسبب في حدوث حُمَّى دائمة، وتتبعها أعراض رديئة كالسهر واختلاط الذهن. (المترجم)-، فإنهم يقولون لأهله أن لا علاج له الآن، ثم يتسللون من عندهم، والحدّاق من الأطباء أيضا يبدون يأسهم وقنوطهم برؤية أعراضه الرديئة ، ولا جرم أن الإسلام في هذا العصر قد وصل من حالته التعيسة ما يبعث على اليأس والقنوط ، ولو كان من نتاج أفكار البشر أو ثمرة مساعيهم لصار بقاؤه أمرًا صعبًا جدا، لما تلقاه من ضربات من كل طرف وصوب جراء المصاعب والمحن، إذ كان أعداؤه ولا يزالون يبذلون كل ما في وسعهم للقضاء عليه، كما أنه أصبح ضعيفا من داخله بسبب نفاق أهله، فلا تحلّ سَنةٌ جديدة إلا ويلجأ الأعداء إلى أسلوب جديد للهجوم على الإسلام، ولا يُخترع مخترع أو آلة إلا يتخذون المبادئ التي اتبعوها في اختراعه ذريعةً للهجوم على الإسلام.


التقدم العصري معجزة للإسلام:
 باختصار، في وقت هذه الفتنة، كاد الأعداء يتحدون فيردوا المسلمين عن دينهم دفعة واحدة ، ولكن يد الله القوية ظلت تساند الإسلام، وهذا في حد ذاته دليل آخر على صدق الإسلام . الحق أن التقدم العلمي المعاصر يشكل معجزة للإسلام. انظروا كيف بذل الأعداء كل ما عندهم من قوة وشوكة بل بكل نفس ونفيس للقضاء على الإسلام، ولكن الله تعالى أنقذه من الهلاك وفقًا لوعده: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ (الحجر : ١٠)، أي أن الله بنفسه سوف يذكر الناس بتلك النقوش المنقوشة في فطرتهم، وأنه هو الذي سينقذ الإسلام من الخطر. كانت سفينة الإسلام قد وقعت في خطر كبير بسبب هجوم القسيسين الذين أنفقوا في هذا السبيل الملايين، وأغروا الناس بالمال والوعد، حتى لم يتورعوا عن أن يعرضوا عليهم ملذات النفس المخجلة لكي يسيئوا الظن بالإسلام، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يقومون بتشويه عقائد الإسلام. خذوا مثلا صلاة الاستسقاء التي تصلى عند شح المطر ، ولو أنهم نجحوا غدًا في سعيهم لإنزال المطر، كما يسعى بعضهم في أمريكا وغيرها في هذه الأيام، فإنّ ركنا من الإسلام يتهدم بذلك في زعمهم! فإلامَ أُسهبُ في هذا البيان؟ الإسلام عرضة للهجوم من كل طرف وصوب، وتُبذل جهود مستميتة لتشويه سمعته، ولكن ما عسى أن تفعل خطط الأعداء ومؤامراتهم، فإن الله تعالى يريد أن يتولى بنفسه حمايته من هذه المكايد، وإنه تعالى لم يخذل الإسلام في عصر التقدم هذا بل حفظه وحقق ما وعد به رسوله الصادق، وجلى حقيقة نبوءاته المباركة، وأقام في هذا القرن شخصا من عنده، وأقول لكم مرة بعد أخرى، إنه ذلك الذي يتكلم بين ظهرانيكم. إنه سينفخ في الإسلام روح الصدق. إنه ذلك الذي يأتي من السماء بالحقائق المفقودة ، ويبلغها الناس، ويبرئهم من سوء الظن وضعف الإيمان.



سوء الظن:
إن سوء الظن مرض خطير وبلاء عظيم يُعمي الإنسان ويُلقيه في هوة الهلاك المظلمة. إن سوء الظن هو ما دفع إلى عبادة إنسان ميت، وإن سوء الظن هو ما يجعل الناس متعطلين من التخلق بأخلاق الله من رفق ورحمة ورزق وغيرها – والعياذ بالله - وكأنهم أشياء رديئة لا تصلح لشيء. باختصار، إن سوء الظن نفسه يملأ معظم الجحيم، بل لو قلتُ إنه يملأ الجحيم، فلن أكون مبالغا في قولي هذا. إن الذين يسيئون الظن بالمبعوثين الربانيين يحتقرون أفضال الله وآلاءه تعالى. باختصار، إن رفض أحد أمرنا هذا الذي أقامه الله بيده فنتأسف عليه قائلين: آه، إن روحًا تطرق باب الهلاك. إن أمرنا يبلغ من الوضوح والجلاء بحيث لو أن أحدًا استمع إلى أقوالنا بقلب واع لساعتين فقط، لوجد الحق.


المعجزات الخلقية للنبي:
 أود الآن أن أختم كلمتي بتناول بضعة أمور أخرى. وأعود ثانية إلى موضوع المعجزات لبعض الوقت، وأقول : إن الخوارق أنواع، أولها: الخوارق ذات الصبغة العلمية كمعجزة شق القمر وغيرها وثانيها معجزات بيان الحقائق والمعارف، وثالثها: المعجزات الخلقية. والكرامات الأخلاقية قوية التأثير جدا. إن العلماء والفلاسفة لا يمكن أن يطمئنوا بالمعارف والحقائق ولكن الأخلاق السامية تترك فيهم وقعا عظيما وعميقا. ومن معجزات نبينا الخلقية أنه كان نائما تحت شجرة ذات مرة، فاستيقظ فجأة على سماع ضجة، فإذا بأعرابي همجي يقف على رأسه، مصلتا سيفه وقال : يا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أخبرني من سينقذك مني الآن؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم لما كان عنده من طمأنينة كاملة وسكينة صادقة : الله . ولم يتكلم بهذه الكلمة كما يتفوه بها الناس العاديون، بل إن كلمة "الله" هذه التي هي عَلَمٌ لذات البارئ، والتي هي جامعة للصفات الكاملة كلها - خرجت من قلبه الله ، ووقعت في قلب الأعرابي.
ويقال إن لفظ الجلالة "الله" هو الاسم الأعظم، وفيه بركات عظيمة، ولكن الذي قد نسی لفظ " الله " الله تعالى أَنَّى له أن ينتفع منها؟ باختصار، خرج من فمه بما أرعب الأعرابي ، فارتعشت يده وسقط منها السيف، فأمسكه النبي صلى الله عليه وسلم فورا، وقال للأعرابي: أَخْبِرْني الآن من سينقذك مني؟ فماذا عسى أن يقوله الأعرابي الجبان، فضرب النبي مثالا ساميا من الأخلاق الفاضلة ،حيث قال له: اذهب، فقد غفرت لك، وتعلَّمْ مِنّي المروءة والشجاعة. فكان لهذه المعجزة الخلقية من الوقع العظيم في الأعرابي أنه لم يلبث أن أسلم.

ورد في كتب السّير أن شخصًا جاءَ للقاء أبي الحسن الخرقاني، ولما رجع مِنْ عنده لَقِيَه أسد، فقال له: خَلِ سبيلي لوجه الله تعالى، ولكنه تقدّم إليه للهجوم، فقال له : خَلِ سبيلي لوجه أبي الحسن، فتركه الأسد فكدّر هذا الحادث صفو إيمان الرجل، فرجع إلى أبي الحسن وأخبره بهذه المعضلة. فأجابه أبو الحسن: ليس هناك أدنى إشكال في الأمر، إنما حصل هكذا لأنك لم تكن تعرف الله تعالى حق المعرفة، ولم تكن هيبة الله وجلاله مسيطرين على قلبك حقا، ولكنك كنت تعرفني أنا، وكانت لي مكانة في قلبك.
ففي لفظ الجلالة "الله" بركات ومزايا عظيمة شريطة أن يجعل المرء الله في قلبه وينقاد لأوامره تعالى.
ومن معجزات النبي الخلقية أنه كانت لديه شياة كثيرة، فقال له شخص: لم أرَ أحدًا يملك المال بهذا القدر ، فأعطاه النبي ذلك القطيع كله. فلم يتمالك الرجل نفسه، وقال من فوره: لا شك أنك نبي صادق، إذ يستحيل أن يصدر هذا السخاء إلا من نبي صادق.
باختصار، كان النبي متخلقا بأخلاق فاضلة جدا حتى قال الله تعالى بحقه في القرآن الكريم : إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) (القلم: ٥).



على جماعتنا أن يتطوروا خلقاً:
فحري بجماعتنا أن يتطوروا خُلُقًا، إذ يقال "الاستقامة فوق الكرامة". لو عاملهم أحد بقسوة ، فليردوا عليه برفق ولطف قدر الإمكان، ولا يلجأوا إلى القسوة والشدة على سبيل الانتقام. إن في الإنسان نفسًا، ولها ثلاثة أقسام: الأمارة واللوامة والمطمئنة. وصاحب النفس الأمارة لا يملك نفسه عند هيجان المشاعر والثوائر، فيخرج عن حد الاعتدال ويسقط أخلاقيا. أما صاحب النفس اللوامة ، فيتمالك نفسه. تحضرني هنا حكاية ذكرها "سعدي" في كتابه "بوستان"، وهي أن كلبًا عَضَ رجلاً صالحا، فعاد إلى البيت ، فعَلِمَ أهله أن كلبًا عضه، وكانت بينهم بنت صغيرة وبريئة، فقالت له: لماذا لم تعضه أنتَ؟ قال: يا ابنتي، لا يمكن للإنسان أن يعمل عمل الكلاب. هكذا يجب أن يتصرف المؤمن، فإذا شتمه شرير، فعليه أن يعرض عنه وإلا سينطبق عليه مثل الكلب المذكور آنفا. لقد تعرض المقربون إلى الله تعالى لشتائم بذيئة ، وأوذوا أذى شديدا، ولكن قيل لهم دوما: أَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ (الأعراف : الجَاهِلِينَ) (الأعراف: ۲۰۰). لقد أوذي الإنسان الكامل، أعني نبينا الأكرم أشد الأذى، وواجه أنواع السباب والبذاءة والوقاحة، فكيف تصرف ذلك الإنسان الذي كان خُلقًا متجسدا تجاه ذلك؟ لقد دعا لهم فقط. كان الله تعالى قد وعده أنه لو أعرض عن الجاهلين فسوف يعصمه ويحافظ على شرفه ولن ينجح هؤلاء السوقة في الهجوم عليه، وهكذا حصل تماما، إذ لم يتمكن المعارضون من المس بكرامة النبي الله قط ، بل خرّوا على قدميه أذلاء مهانين أو هلكوا أمام عينيه في نهاية المطاف.
فمن علامة النفس اللوامة أن صاحبها يُصلح نفسه في المواقف الصعبة أيضا. ترون يوميا أن جاهلا لو سبّكم أو شريرا أراد الشر بكم، فأعرضتم عنه، حافظتم على شرفكم، وكلما قاومتموه ،وخاصمتموه تضررتم وتعرضتم للإهانة.

أما صاحب النفس المطمئنة ، فيصبح مطبوعًا على فعل الحسنات والخيرات، وينقطع عن الدنيا وعن ما سوى الله كل الانقطاع. إنه يمشي في الدنيا ويلاقي أهلها ويجالسهم، ولكنه لا يعيش بينهم في الحقيقة، بل يعيش في عالم آخر، سماؤه وأرضه غير هذه السماوات والأرض.


بشارة عظيمة للجماعة الأحمدية:
قال الله تعالى في القرآن الكريم: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) (آل عمران : (٥٦) . لقد قطع هذا الوعد الباعث على الطمأنينة مع ابن مريم المولود في "الناصرة" ، ولكني أبشركم بأن الله تعالى قد خاطب وبشر بالكلمات نفسها ابن مريم هذا الذي جاءكم باسم يسوع المسيح. ففكروا الآن، هل يمكن للذين ما زالوا في درجة النفس الأمارة ويسلكون سبل الفسق والفجور أن ينالوا نصيبا من هذا الوعد العظيم والبشارة العظيمة بالانتماء إلي؟ كلا، ثم كلا، إنما يشارك في هذا الوعد أولئك الذين يقدرون وعد الله حق قدره ولا يعدّون كلماتي أسطورة فارغة. ألا فاسمعوا وعوا بآذان القلب ، وها إني أخاطب ثانيةً أولئك الذين ينتمون إلي وأقول: إن هذا الانتماء ليس عاديا، بل هو انتماء عظيم. إنه انتماء لا يظل تأثيره منحصرا في ذاتي، بل يصل تأثيره إلى ذات البارئ تعالى، الذي ربطني بذلك الإنسان الكامل المصطفى ، الذي جاء بروح الصدق والحق إلى الدنيا. لو كان تأثير هذه الأمور منحصرا في ذاتي لما أخذني هم ولا غم، ولم أكترث لها مطلقًا، ولكن هذا التأثير لا يبقى عندي ، بل يصل إلى نبينا ، بل إلى ذات الله العلي العظيم. وما دام الأمر كذلك، فاسمعوا وعوا جيدا: إنكم إن كنتم تريدون أن تنتفعوا من هذه البشارة وتتمنون أن تكونوا مصداقا لها، وتتعطشون حقًّا لتفوزوا بهذا الفوز العظيم - أعني أن تكونوا غالبين على المكفّرين إلى يوم القيامة ، فأقول: لن تنالوا هذا الفوز إلا إذا تجاوزتم مرحلة النفس اللوامة ووصلتم إلى منارة النفس المطمئنة.


لا أريد أن أزيد على قولي بأنكم قد ارتبطتم بشخص هو مأمور من الله تعالى، فأنصتوا إلى أقواله بآذان القلوب، واستعِدّوا للعمل بها بكل ما أوتيتم من قوة، لكيلا تكونوا من الذين يسقطون في نجاسة الإنكار بعد الإقرار ، ويشترون عذابا أبديا فقط .
تقرير الجلسة السنوية عام ١٨٩٧ ص ٦٢ - ١٠٠.




الملفوظات
۳۰ دیسمبر ۱۸۹۷
۹۷
المجلد الأول
الخطاب الثالث
لسيدنا المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام
بمناسبة الجلسة السنوية
شفقته العلمية ومواساته لأحبابه
قال العلمية:
كعلاقة الأعضاء بالجسد كله. ومن
تجاربنا
ينعم
التكلف
الواقع أن علاقة أصحابنا بنا هي اليومية أنه إذا اشتكى عضو صغير كالأصبع مثلاً من الجسد تداعى له الجسد كله. والله يعلم جيدا أنني أظل دائم التفكير والقلق على هذا النحو تماما، راجيا بأن أحبابنا بكل أنواع الراحة والرخاء وليس في هذه الشفقة والمواساة ذرة من والاصطناع، بل أجد في قلبي لوعة ومواساة تجاه أحبابي ولوجه الله تعالى، كالأم الرؤوم التي لا تبرح قلقة وساهرة على راحة وخير كل واحد من أولادها مهما كثروا. وإن مواساتي هذه اضطرارية حتى إنني عندما أقرأ في رسالة بعض أحبابي أنه مصاب بأذى أو مرض، فأفقد الراحة والقرار ويلازمني الهم والغم، وكلما كثر أحبابي عددًا
من
كثرت همومي، حتى لا يخلو وقت من أوقاتي من حزن وهم من أجلهم، لأن الطبيعي أن يكون البعض من أحبابي الذين عددهم كثير مصابا بهم وأذى، وعندما يبلغني خبره يصاب قلبي بالقلق وأفقد الراحة، ولا أستطيع أن أخبركم كم أقضي أوقاتي في الهموم. وبما أنه ليس هناك سوى الله تعالى من ينجي من الهموم والأحزان، فأظل منهمكا في الدعاء دائما. وإن أول أدعيتي إنما هو أن يحفظ الله أحبابي من
الملفوظات
۹۸
المجلد الأول الهموم والأحزان ، لأن همومهم وأحزانهم هي التي تصيبني بالغم. كما أني أواظب على الدعاء العام بأنه إذا كان أحد منهم في همّ أو أذى فلينچه الله منه. إنما أكبر حماسي
ونشاطي هو أن أدعو الله تعالى، وأعقد آمالا كبيرة على قبول الدعاء. مبادئ استجابة الدعاء
بل إن الله تعالى قد وعدني صراحةً وقال : أجيب كل دعائك". غير أني أدرك جيدا أن المراد من "كل" دعائك" هو كل دعاء يكون الضرر في عدم استجابته، أما إذا أراد الله تعالى تربية المرء وإصلاحه فإن رفضه لدعائه يكون هو الاستجابة. فأحيانا يصاب المرء بخيبة الأمل في دعاء معين ويظن أن الله تعالى قد رفض دعاءه، أنه تعالى يكون قد استجاب دعاءه وتكون الإجابة بصورة الرفض، لأن الخير مع كامن له في رفض دعائه في الواقع إن الإنسان قصير النظر ولا يفكر تفكيرا بعيد المدى، بل يتمسك بظواهر الأمور، فالأولى به أنه إذا دعا الله تعالى ولم يأتِ الدعاء بنتيجة مرضية، فعليه ألا يسيء الظن بالله تعالى فيقول بأنه تعالى لم يسمع دعائي. إن الله تعالى يسمع دعاء الجميع حيث قال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) (غافر: ٦١) ، ولكن السر في عدم استجابة دعاء المرء هو أنه في بعض الأحيان يكون الخير
والبركة كامنا للداعي في رفض دعائه.
هذه
هي
قاعدة الدعاء، فإن الله تعالى ليس تابعًا لرغبة الداعي وآماله. كم تحبّ
الأمهات أولادهن، وكم يردن أن لا يصيبهم أدنى أذى، لكن لو أصر الولد على أمر خاطئ، فطالب أُمَّه باكيا أن يمسك بيده سكينا حادة أو شعلة نار مثلا، فهل تسمح له الأم مع حبها الصادق وحرقتها الحقيقية له أن يمسك الشعلة ويحرق بها يده، أو يمسك السكين الحادة ويجرح بها يده؟ كلا. ومن هنا تستطيعون أن تفهموا مبدأ إجابة الدعاء. وإني صاحب خبرة بأنه لو كان في الدعاء ما هو ضار، فلا يستجاب أبدا. إننا يمكن أن ندرك جيدا أن علمنا ليس يقينيا ولا صحيحا، فكم
۹۹
الملفوظات المجلد الأول من عمل نعمله مسرورين باعتباره مباركا ونظن أن عاقبته ستكون مباركة جيدا، ولكنه يتحول في نهاية المطاف إلى هَمّ ومصيبة ملازمة لنا. قصارى القول، إننا لا نستطيع الجزم أن كل ما يريده المرء هو خير له كلا، بل الإنسان مركب من السهو والنسيان ، لذا يجب أن يكون بعض ما يريده ضارا ، وهذا هو الحق. لو قبل الله تعالى دعاءه كما طلب لتعارض هذا مع رحمة الله تعارضا صارخا. فمن الحقائق الثابتة اليقينية أن الله تعالى يجيب أدعية عباده ويشرفها بالقبول، لكنه لا يقبل كل رطب ويابس منها، لأن الإنسان لا يبرح يدعوه تعالى من فرط حماسه بغض النظر إلى العواقب، ولكن الله الناصح الحقيقي والعالم بالعواقب، يرفض دعاءه نظرا إلى ما في قبوله من مضار وعواقب وخيمة ورفضه لدعائه هو بمنزلة قبوله له. فالله تعالى يستجيب دعاء العبد ما دام قبوله سيحفظه من الآفات والصدمات، أما دعاؤه الذي فيه ضرر فيقبله الله تعالى برفضه له. لقد تلقيت الوحي التالي مرارا: "أجيب كل دعائك"، أي أن كل دعاء هو نافع ومفيد سوف يجاب. عندما أفكر في هذا الأمر تغمر روحي لذة وسرور . عندما تلقيت هذا الوحي أول الأمر، قبل حوالي ٢٥ أو ٣٠ عاما، فرحت فرحة كبيرة بأن الله تعالى سيستجيب أدعيتي لي ولأحبابي حتما، فقلت في نفسي لا ينبغي لي أن أكون بخيلا في هذا الأمر، لأنها نعمة ربانية، وقد قال الله تعالى في وصف المتقين: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة: ٤)، ولذلك فإنني أدعو لأحبابي بخير الدنيا والآخرة دوما، سواء ذكروني بالدعاء أم لا، وسواء
عرضوا عليّ أمرا خطيرا أم لا.
شروط استجابة الدعاء
غير أنه لا بد من أن يجعلوا نصب أعينهم دائما أن هناك شروطا لاستجابة
الدعاء، منها ما يتعلق بالداعي ومنها ما يتعلق بطالب الدعاء
من
الداعي.
فأما
طالب الدعاء فعليه أن تستولي عليه تقوى الله وخشيته ويخاف استغناءه تعالى كل
الملفوظات
المجلد الأول
حين، ويتخذ التصالح وعبادة الله شعارًا ،له ويُرضي الله بالتقوى والصدق، ولو فعل ذلك لفتح له باب استجابة الدعاء. أما إذا كان يُسخط الله تعالى ويفسد علاقته معه ويحاربه، فإن شروره وسيئاته ستقف في طريق إجابة الدعاء سدا منيعا وصخرةً ثقيلة، ويغلق أمامه باب استجابة الدعاء.
احفظوا أدعيتنا من الضياع
لذا فمن واجب أحبابنا ألا يدعوا أدعيتنا تضيع ولا يعيقوا طريق استجابتها بتصرفاتهم غير اللائقة. فليسلكوا سبيل التقوى، فإن التقوى هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يُعَدّ لُبَّ الشريعة. فلو أردنا بيان الشريعة بإيجاز، فليس لبها سوى التقوى. والتقوى مدارج ومراتب كثيرة، ولكن لو تخطّى الإنسان المراحل الابتدائية بمثابرة وإخلاص، لارتقى إلى المدارج العليا نتيجة هذا السداد والطلب الصادق. يقول الله تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة: ۲۸)، أي أنه تعالى لا يجيب إلا دعوات المتقين. وكأن هذا وعد من الله تعالى والله لا يخلف الميعاد حيث قال : إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ )) ( آل عمران (۱۰). فما دامت التقوى شرطًا
ضروريا لاستجابة الدعاء، فهل من شك في حماقة وسفاهة إنسان يريد أن يستجاب عيشه عيشة غفلة وانحراف؟
دعائه
2
فيجب على كل فرد من جماعتنا أن يبذل أقصى جهده لسلوك سبل التقوى،
لكي ينال لذة استجابة الدعاء ومتعتها، ويزداد إيمانًا على إيمان.
الحالات الثلاث للنفس البشرية يتضح من القرآن الكريم أن لنفس الإنسان ثلاث حالات: الأمارة، واللوامة، والمطمئنة. في حالة النفس الأمارة يكون الإنسان كأسير في قبضة الشيطان، ويميل إليه كل الميل . وأما في حالة النفس اللوامة فيندم المرء على أخطائه وينيب إلى الله تعالى نادمًا، غير أنه يبقى في نوع من الصراع، فتارةً يخلد إلى الشيطان وأخرى يميل
المجلد الأول
الملفوظات إلى الرحمن. وأما في حالة النفس المطمئنة فيدخل المرء في زمرة عباد الرحمن. وبتعبير
آخر، إن النفس المطمئنة هي أرفع نقطة وتقابلها من الأسفل النفس الأمارة، وبينهما النفس اللوامة التي هي كلسان الميزان، فكلما أخلد إلى الأسفل صار أسوأ وأرذل من الحيوانات، وكلما رجع إلى نقطة الرفعة اقترب من الله تعالى بقدر ارتفاعه، وخرج الحالات السفلية والأرضية ونال نصيبا من الفيض العلوي والسماوي.
من
لا شيء في الدنيا خال من النفع
اعلموا جيدا أن كل شيء ذو نفع. ترون أن لا شيء في الدنيا يخلو من منفعة وفائدة للإنسان، بدءًا من النباتات حتى الديدان والفئران وكل هذه الأشياء، سواء الأرضية منها أو السماوية، إنما هى ظلال لصفات الله وآثار لها، وما دامت الظلال والصفات
هنا
نافعة لهذه الدرجة، فيمكنكم تقدير مدى النفع والفائدة في ذات البارئ تعالى. ينبغي أن تتذكروا أننا إذا كنا نتضرر من بعض الأشياء أحيانا، فليس ذلك لأنها ضارة في حد ذاتها، إنما سببه خطاً وسوء فهم منا. كذلك نقع أحيانا في الآلام
والمصائب لجهلنا ببعض صفات الله الله، وإلا فإن الله تعالى ليس إلا رحمة وكرما. إن السر وراء تعرضنا للآلام والأحزان في الدنيا إنما هو أننا نلقي بأنفسنا في المصائب نتيجة سوء فهمنا وقصور علمنا فمن خلال العيون الصفاتية فقط يمكن أن نجد الله الله رحيما وكريما ونافعا بما يفوق تصورنا ولا يتمتع بهذه المنافع أكثر إلا من يقترب من الله أكثر ويدنو منه أكثر، وما يلقاها إلا الذين يتقون ويحظون بقرب الله تعالى فكلما ازداد المتقي قربًا من الله تعالى تلقى نورًا من الهدى يلقي على معلوماته وعلومه ضوءًا خاصا، وكلما ابتعد المرء عن الله تعالى سيطرت على قلبه ودماغه ظلمة مهلكة، وأصبح مصداقا لقول الله تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ )) (البقرة: (۱۹)، وصار عرضة للخزي والدمار. ولكن الذي يفوز بالنور والضوء، فينعم
*
بأسمى أنواع الراحة والعزة حيث قال الله تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي
۱۰۲
الملفوظات المجلد الأول إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ (الفجر: (۲۸-۲۹) والمراد من النفس هنا النفس المطمئنة الحائزة على الطمأنينة التي نالتها في الله تعالى ذلك أن بعض الناس ينال الطمأنينة والراحة بالحكم، وبعضهم بالمال والعزة وبعضهم برؤية أولادهم وأحفادهم ذوي الذكاء والجمال، ولكن كل هذه اللذات والمتع المادية لا تجلب للإنسان الطمأنينة الحقيقية والسلوان الحقيقي، بل تولّد فيه جشعًا نجسًا وتزيده طلبًا وظماً، ولا يزول عطشه هذا كالمصاب بمرض الاستسقاء، حتى يُهلكه ولكن الله تعالى يذكر هنا تلك النفس التي تجد الطمأنينة في الله تعالى وبلوغ هذه المرتبة ممكن للعبد، ومن بلغها كانت سعادته كلها في الله تعالى رغم حيازته على المال والمتاع، والعزة والشوكة المادية والسطوة الدنيوية. هذه الأموال والمجوهرات وهذه الدنيا وأعمالها، لا تكون مدعاة راحة حقيقية لمثل هذا الإنسان. فمن المحال أن ينال الإنسان النجاة ما لم تكن راحته وطمأنينته في الله تعالى لأن النجاة مرادفة للطمأنينة في الواقع.
لا نجاة بدون الفوز بالنفس المطمئنة
رأيت بعض الناس وقد قرأت عن كثيرين ممن كانوا يتمتعون في الدنيا بالمال والثروة وملذات الحياة الزائفة ونعمها الدنيوية بكل أنواعها من أولاد وأحفاد وغيرهم ولكن حين قرب أجلهم وأحسوا بفراق الدنيا ومتعها والانتقال إلى العالم الآخر، تأججت في قلوبهم نار الحسرات والأماني، وبدأوا يتأوّهون نادمين فهذه المتع المادية أيضا نوع من جهنم، وإنها لا تجلب لقلب الإنسان راحة وسكينة بل تبعثه على الاضطراب والقلق. فلا يغيبنّ عن بال أصدقائي أن الإنسان كثيرا ما يستغرق في حبّ الأهل والعيال والمال حبًّا باطلا وفي نشوة حبه لها يرتكب في أحيان كثيرة أعمالاً غير مشروعة تجعل بينه وبين الله حجابا، وتخلق له نوعًا من الجحيم من حيث لا يدري. الله ولكنه عندما يُفصل عن كل هذه الأشياء فجأة يصيبه غاية القلق والذعر. ومن الأمور البديهية أن الإنسان إذا أُبعد وفصل عن شيء أحبه أصابه على فراقه بالغ
المجلد الأول
الملفوظات الحزن والألم. وهذه القضية ليست مجرد قول منقول بل حقيقة معقولة بديهية، وقد قال الله تعالى نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ)) (الهُمُزه: ۷-۸) فنار حب غير الله هذه هي التي تحرق قلب الإنسان وتغادره رمادًا، وتلقيه في عذاب شديد وألم كبير فها إني أقولها ثانية إن من الحقائق اليقينية أن نجاة الإنسان محال بدون الفوز بالنفس المطمئنة.
كما قلت آنفًا إن الإنسان يكون عبدًا للشيطان عندما يكون في حالة النفس الأمارة، أما في حالة النفس اللوامة فيكون في جهاد وصراع ضد الشيطان، فيغلب الشيطان تارة ويغلبه الشيطان أخرى. وأما حالة النفس المطمئنة فهي حالة الأمن والراحة، حيث يصبح فيها هادئا مطمئنا فقوله تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) الفجر: (۲۸ يبيّن مدى السكينة والراحة التي تيسر للمرء في هذه الحالة الأخيرة. فقول الله: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ (الفجر: ۲۸ - ۲۹) يعني في الظاهر أن مثل هذا الإنسان يسمع عند احتضاره صوتا من الله تعالى أن: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ وهو راض عنك وأنت راضية عنه. وحيث
قد
إن للقرآن ظاهرا وباطنا، فتعني هذه الآية من حيث الباطن: يا أيتها النفس التي بلغت مرتبة الطمأنينة والسكينة حتى صارت حالتك الطبيعية، ولم يعد بينك وبين الله بعد، ارجعي إلى ربك راضيةً مرضية. في حالة النفس اللوامة يكابد المرء العناء والمشقة، أما في حالة النفس المطمئنة فيجري حبُّ الله تعالى في كل ذرة من كيانه كماء يصبّ من الأعلى صبًّا، فيحيا بحب الله وحده، ويفنى فيه حب ما الله سوی الذي كان يؤجج فيه سعيرا وجهنما، ويُملأ عوضًا عنه بضياء ونور، فتصبح مرضاة الله مرضاته ومشيئة الله ،مشيئته ويغدو حب الله بمنزلة روحه، وكما أن لوازم الحياة
ضرورية لاستمرارها ، كذلك تتوقف حياته على الله تعالى وحده دون غيره، وبكلمات أخرى يصبح
الله تعالى جُل راحته وكل سعادته.
الملفوظات
المجلد الأول
غاية حياة الإنسان
ومن علامات النفس المطمئنة أنها تأخذ بدون تحريض خارجي، صورةً بحيث لا يستطيع صاحبها العيش بدون الله تعالى. وهذه هي غاية الحياة الإنسانية، وهكذا يجب أن يكون. الناس العاطلون يخترعون لأنفسهم مشاغل شتى من صيد وشطرنج وورق وغيرها، أما النفس المطمئنة فتكون قد ابتعدت عن كل ما هو غير جائز وعابر مؤقت ومغبته الآلام والكروب في معظم الأحيان، فأنى لتلك النفس أن تتذكر العالم
الذي قد انقطعت عنه وابتعدت ولذلك تصبح أسيرة حب الله وحده؟ ولا يغيبن عن البال أيضا أن الحب ،قسمان أولهما الحب الذاتي، ثانيهما الحب المنوط ببعض الأطماع، أو بتعبير آخر ، ببعض الدوافع الآنية التي إذا زالت فتر ذلك الحب وتسبب في الألم والحزن. أما الحب الذاتي فيبعث على السعادة الحقيقية. بما أن الإنسان خُلق الله تعالى ،بفطرته، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات : (٥٧) ، لذا فقد أودع الله فطرته شيئا لنفسه تعالى، وجعله لنفسه تعالى بأسباب جدّ خفية. فعندما يتخلى المرء عن أنواع الحب الكاذب والزائف والعابر والمؤدي إلى الأحزان، فإنه يصبح الله وحده، ولا يبعد عنه بطبعه، ويأتي إليه تعالى مسرعًا. فقوله تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ...)) (الفجر: ۲۸) إشارة إلى هذا الأمر نفسه وليس المراد من نداء الله له إلا أن الحجاب الحائل قد رفع ولم يعد بينه وبين الله تعالى بعد هذه هي الغاية القصوى للمتقي حيث ينال الطمأنينة والراحة. وفي آية أخرى سمى القرآن هذه الطمأنينة فلاحا واستقامة أيضا، وإن في قول الله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (الفاتحة: (٦ إشارةً لطيفة إلى نفس الاستقامة أو
الطمأنينة أو الفلاح، كما أن كلمة "المستقيم" نفسها تدل على ذلك.
المعجزات
الحق أن الله تعالى لا يفعل أي فعل بطريقة غير عادية، بل إنه يخلق له الأسباب، عرفناها أم لم نعرفها باختصار، الأسباب تكون موجودة هناك حتمًا، لذا فإن معجزة
الملفوظات
٠٥
المجلد الأول
شق القمر أو معجزة يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا ﴾ (الأنبياء: ٧٠) ليستا خارجتين
عن
الأسباب، بل هما نتاج أسباب خفية جدا، وهي مبنية على علوم حقيقية لا يقدر على إدراكها أصحاب النظر القصير المشغوفون بالفلسفة المظلمة. إنه لمما يحيّرني أنه ما دام عدم العلم بشيء لا يستلزم عدم وجود ذلك الشيء، فكيف يتجاسر الفلسفي المتعالم الغبي على نفي تلك المعجزات الحقيقية نتيجة جهله بأسبابها؟ غير أن مذهبنا هو أن الله تعالى قادر على أن يُطلع عبدا من عباده على تلك الأسباب الخفية إن أراد، ولكنه ليس ضروريا. انظروا أن المرء إذا أراد بناء بيت فإنه يضع في الحسبان ما يصنع فيه من صنوف أسباب الراحة، غير أنه يفكر أولاً أن يجعل للبيت بابا للدخول والخروج، وإذا كان يملك أشياء كثيرة من قبيل الفيلة والخيول والسيارات وغيرها، فيجعل الباب بحجم هذه الحيوانات والأثاث لدخولها وخروجها، لا أن يجعله ثقبا صغيرا كجُحر الحية. كذلك عندما نلقي نظرة واسعة وفاحصة على أفعال الله، أي على النواميس الطبيعية، نجد أنه تعالى لم يُرِد المخلوقاته بعد أن خلقها، أن تنسى العبودية وتنقطع عن صاحب الربوبية. كلا، لم ترد الربوبية إبعاد العبودية أبدا. هذه الحقة. إن الذين يظنون أن العبودية شيء مستقل ومخيَّر فإنهم يخطئون خطأ فادحا. إن الله تعالى لم يجعلها هكذا إن معلوماتنا وأفكارنا وعقولنا متفاوتة الدرجات وعاجزة عن إلقاء الضوء على كل أمر على أكمل وجه، وفي هذا دليل بين على أن العبودية لا تبقى بدون فيضان الربوبية إن كل ذرة من كياننا هي بمنزلة الملائكة،
هي
الفلسفة
ولولا ذلك لأصبح قانون الدواء، بل قانون الدعاء بالمقام الأول، لغوا وعقيما. انظروا في الأرض والسماوات وما فيها، وفكّروا فيما إذا كانت هذه المخلوقات مستقلة ومخيرة في قيامها وبقائها، أم أنها بحاجة في ذلك إلى غيرها. إن كافة المخلوقات، بدءًا من الأجرام الفلكية إلى الأشياء الأرضية، متصبغة في خلقها بصبغة
الملفوظات
المجلد الأول
العبودية. فكلُّ ورقة تنبئ ، وكلُّ غصن يعلن وكل صوت ينادي أن الألوهية تعمل فيها عملها. إن تصرفات الألوهية العميقة جدا والتي لا نقدر بفكرنا وقوتنا على بيانها بل يستحيل علينا استيعابها استيعابا كاملا تعمل عملها. قال الله تعالى : الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ الْقَيُّومُ (البقرة: (٢٥٦) ، أي أن الله تعالى وحده جامع للصفات الكاملة ومنزه عن النقائص كلها، وأنه هو وحده يستحق العبادة وأن وجوده هو بديهي الثبوت، لأنه حي بذاته وقائم بنفسه، ولا شيء سواه حي بذاته وقائم بنفسه. ما المراد من ذلك؟ المراد أنه ليس في العالم شيء - سوى الله تعالى- وُجد بذاته وقام بذاته من دون علة موجبة له، أو كانَ علّةً موجبة لهذا العالم المخلوق بمنتهى والترتيب المحكم الموزون . فتبين من هنا أن لا أحد سوى الله يقدر على أن يغيّر أو
يبدل شيئا في عالم المخلوقات هذا، أو يكون سببًا لحياة كل شيء أو قيامه.
11
الحكمة
المذهبان الصوفيان الوجودي والشهودي يكشف التدبر في هذه الآية أن مذهب وحدة الوجود قد ابتعد عن الحق، وقد تعبّر أهله في فهم صفات الله تعالى، وليس بوسعهم أن يدركوا أنهم قد تعتروا في فهم العلاقة بين العبودية والألوهية نفسها. يبدو أن أصحاب الكشوف والمجاهدات من أهل هذا المذهب أرادوا معرفة الله تعالى، ففشلوا في فهم طبيعة العلاقة بين العبودية والربوبية، فاعتقدوا بخلق الأشياء. كان القرآن الكريم يجري على اللسان بعد نزوله على القلب. كم كان القلب وثيق العلاقة بالوحي حتى صار موردًا لكلام الله تعالى، هذا الأمر الدقيق العميق الذي كان من الممكن أن ينخدعوا به. والواقع أن المرء إذا اتخذ خطوة خاطئة لسوء فهمه وقع بعدها في دوّامة المشاكل. وكما قلت آنفا إن التصرفات الإلهية مع الإنسان جد عميقة بحيث لا تقدر قوة على وصفها وبيانها كما ينبغي، ولو جاز ذلك لما وجدت ربوبية الله وصفاته الكاملة مذكورةً في القرآن الكريم. وكوننا عدما نفسه
هو
الملفوظات
۱۰۷
المجلد الأول الدليل على وجود الله تعالى. والحق أن الإنسان حين يصبح عاجزا من كل النواحي يصير بمنزلة المعدوم . وقد فشل البعض في فهم هذا السر العميق، فلم يلبث أن قال خلْقُ الأشياء هو عين " . والفرقة الأولى أي الوجودية هي التي تقول وتؤمن: "خلقُ
الأشياء هو عين".
أما الفرقة الثانية أي الشهودية فهي تؤمن بالفناء النظري وتقول إن الإنسان يمكن أن يستغرق في حب الله تعالى بحيث يمكن أن يفنى في الله تعالى، فيجوز له
أن يقول:
من تو شدم تو من شدی، من تن شدم تو جاں شدی
تاکس نه گوید بس ازیں، من دیگرم تو دیگری
أي: أصبحتُ أنتَ وأصبحت أنا وأصبحتُ الجسد وأصبحت الروح، لكيلا يقول أحد بعد ذلك أني وأنك شخصان منفصلان.
ومع
ذلك لم يجد هؤلاء أيضا في النهاية مناصًا من الإقرار بالتصرفات الإلهية، سواء في ذلك الوجودية أو الشهودية. إن كلمات بعض كبار أهل الصلاح والكمال الدين ابن عربي
منهم،
رحمهم
ومع
محيي
بدءًا من بايزيد البسطامي والشبلي وذي النون وحتى الله جميعا، قد اتخذت هذا المنحى عموما، بعضها ظاهرًا وبعضها خفاءً. ذلك أود أن أقول بمنتهى الصراحة إنه ليس من حقنا أن ننظر إلى هؤلاء باستهزاء وازدراء. كلا ثم كلا لقد كانوا أهل عقل وفطنة. والحق أن هذا الأمر كان سرا عميقا من معرفة الله ففشلوا في الإمساك بخيط هذا السر. هذا كل ما في الأمر لا غير. الحق أن الإنسان يبدو هالِكَ الذات إزاء التصرفات الإلهية العظيمة، ولقد رأوا الإنسان على هذا النحو، فخرجت من أفواههم مثل هذه الكلمات، وانصرفت أذهانهم إلى هذا الأمر.
١ أي أن المخلوقات هي عين الله أو ذاته، ولا فرق بين الخالق والمخلوق؛ فالخلق ليس إلا تجليات للخالق، ولا وجود حقيقيا للمخلوقات، بل كل مخلوق إله أيضا. (المترجم)
۱۰۸
المجلد الأول
الملفوظات ألا فاسمعوا وعوا جيدا أن الإنسان، وإن بلغ بسبب صفاء باطنه الدرجة العليا كما بلغها نبينا الكريم عليه الصلاة والتسليم - حيث يعطى القوة الاقتدارية، إلا أنه يظل هنالك فرق بين وبون شاسع بين الخالق والمخلوق، فلا تدعوا هذا الفرق يغيب عن قلوبكم أبدًا. إن الإنسان ليس منزهًا عن لوازم الحياة، لا هنا ولا هنالك. إنه يأكل ويشرب ويرتكب المعاصي صغائرها ،وكبائرها، وسيكون بعض الناس في الجحيم وبعضهم في جنة الخلد في الآخرة. باختصار، ليس بوسع إنسان أن ينخلع من لباس العبودية أبدا، وما دام هذا هو الواقع فلستُ أدري بعد ذلك ما هو الحجاب الذي يخلعه الإنسان عن نفسه ليلبس بعده حلّة الربوبية؟ لقد ظلت العبودية
ملازمة حتى لكبار الزهاد وأهل المجاهدات اقرأوا القرآن لتتأكدوا من ذلك.
عبودية النبي صلى الله عليه وسلم
دعُوا الآخرين جانبًا، فنبينا الا الله الذي لم ولن يوجد في الدنيا من هو أكمل منه أسوةً إلى يوم القيامة، كمْ أُعطي المعجزات الاقتدارية، ومع ذلك ظلت العبودية
ملازمة له على الدوام، ولم يفتاً يعلن مرة بعد أخرى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ (الكهف: (۱۱۱) حتى جعل الإقرار بعبوديته جزءًا لا يتجزأ من شهادة التوحيد التي بدونها لا يُعَدُّ المسلم مسلما . ففكّروا ثم فكّروا ، ما دامت أسوة الهادي الأكمل تعلمنا أنه لم يتخل عن الإقرار بعبوديته رغم بلوغه أسمى مراتب القرب، فكم هو
باطل وعبت أن يفكّر غيره بمثل هذه الأمور أو تخطر بباله.
التصرفات الإلهية نوعان
غير أن الحق الذي لا يسع أحدًا إنكارُه هو أن التصرفات الإلهية لا تُحدّ ولا تحصى. كلما ازداد الإنسان زهدًا ومجاهدةً ازداد من الله تعالى قربًا وزلفى، وبقدر هذا القرب تصبّغ بصبغة التصرفات الإلهية، وفتح عليه باب فهم التصرفات الإلهية ومعرفتها واستيعابها.
الملفوظات
۱۰۹
المجلد الأول
نوع
المناسب هنا أن أبين أنّ التصرفات الإلهية مع الإنسان نوعان أيضا: ومن باعتباره مخلوقا، ونوع آخر باعتباره مقربًا إلى الله تعالى. ومن التصرفات التي تكون
مع
في
الأنبياء باعتبارهم من خلق الله ما ورد في قول الله تعالى: يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي الْأَسْوَاقِ (الفرقان (۸) فصحتهم ومرضهم وغيرهما تكون بيد الله نفسه. ثم هناك تصرف إلهي جديد آخر معهم نظرًا إلى مراتب قربهم من الله تعالى، وهو أن الله تعالى يتقرب إليهم بحيث تبدأ معهم سلسلة المخاطبات والمكالمات الإلهية ويتلقون من الله الجواب على أدعيتهم ولكن بعض الناس لا يستطيعون استيعاب هذا الأمر. ولا يقتصر الأمر على المكالمة والمخاطبة الإلهية فقط، بل يأتي بعد ذلك مرحلةٌ يُلقَى فيها رداء الألوهية عليهم، ويُريهم الله تعالى نماذج شتى لوجوده. وخيرُ مثال لهذا القرب والعلاقة هو أننا إذا وضعنا قطعة حديدية في النار فإنها تتراءى بتأثير النار عليها قطعةً من النار، حيث تضيء كالنار وتوجد فيها صفة الإحراق أيضا التي هي من صفات النار، ومع كل ذلك يظل الواقع البيّن هُوَ هُوَ، أعني أنّ تلك القطعة الحديدية لا تكون نارًا أو جزءا منها في الحقيقة.
صدور أفعال متصبغة بصبغة الألوهية من أهل الله كذلك قد جرّبنا أن أولياء الله يبلغون من قرب الله مقاما تواري فيه صبغة الألوهية في طياتها صبغة بشريتهم كليةً ، وكما أن النار تُواري الحديدَ في طياتها حتى لا يتراءى شيئًا سواها بادي الرأي، كذلك فإنهم يتصبغون بصبغة الصفات الإلهية على وجه الظليّة، فعندها تصدر منهم بدون أي دعاء والتماس أفعال متصبغة بخواص الألوهية، وتخرج من أفواههم كلمات تتحقق كما يقولون تماما. وقد تحدث القرآن الكريم عن صدور مثل هذه الأمور على يد ولسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال الله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى الأَنْفال: ۱۸). كما أن معجزة شق القمر وشفاء كثير من المرضى على يده الولي الأمر ثابت وإن ما ورد عن نبينا الأكرم
صراحةً
۱۱۰
المجلد الأول
الملفوظات في القرآن الكريم : وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (النجم : ٤) إنما هو إشارة إلى ذلك
القرب الشديد والأسمى، وهو دليل على كمال تزكية نفسه وقربه من الله تعالى. ورد في الحديث الشريف أن الله تعالى يكون يدَ عبده المؤمن ورجله وعينه وغيرها من الجوارح، وإنما معناه أن جوارح المؤمن كلها تأخذ طابع طاعة الله وكأنها جوارح الله التي تصدر منها أفعالُ الله من حين لآخر، وأنها مرآة صافية تنعكس فيها جميع
عندها
يثني
الناس
المشيئات الإلهية بمنتهى الصفاء والجلاء. وبتعبير آخر إن مثل هؤلاء الناس يتجردون من بشريتهم كل التجرد؟ عندما يلقي المرء خطابا فإنه يطمع أن على فصاحته وحسن بيانه وتمكنه من ناصية الكلام، أما عباد الله هؤلاء فلا ينطقون إلا بإنطاق الله، فإذا هاجت أرواحهم جاء من الله نفسه موج ليُحدِث فيهم تموجا وهيجانا، فلا يتكلمون بصوتهم ونطقهم، بل يتكلمون بتأثير الله وتهييجه، وعندما يرون فلا يكون في رؤيتهم دخل للفكر كما هو حال غيرهم من الناس، وإنما يرون بنور الله الذي يُريهم ما لا يستطيع أن يراه غيرهم حتى بنظرة عميقة فاحصة أيضا. اتقوا فراسة المؤمن
وذلك كما ورد: "اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ" .۲. ذلك لأنكم تتكلفون فيما تفعلون، أما أفعال المؤمن فتلقائية عفوية وإنكم أصحاب أقوال أما هو فصاحب خبرة. ومثل المؤمن كمثل الساعة التي تعمل بتحريك من شتى آلاتها. من الممكن أن تخطئوا في تقدير الوقت حين تكون السماء غائمة، فتقولوا مثلاً نحن في الساعة السابعة مع أنكم في الساعة الثالثة في الواقع، أما هذه الساعة المصنوعة لهذا الغرض فلن تخطئ، بل ستنبئكم عن الوقت الصحيح، وليس لكم إلا الندم إن خاصمتموها وخطأتموها. كذلك تذكروا أنه لا يليق بالمتقي أن يجادل قومًا مقربين عند الله وينادون في الدنيا
١ البخاري، كتاب الرقاق، التواضع. (المترجم)
الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (المترجم)
الملفوظات
۱۱۱
المجلد الأول
بأسماء شتى. فاتقوا محاربة المؤمن عملاً بـ "اتقوا فراسة المؤمن" مخافة أن تصبحوا من
الله
أهل الباطل، فتذوقوا أسوأ العواقب على خطئكم. ذلك أن المؤمن يرى بنور ولكنكم محرومون من ذلك النور، ويمكن أن تكونوا منحرفين عن جادة الصواب، ولكن المؤمن يسلك الصراط المستقيم دوما بالله عليكم، أخبروني هل بوسع الشخص الماشي في الظلام أن يباري إنساناً يمشي على ضوء سراج. كلا، لقد قال الله تعالى بنفسه : هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ)) (الأنعام: ٥١). كلا. فما دمنا نرى حولنا الأسباب، فمن الخطأ الفادح ألا نستفيد من
ذلك.
باختصار، يجب اتقاء فراسة المؤمن. إن التصدي للمؤمن ليس من دأب العاقل. وإن معرفة المؤمن ممكنة بالعلامات والآثار التي بينتها آنفا. كان رعب هذه الفراسة الموهوبة من الله مستوليا على وجوه الصحابة الكرام ، ويكون هذا الرعب مصاحبًا للأنبياء كآية من الله تعالى. كان الصحابة يسألون النبي عن مختلف الأمور ويقولون له إذا كان هذا وحيًا من الله فلا نعارضه وكانت الهيبة مستولية عليهم. يتسم كلام المتكلم بالعظمة والهيبة بحسب مرتبته. انظروا كيف يقاسي المرء نوعا من الأذى والرعب عند المثول أمام الحكام الدنيويين، لأنه يفكر أن القلم بأيديهم. كذلك فإن الذين يعرفون أن الله مع المؤمن فإنهم يتركون معارضته، وإذا لم يفهموا من قوله شيئا يتفكرون ويتأملون فيه منعزلين بهدوء، أما غيرهم فيعارضونه أولاً ثم يفكرون. بد أن يتبع الناس من كان خبيرا بالطريق وحاملاً للضوء، وهذا هو المراد من الحديث: "اتقوا فراسة المؤمن"، أي إذا قال المؤمن شيئا، فاتقوا الله، لأنه لا يتكلم إلا بأمر الله تعالى.
لا
قصارى القول إن المؤمن إذا أحبّ الله تعالى أحاط به نورُ الله. ومع أن هذا النور يواريه في داخله ويحرق بشريته إلى حد ما شأن القطعة الحديدية الملقاة في النار،
الملفوظات
إلا أن
۱۱۲
المجلد الأول عبوديته وبشريته لا تنعدم أبدًا. وهذا هو السر الكامن وراء قول الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ (الكهف: (۱۱۱). لا شك أن العبودية تبقى في المؤمن، ولكنها تتوارى تحت صبغة الألوهية، وتمتلئ جُل قواه وجوارحه بمشيئة الله في سبل مرضاته تعالى لتصبح صورةً متجسدة لمراداته سبحانه وتعالى. هذه هي الميزة التي تؤهله لتربية ملايين الناس وتجعله مظهرًا لربوبية الله التامة. ولولا ذلك لما استطاع أن يكون هاديا ومرشدا لهذا القدر الهائل من البشر.
النبي
مكانة النبي صلى الله عليه وسلم المنقطعة النظير وبما أن نبينا الأكرم قد بعث للتربية الروحانية لكافة الناس في العالم، فكان
النبي
متحليا بهذه الميزة على أكمل وجه. وهذه مرتبة قد شهد بها القرآن الكريم بحق في آيات عديدة، حيث نَعَتَه إزاء صفات الله بصفات مماثلة، فقال: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: (۱۰۸)، وقال: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا (الأعراف: ١٥٩).
ويكشف التدبر في آيات أخرى من القرآن الكريم أن الله تعالى قد وصف النبي أُمَيَّا، إذ لم يكن له معلم سوى الله تعالى. ورغم كونه صلى الله عليه وسلم أميا فقد أدخل الله تعالى في دينه كبار الفلاسفة والعلماء، بالإضافة إلى أميين وأناس متوسطين. وهذا ما يكشف لنا، وعلى أروع وجه معنى قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (الأعراف (۱۵۹). فلفظ " جَمِيعًا" له معنيان، الأوّل: البشر كلهم، أو الخلق كلهم، والثاني : الناس من كل شريحة، أي بسطاء العقل، ومتوسطو الذكاء، وكبار الفلاسفة أيضا. وكأن النبي ل : قال : إن كل شخص، أيا كان طبعه، يمكنه الارتباط والتعلق بي. يصاب المرء بالذهول برؤية القرآن لأن ذلك النبي الأمي لم يعلم الكتاب والحكمة فحسب، بل هدى إلى سبل تزكية النفس أيضا، حتى بلغ بصحابته درجة
الملفوظات
۱۱۳
المجلد الأول
قال الله تعالى عنها : وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ مِنْهُ ﴾ (المجادلة: ٢٣). فانظروا وانظروا بإمعان كيف أن القرآن الكريم يوصل الطالب من أي نوع إلى غايته، ويروي غليل كل متعطش للحق والصدق . ولكن فكّروا مليًّا من كان هذا الذي نزل عليه نهر الحكمة والمعرفة هذا وينبوع الصدق والنور هذا. لقد نزل على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان أميًّا، ومع ذلك جرت على لسانه من المعارف والحقائق ما لا نظير له في تاريخ البشر. وكان هذا فضلا عظيما من الله تعالى ليعلم الناس مدى ما يمكن أن يصل الله في قربه مع عبده.
إن قصدي من هذا البيان أن علاقات الله مع عباده المقربين تصل أحيانا إلى حد عظيم جدا، حيث تصبح لهم علاقة بالألوهية بحيث يظنّهم عَبَدَةُ المخلوق آلهة. ولله در القائل:
مردانِ خدا خدانه باشند لیکن ز خدا جدا نه باشند
:أي أن عباد الله ليسوا آلهة ولكنهم ليسوا منفصلين عن الله أيضا. وتكون لهم مع الله علاقة عجيبة بحيث إنه تعالى يعينهم بدون أي دعاء منهم أيضا. مجمل القول إن أعلى مراتب الإنسان هي حالة النفس المطمئنة التي تحدثت عنها في البداية. وفي هذه الحالة بل في الحالات كلها يتطور الإنسان ويرتقي، لتتحول علاقته العادية مع الله تعالى إلى علاقة خاصة، وهي لا تكون أرضية سطحية، بل تكون عُلويةً سماوية. أعني أن هذه الطمأنينة التي يقال لها الفلاح والاستقامة أيضا، والتي قد أشير إليها في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (الفاتحة: ٦)، والتي قد علمنا الدعاء للاهتداء إليها، أقول إن صراط الاستقامة هذا هو صراط المنعم عليهم الذين شرّفهم الله بفضله وإكرامه. والحكمة في ذكر صراط المنعم عليهم خاصةً هي أن سبل الاستقامة مختلفة، ولكن الاستقامة التي هي اسم آخر لسبل النجاح والفلاح إنما هي سبك الأنبياء عليهم السلام.
الملفوظات
١١٤
المجلد الأول
وثمة إشارة أخرى في ذلك، وهي أن دعاء اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هذا إنما ينطلق من لسان المرء وقلبه وفعله. وإنه حين يدعو ربه من أجل صلاحه فإنه يشعر بالخجل، ولكن هذا الدعاء هو وحده يسهّل عليه هذه المعضلات، أعني دعاءه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
ضرورة بذل كل القدرات قبل الدعاء
وقد قدّمت إِيَّاكَ نَعْبُدُ على إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، ذلك أن الإنسان يأتي إلى الله تعالى للدعاء بعد بذل كل القوى والكفاءات الموهوبة له، إذ من سوء الأدب والوقاحة أن يدعو الله تعالى بدون الاستعانة بما وهب له من القوى والكفاءات وبدون العمل حسب نواميسه الطبيعية. فالفلاح مثلاً لو بدأ يدعو الله تعالى ويقول إلهي اجعل حقلي هذا نضرًا خضرًا ومزهرًا ومثمرًا بدون أن يبذر فيه البذر، كان تصرفه هذا تجاسرا واستهزاء، وهذا ما يسمى اختبار الله وامتحانه الذي قد نهينا عنه وقيل: لا تمتحنوا الله تعالى وقد ورد هذا الموضوع صراحة في قصة سؤال المسيح القليلة المائدة. ففكّروا في هذا الأمر وتدبروا.
الحق والحق أقول إن الذي لا يقوم بالأعمال فهو لا يدعو الله تعالى بل يختبره، لذا فلا بد للمرء من بذل جميع القوى والقدرات قبل الدعاء، وهذا هو مفهوم هذا الدعاء القرآني. فلزامٌ على المرء أن يفحص معتقده وأعماله قبل الدعاء، لأن السنة الإلهية أن الإصلاح يتمّ بالأسباب، حيث يخلق
من
الله تعالى سببًا ما يتمّ به الإصلاح والذين يقولون ما الحاجة إلى الأسباب مع الدعاء، عليهم أن يتوقفوا هنا على وجه الخصوص وقفةً تأملية. يجب أن يفكر هؤلاء الأغبياء أن الدعاء بحد ذاته سبب خفي يؤدي إلى أسباب أخرى. وقد قدّمت جملة إِيَّاكَ نَعْبُدُ على جملة إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ - التي هي
لبيان هذا المعنى خاصة.
دعاء-
الملفوظات
110
المجلد الأول باختصار، إن من سنة الله التي نراها دائما أنه تعالى يخلق الأسباب، فيهيئ الماء لإزالة الظمأ والطعام لسدّ الجوع، ولكنه يهيئهما من خلال الأسباب نفسها. فسلسلة الأسباب هذه قائمة على هذا المنوال، وتُخلق الأسباب حتما، لأن الله تعالى اسمين: العزيز ،والحكيم، كما ذكرهما المولوي محمد أحسن المحترم بقراءة قول الله تعالى: وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا )) (النساء: (١٦٦). والعزيز من يفعل ما يشاء، والحكيم من يكون فعله في محله الملائم والمناسب لحكمة ما فمثلاً، تجدون في النباتات والجمادات أنواع الخواص، فتناولُ مقدار ضئيل جدًا من التربد (Turpethum) يسبب الإسهال، ونفس الحال بالنسبة للسقمونيا (Scammonia). ومع أن الله تعالى قادر على أن يجعل بطن المرء يجري بدون سبب، أو يقطع عطشه بدون ماء، ولكن كان لا بد من كشف عجائب قدرة الله للإنسان، لأنه كلما ازداد معرفةً بعجائب قدرة الله ازداد علمًا بصفات الله، مما يساعده على التقرب إلى الله تعالى. فعلمُ الطبّ والفلك مثلاً يكشف آلافا من خواص الأشياء.
هي
ليست العلوم إلا اسما لخواص الأشياء ما هي العلوم حقيقةً؟ إنْ إلا خواص الأشياء. ولولا أن الله تعالى قد جعل في الأجرام والنجوم والنباتات تأثيرات شتى لتعذر على الإنسان الإيمان بصفة الله العليم من المؤكد أن أساس علمنا هو خواص الأشياء، وذلك لكي نتعلم الحكمة. والعلوم تسمَّى حكمةً أيضا حيث قال الله تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (البقرة: ٢٧٠).
الهدف من دعاء اهدنا الصِّرَاطَ المُستقيم فليس الهدف دعاء اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (الفاتحة: (٦) إلا أن يقلد
من
الداعي فئة المنعَمَ عليهم في أعمالهم وأخلاقهم وعقائدهم. على المرء أن يهتم بإصلاح عقائده وأخلاقه وأعماله قدر المستطاع بوسعكم أن تدركوا بالمشاهدة أن الإنسان
الملفوظات
١١٦
المجلد الأول
لا يتقدم ما لم يستغل كفاءاته وقواه، أو لو أنه سخرها فيما لم تُخلق له فأيضا لن تتطور. وعلى سبيل المثال لو تركت العين مغلقةً أربعين يوما فسوف تفقد قوة البصر. لذا فلا مناص لكم من تسخير قواكم في أعمالها الفطرية الطبيعية أولاً، وعندها تنالون المزيد أيضا. ونعلم بخبرتنا الذاتية أن المرء كلما سخّر قواه العملية أنزل الله عليه البركة.
غاية القول، أصلحوا عقائدكم وأخلاقكم وأعمالكم أولاً، ثم ادعوا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، وعندها سيظهر تأثير الدعاء على أكمل وجه.
سبب تسمية الأمة بـ "الأمة المرحومة"
يتضح
لنا بوجه خاص أن هذه الأمة المرحومة قد ظهرت في زمن تظهر فيه
الآفات بكثرة، ويسارع الناس إلى الذنوب والمعاصي سرعة الحجر المتدحرج إلى الأسفل. لقد سميت هذه الأمة بالمرحومة لأن المعاصي كثرت في عهدها، كما قال الله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ (الروم : (٤٢)، وقال أيضا: يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا (الحديد (۱۸) ويتبين بالإمعان في هاتين الآيتين أن الله تعالى قد رسم فيهما صورتين، ففي الآية الأولى رسم صورة العصر الذي ولد فيه نبينا الأكرم ، فلأن حالة الدنيا في ذلك العصر اقتضت الرحمة جدا، إذ كانت الأخلاق والأعمال والمعتقدات قد صارت معدومة عندها ، فسميت هذه الأمة مرحومةً لأن وضع الدنيا كان يقتضي رحمة الله بشدة، ومن أجل ذلك قال الله تعالى لرسوله : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: (۱۰۸) . ولا شك أن الذي يؤمر بالمرور بأرض الثعابين أي يكون عرضةً لأهوال عظيمة وآفات شديدة، هو الجدير بالرحمة. فسميت هذه الأمة بالمرحومة لأنها جديرة بالرحمة إن الذي يُعهد إليه مهمة صعبة يستحق الرحمة. لقد كان على النبي الا الله أن يواجه أشرارًا كبارا وجُهّالاً يتربصون به الدوائر . ثم إنه كان ، ميَّا ، كما قال لا الهلال: نحن الأميون الذين لا يعرفون الحساب.
الملفوظات
۱۱۷
فقط،
المجلد الأول فكان على الأميين أن يواجهوا أمما شريرة خبيرة بنسج المكايد والشرور، ومن أجل ذلك سمينا بالأمة المرحومة. فكم بالحري بالمسلمين أن يفرحوا بأن الله تعالى قد عَدَّهم أهلاً بالرحمة. لقد جاء الأنبياء والوعاظ السابقون في عصور لم يكن الناس فيها خبراء جدا في الكيد والشر، كما بُعث بعض هؤلاء الأنبياء إلى قومهم أما اليوم فأصبح الناس مهرةً في العلوم والفنون والفلسفة المادية، وأما الصالحون فليس لهم إلا إلمام ضئيل جدا بعلوم الدنيا وعقولها ومكايدها وحيلها الملتوية. ورد في حديث أن الله تعالى قال يا عيسى سأخلق بعدك أُمّةً لا تعقل ولا تعلم شيئا، أي أنها أُمّةٌ أُمّية. قال: يا رب، فكيف يعرفونك؟ قال: أنا سأمنحهم العلم والعقل.
أهل الإسلام ذوو انسجام مع علوم السماء
الله
وإن في ذلك لبشارةً عظيمة، فكما أن لمعارضي الإسلام انسجاما مع العلوم الأرضية، فإنّ لأهل الإسلام انسجاما مع العلوم السماوية. إن رؤى ومناماتِ مُسْلِمٍ بسيط ساذج أقوى من منامات كبار الفلاسفة والقساوسة والبانديتات. ذلك فضل يؤتيه من يشاء. فعلى المسلمين أن يشكروا محسنهم الحقيقي، لأن الله تعالى يقول : لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ )) (إبراهيم: (۸). واعلموا أن الله تعالى ما دام قد سمى هذه الأمة أمة مرحومة وشرّفها بالعلوم اللدنية الروحانية فيجب عليها أن تشكره على ذلك شكرًا عمليا. باختصار، إن قوله تعالى اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ يحتم على كافة المسلمين مراعاة ما قيل لهم في إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، لكونه مقدمًا على إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فعليهم أن يقوموا بالشكر العملي أولاً ، إذ هذا هو المراد من قوله تعالى اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، أعني أنه لا بد لهم من الأخذ بالأسباب المادية أولاً ثم التوجه إلى الدعاء فأولاً لا مناص لهم من إصلاح العقائد
والأخلاق والعادات ثم عليهم الإقبال على الدعاء.
الملفوظات
۱۱۸
المجلد الأول
حسن الأخلاق علامة صلاح الإنسان وأودّ الآن بيان أمرٍ هام وضروري جدا، وعلى جماعتنا ألا يسمعوه باستهانة وعدم مبالاة. اعلموا أن الأخلاق علامة صلاح الإنسان إن تعريف المسلم الذي ورد في
الحديث الشريف عموما هو : "مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ يَدِهِ وَلِسَانِهِ".
لما وصل حضرة المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام إلى هنا في حديثه حانت صلاة العصر ، فصلى هو والحضور كلهم ببالغ الخشوع والحماس. ثم استأنف الحديث مرة أخرى، فأخذوا يستمعون إليه بأذن صاغية. (المحرر)
كنت أبين أن الله تعالى قد أراد بتعليمنا دعاءَ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ أنه لا بد لنا من مراعاة ثلاثة أمور الأخلاق والعقائد والأعمال. وبتعبير آخر شامل: يجب على المرء أن يهتم أولاً بإصلاح نفسه باستخدام ما خوله الله من قوى وكفاءات، ثم يتوجه إلى سؤال الله سبحانه وتعالى. وهذا لا يعني أنه لا حاجة به إلى الدعاء بعد إصلاح النفس. كلا، بل عليه أن يواصل الدعاء بعد إصلاح نفسه أيضا، ذلك أنه يوجد أيُّ فاصل بين قول الله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وقوله وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، وإن كان قوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ متقدّما ،زمانًا، حيث خلَقَنا الله برحمانيته أناسًا ومنحنا شتى القدرات والكفاءات في وقت لم يكن فيه أي دعاء وسؤال من قبلنا، إنما كان عندها محض فضل الله، وهذا هو سبب تقدم كلمةِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ)).
لا
الرحمانية والرحيمية
واعلموا أن الرحمة نوعان: أحدهما يسمَّى الرحمانية، والآخر الرحيمية. والرحمانية فيضان بدأ حتى قبل أن تُخلَق ونوجَد . فمثلاً إن الله تعالى، وبناءً على علمه الأزلي،
كلها كانت نافعة
قد خلق في البداية الأرض والسماء وما فيهما من أشياء، وهي لنا وتنفعنا بالفعل، والإنسان هو الأكثر انتفاعا منها كلها عموما. إن الخراف والماعز وغيرها من الحيوانات نافعة للإنسان، فانتفاع هذه الحيوانات من الأشياء الأخرى
الملفوظات
۱۱۹
المجلد الأول
ليس ذا بال إزاء انتفاع الإنسان. ففي الأمور الجسمانية مثلا ترون كيف يأكل الإنسان ما لذ وطاب من الأغذية المتنوعة، فهو يأكل ما طاب من لحم الحيوان، وأما الكلاب فتأكل ما تبقى من اللحم الرديء والعظام. فثبت أن الحيوانات وإن كانت تشارك الإنسان في المتع واللذات الجسمانية المتيسرة، إلا أن الإنسان هو
الأكثر حظا واستمتاعاً بها، أما المتع الروحانية فلا تشاركه فيها الحيوانات بتاتا. باختصار، هناك نوعان من الرحمة، أوّلُهما ما خلقه الله تعالى حتى قبل وجودنا من الأشياء من عناصر وغيرها كمقدمة وتوطئة وهي كلها مسخرة لنا، وهي مخلوقة بمقتضى رحمة الله قبل وجودنا ورغبتنا ودعائنا.
والنوع الآخر من الرحمة هو الرحيمية، بمعنى أننا حين ندعو الله تعالى فإنه يعطينا ما نسأله والتدبر يكشف لنا أن الدعاء هو من صميم النواميس الطبيعية. إن
البعض يعتبر الدعاء بدعةً اليوم، لذا أودّ بيان علاقة دعائنا بالله تعالى.
عندما يبكي الرضيع من شدة الجوع ويصرخ للحليب، يتدفق الحليب في ثدي الأم. لا يعرف الطفل حتى اسم الدعاء، ولكن ترون كيف تستدرّ صرخاته الحليب. هذا أمر قد جربه الجميع. وقد لوحظ في بعض الأحيان أن الأم لا تشعر بوجود الحليب في ثديها، ولكن صرخة رضيعها تجلبه تلقائيا . فهل صرخاتنا أمام الله تعالى عاجزة عن جلب شيء من عنده؟ كلا، بل إنها تجلب وتجلب كل شيء، ولكن العميان الذين يدّعون أنهم علماء وفلاسفة لا يقدرون على رؤية ذلك. لو فكر الإنسان في فلسفة الدعاء واضعا في الحسبان ما بين الطفل والأم من علاقة، لفَهِم موضوع الدعاء بمنتهى السهولة.
فالقسم الثاني من الرحمة يخبرنا أن هناك رحما ينشأ بعد السؤال، فلو ثابرتم على السؤال لوجدتموه. فقول الله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (غافر: ٦١) ليس
كلاما فارغا، بل هذا هو مقتضى الفطرة البشرية.
الملفوظات
۱۲۰
المجلد الأول
السؤال خاصية الإنسان والاستجابة صفة الله إن السؤال خاصية الإنسان والاستجابة صفة الله تعالى، ومن لم يفهم هذا الأمر
وأنكره فهو كاذب. إن مَثَل الرضيع الذي ذكرتُه آنفًا يبين فلسفة الدعاء أيما بيان. واعلموا أن الرحمانية والرحيمية متلازمتان لا تنفصلان فمن أراد إحداهما دون الأخرى فلن ينال شيئا. إنما مقتضى الرحمانية أن تجعلنا قادرين على الانتفاع من فيوض الرحيمية، ومن لم يستفد من الرحمانية فهو كافر بنعمة الله. إنما مفهوم إِيَّاكَ هو أننا نعبدك وحدك آخذين بالأسباب المادية التي وهبت لنا. خذوا مثلا
نَعْبُدُ
هذا اللسان المخلوق من عروق وأعصاب، فإنه إن لم يكن مخلوقا على هذا النحو لما قدرنا على الكلام. لقد رُزقنا من أجل الدعاء لسانًا قادرا على التعبير عما يختلج في قلوبنا من أفكار وأحاسيس فإن لم نستخدم اللسان من أجل الدعاء فهذه شقاوتنا. هناك أمراض كثيرة لو أصابت اللسان لتعطّل دفعةً واحدة وصار الإنسان أبكم. فما أعظمَ رحمة الله إذ أعطانا اللسان. كذلك لو حصل خلل في الأذن لما سمعنا شيئا. والحال نفسها للقلب؛ فلو أصابه المرض لفسد كل ما خلق الله تعالى فيه من قوة الخشوع والخضوع والتفكر والتدبر . انظروا إلى المجانين كيف تصير قواهم العقلية عاطلة. أفليس واجبا إذن أن نقدر هذه النعم الإلهية حق قدرها؟ لو تركنا هذه القوى التي أعطانا الله بكمال فضله ،عاطلةً، كنا ناكرين لنعمة الله حتما. فاعلموا أننا لو دعونا الله تعالى معطلين ما وهب لنا من القوى والقدرات فلن ينفعنا الدعاء شيئا. فما دمنا لم نستفد من العطية الإلهية الأولى فأَنَّى لنا أن نستفيد من
الأخرى وننتفع منها؟
ضرورة طلب البصيرة الحقة
فقولنا وإِيَّاكَ نَعْبُدُ يعني يا رب العالمين، إننا لم نبطل عطيتك الأولى ولم نعطلها. أما قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ فقد أمر الله تعالى فيه الإنسان
الملفوظات
۱۲۱
المجلد الأول أن يسأله البصيرة ،الحقة، إذ لولا فضل الله ولطفه لما كان بوسع الإنسان الضعيف المحاط بالظلمة والغواية تماما أن يقوم بالدعاء أصلا فما لم يدعُ الإنسانُ الله تعالى
مستفيدا من فضله الذي أصابه بفيض الرحمانية لم يحقق النتيجة المحمودة. قبل مدة كنتُ قرأت في القانون الإنجليزي أنه لا بد للمرء للحصول على القرض الزراعي من الدولة من إثبات ما يمتلكه من أموال وعقارات. فعليكم أن تنظروا إلى القانون الإلهي أيضا على هذا النحو لتروا ماذا حققتم بالاستفادة مما أوتيتم من قبل. فإن كنتم لم تنحرفوا ولم ترتكبوا الحمق والغباء بسبب ما أوتيتموه من قبل من عقل ووعي وبصيرة وسمع، فادعوا الله تعالى فيعطيكم مزيدا من فيوضه. وإن لم تفعلوا فاعلموا أن مصيركم الحرمان والشقاوة حتما.
معنى الحكمة
سيواجه أحبابنا المسيحيين كثيرا، وسيرون أنه ليس لدى هؤلاء الأغبياء ما يمكن عزوه إلى الله الحكيم. ما هي الحكمة؟ إنما الحكمة: "وضع الشيء في محله"، ولكن لن تجدوا عند هؤلاء القوم فعلاً أو حُكْمًا يتفق مع مفهوم الحكمة هذا. عند التأمل في اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ يتضح لنا كإشارة النص أن فيه أمرًا
إيَّاكَ
بالدعاء، أي أن ندعو الله تعالى للاهتداء إلى الصراط المستقيم، ولكن تقديم نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ على اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ يشير إشارةً واضحة إلى ضرورة الانتفاع من ذلك، أعني من واجبنا استخدام القوى السليمة الموهوبة لنا في الاستعانة بالله من أجل سلوك منازل الصراط المستقيم.
المراد من الأخلاق
والآن علينا أن نتأمل ونرى ما هي الأمور التي ينبغي أن نسأل الله إياها. إن أول ما يجب أن يسأل المرء هو الأخلاق التي تجعله إنسانا. لا تظنوا أن الأخلاق تعني الرفق واللين فقط. كلا بل هناك لفظان الخلق والخلق، وهما يدلان على معان
الملفوظات
۱۲۲
المجلد الأول متقابلة. فالخلق هو التكوين المادي، ويندرج فيه الأذن والشعر وما إلى ذلك، أما الخلق فهو اسم للتكوين الباطني ويشتمل على كل القوى الباطنية من عقل وفكر وغيرهما مما يميز الإنسان عن الحيوان. وبالخلق يصلح المرء إنسانيته. فلولا الأحكام المفروضة على البشر لقلنا أنهم ربما أناس أو حمير أو غيرها. ولو فشد خُلق الإنسان لم يبق منه إلا صورة من اللحم والدم. فلو اختل عقله مثلا سمي مجنونا، وإن سموه إنسانًا بالنظر إلى ظاهر صورته.
فالمراد من الأخلاق ابتغاء مرضاة الله تعالى كما نرى ذلك متجسدا في حياة النبي ، لذا فعلى المرء أن يسعى ليجعل حياته خاضعة لأسوة النبي . إن الأخلاق بمنزلة الأساس، ولو ظل الأساس متزعزعا لما قام عليه البناء. إن الأخلاق هي بمنزلة لبنة على لبنة أخرى، ولو وضعت واحدة منها غير مستقيمة اعوج الجدار كله.
هي
ولله در القائل:
خشت اول چوں نہر معمار کج تاثر یامی رود دیوار بیج
أي: إذا وضع البنّاء أول لبنة معوجّةً كان الجدار كله معوجا وإن وصل إلى الثريا. يجب أن تستمعوا لهذه الأمور بآذان صاغية. لقد رأيت أكثر الناس ودرست أوضاعهم بنظرة فاحصة فوجدت أن بعضهم يكون سخيا، لكنه يكون عصبيا الغضب. وبعضهم يكون حليما لكنه يكون بخيلا وبعضهم يثور غضبا وغيظا
سریع
حتى يجرح خصمه بضربات قاسية بالعصي ولا يوجد فيه ذرة من التواضع والتذلل. وبعضهم يكون جَمَّ التواضع والانكسار ، لكن تعوزه الشجاعة كلية، حتى ينخلع قلبه هولا بمجرد سماع اسم الطاعون أو الهيضة أنا لا أقول أنْ لا إيمان لمن يفتقر إلى الشجاعة لهذه الدرجة، إذ كان بين الصحابة أيضا من لم يكن فيه قدرة ولا خبرة للقتال، وكان الرسول يعذره. إن هذه الأخلاق كثيرة، وقد تناولتها كلها في محاضرتي في مؤتمر الأديان ببيان واضح ومفصل. لا يكون كل إنسان جامعا للصفات كلها، كما لا يكون محروما منها نهائيا.
الملفوظات
۱۲۳
المجلد الأول
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم السامية
من
الذهب
إن نبينا الذي كان كاملا في الأخلاق كلها هو الأسوة الأكمل، ولذلك قال الله تعالى في بيان عظمته : إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم: ٥). فنجده حينا يذهل جموع الناس بفصاحته وبلاغته وكأن على رؤوسهم الطير، وحينا آخر يبدي شجاعته تحت ظلال السيوف والسهام، وتارة يجود بالمال فيهب جبلاً وأخرى يتجلى حلمه العظيم فيطلق سراح قوم استوجبوا القتل بجرائمهم. باختصار، إن أسوة النبي الله لا اله الكاملة والمنقطعة النظير التي قدمها الله لنا تشبه شجرة عظيمة يستظل الناس بظلالها ويسدون كل حوائجهم بكل جزء من أجزائها، فثمارها وأزهارها وقشورها وأوراقها كلها نافعة ومفيدة إن مثل نبينا كمثل دوحة عظيمة يلوذ بظلها ملايين المخلوقات ويستريحون، كما تلوذ الفراريج تحت أجنحة أمها وتستريح. كان أقرب الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم في ساحة المعركة يُعدّ أشجعهم، إذ كان في أخطر موطن فيها. سبحان الله، ما أعظم شأن النبي الله. انظروا كيف كانت السيوف تقع عليه باستمرار في غزوة أحد، وكان الوطيس قد حمي بحيث لم يستطع الصحابة الصمود ، ولكن رجل الأزمة هذا ا ا ا ا ا ل ل ا ل ل يقاتل العدو صامدًا غير زائل من مكانه. لم يكن للصحابة فيما فعلوا ذنب، وقد عفا الله عنهم، وإنما كان السر والحكمة في ذلك أن تنكشف شجاعة النبي .. وفي غزوة أخرى كانت السيوف تقع عليه الواحد تلو الآخر، ومع ذلك ظل ينادى بصوت عال: إني محمد رسول الله. يقال أنه أصيب في جبينه سبعين إصابة، ولكنها كانت جروحا خفيفة. هذا هو الخلق العظيم. وذات مرة كانت في حوزته لله والخراف كثيرة جدا ربما لم توجد بهذه الكثرة عند قيصر وكسرى ،أيضا فوهبها كلها لبعض السائلين. فلو لم يكن عنده شيء فماذا يهبه للناس، ولو لم يُوتَ لا الهلال و الحكم والملك فما الدليل على عفوه عن كفار
عسى
أن
مكة الذين استوجبوا القتل مع قدرته عليهم كانوا قد آذوه وأصحابه، ذكورا وإناثا،
الملفوظات
١٢٤
المجلد الأول أذى شديدا، ولكنهم لما مثلوا أمامهم قال لهم لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ (يوسف: ٩٣. فلو لم تسنح له هذه الفرص لما ظهرت أخلاقه الفاضلة. وإن رسولنا الله
هو الوحيد الذي قد تحلى بكل خُلق من الأخلاق السامية على أكمل وجه. أما المسيح اللي فنضطر برؤية حياته للقول بأن أخلاقه ظلت طي الكتمان كلية. إن اليهود الأشرار الذين كانت تقدم لهم الكراسي عند رجال الحكومة الرومية التي كانت تكرمهم لكثرة عددهم ظلوا يضايقون المسيح ، أما هو فلم يأت في حياته وقت نال فيه الحكم حتى يقال إنه كان يعفو عن الناس مع قدرته عليهم. في حين نجد أخلاق رسولنا لها ثابتة تماما بالمشاهدة والتجربة. وهذا ليس مجرد كلام فارغ، بل نملك على صدقه أدلة صحيحة ويقينية كصحة ويقين مبادئ الهندسة والحساب، ونستطيع إثباتها كما نثبت أن ٢ و ٢ يساوي ٤ الأمر الذي لا يقدر على إثباته تابعُ أي نبي آخر في حقه. ومن أجل ذلك قد شبّهتُ النبي صلى الله عليه وسلم بشجرة كل شيء أجزائها من جذور وقشور وثمار وأزهار وأوراق نافع غاية النفع وباعث على
من
السرور والراحة.
ولكن لما افترقت أمة سيد الكون لالالالالاله بعد ه فِرقًا فلم تعد متحلية بتلك الأخلاق كلها، بل تفرقت تلك الأخلاق في أفرادها، ومن أجل ذلك يتحلى البعض ببعض هذه الأخلاق بسهولة، لكن لا يتحلى بها كلّها.
تزكية النفس والفلاح مع أننا كنا علمنا: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (الشمس: ۱۱-۱)، أي لقد فاز من قام بتزكية نفسه وهلك من أفسدها. علما أن الفلح يعني الشق، والفلاحة هي الزراعة وتزكية النفس أيضا نوع من لأن المجاهدة تطهّر أرض النفس من مفاسدها وقسوتها وتجعلها صالحة لزرع بذور الإيمان الحق فيها على ما يرام، لتصبح شجرة الإيمان قابلة لحمل الثمار. والمتقي
الفلاحة
الملفوظات
۱۲۵
المجلد الأول
لا بد له من مواجهة كبار الشدائد والصعوبات في منازل سلوكه الأولى، ولذلك
قد عُبّر عن ذلك بالفلاح.
وقال الله تعالى في آية أخرى: قُتِلَ الخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (الذاريات: ۱۱-۱۲)، وقد بين الله تعالى هنا حالة الكفار والغمرة تعني كل ما يغشى الشيء ويثقل عليه ولا يدعه يرفع رأسه. وثمة غمرة تغشى سطح الحقل وتقسيه وتسمى بلغتنا "كرند". فالله تعالى يقول في وصف الكفار : ويل لهؤلاء الخراصين الذين نفوسهم لا تزال في غمرة وغشاء. وبذكر هذا المثال قد حذر الله المؤمنين بأنهم لن يستطيعوا العمل على وجه البصيرة ولن يُعَدّوا من أولي الأبصار ما
لم تزل الغمرة عنهم. وقد استخدم الله تعالى هنا كلمة "قتل"، لأن هذا الموطن يتطلب الرحمة والشفقة، وكأنه تعالى يقول : إنهم هم الفاعلون لهذا الفعل ويهلكون أنفسهم بأنفسهم. ذلك أن بعض الناس دأبهم التخريص والتخمين لا يعملون ببصيرة وبُعدِ نظر، بل يعملون بناء على ظنون فاسدة ومجرد ،تخمين وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. كنت أود من هذا البيان تقديم أسوة النبي لا الهلال و الكاملة في الأخلاق. لقد كان الفرد الأكمل خُلقًا، ثم أخذ الناس بعده نصيبًا من أخلاقه، فهذا أخذ خُلقًا وذاك أخذ خلقًا آخر وصارا في غمرة بالنسبة للأخلاقه لا تلو الأخرى. على المرء أن يزيل عنه هذه الغمرة ،الروحانية وإلا فهناك احتمال أن يفقد صفاته الحسنة الأخرى أيضا، شأن الفلاح الذي لا مناص له من إزالة الغمرة عن الأشجار التي أصابتها
وإلا تضررت بها الأشجار الأخرى أيضا.
المفهوم الواسع "لكل داء دواء"
من
الخطأ القول بأن الإنسان قادر على تغيير بعض أخلاقه ولكنه ليس بقادر
على تغيير بعضها الأخرى. كلا، بل إن "لكل داء دواء". من المؤسف أن الناس لا
الملفوظات
١٢٦
المجلد الأول يقدرون هذا القول النبوي حق قدره ويظنون أنه ذو صلة بالأسقام المادية فقط. يا لجهالتهم وخطئهم فما دام الله تعالى قد هيأ لإصلاح الجسد الفاني ونفعه كل نوع الأسباب، فكيف لا يهيئ الدواء للأسقام الروحانية. كلا، إن الدواء موجود يقينا. إنه لمن الحق اليقين أن الله يكون في عون العبد الذي يكون في عون نفسه، أما الكسالى والمتساهلون فيهلكون في نهاية المطاف.
من
نوعان من الشيخوخة
عندما يأتي على الإنسان زمان النقص في الخلق، أعني زمان شيخوخته، فلا
أعضائه
تعمل عيناه عملها، ولا تسمع أذناه على ما يرام، ويصبح كل عضو من شبة معطل لا يؤدي وظيفته كما ينبغي. واعلموا أن هذه الشيخوخة نوعان: طبيعي وغير طبيعي. فأما الشيخوخة الطبيعية فهي ما ذكرته آنفا، وأما الشيخوخة غير الطبيعية فهي ألا يهتم المرء بما أصابه من أمراض فتضعفه وتجعله شيئًا هرما قبل الأوان. والنظام الباطني الروحاني مماثل للنظام الجسماني الظاهري، وإذا لم يشع المرء لتغيير أخلاقه السيئة بأخلاق حميدة وشمائل محمودة، فإنه يتردى من حيث الأخلاق كلية. إن الثابت من قول النبي الهلال اليوم من تعاليم القرآن الكريم جليًّا أن لكل داء دواء، ولكن إذا صار الإنسان مغلوبا بالكسل والتهاون فليس مصيره إلا الهلاك. إذا عاش غير مكترث لما ألم به كما يعيش العجائز، فكيف ينجو من الهلاك؟
الله
تغيير الأخلاق ممكن بالمجاهدة والدعاء والغمرة التي تغشى قلب الإنسان لا تزول إلا بالمجاهدة والدعاء. قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (الرعد: ١٢)، أي: لا يكشف عن قوم قوم أي نوع من الآفات والمصائب ما لم يسعوا لإزالته. فما لم يرفعوا الهمم ولم يتشجعوا لذلك فكيف يحصل التغيير؟ إنها سنة الله تعالى التي لا تتغير حيث قال: وَلَنْ تَحِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا (فاطر ) (٤٤. فسواء كانت جماعتنا أو غيرها، فليس بوسعهم تغيير أخلاقهم إلا أن يجاهدوا ويدعوا أما بدون ذلك فالأمر محال.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الردود على الأسئلة التي يطرحها الناس عادة السؤال ١: أين يثبت موت المسيح ابن مريم من القرآن الكريم؟ بل إن قوله تعالى: ﴿رَافِعُكَ إِلَيَّ" و"بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ" يدلّ على أن المسيح رفع إلى السماء بجسده. وكذلك الآية: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ؟ تدل على أن المسيح لم يُقتل ولم يمت على الصليب. الجواب: فليتضح أن معنى الرفع إلى الله هو الموت، كذلك إن لقول الله : ارْجِعِي إِلَى رَبِّك"، وقوله: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ" المعنى  نفسه. إضافة إلى ذلك إن الوضوح والجلاء والتفصيل الذي ورد به ذكر موت المسيح في القرآن الكريم لا يتصور أكثر منه؛ لأن الله قد بين وفاة المسيح بوجه عام وبوجه خاص أيضا، كما يقول مثلا على وجه العموم: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ " . إن هذه الآية التي قدّمتُها للاستدلال تدل بصراحة متناهية أن الموت قد  أصاب  جميع الرُّسُل، سواء أكان بالموت الطبيعي أو بالقتل، ولم يسلم من الموت نبي من الأنبياء السابقي...

شرح وتفسير: "وكان عرشه على الماء".

 شرح وتفسير: "وكان عرشه على الماء". النقاش عن كون العرش مخلوقا أو غير مخلوق عبث:  فقال عليه السلام:  الناس يتفننون في آرائهم حول هذا الموضوع، بعضهم يصفونه بالمخلوق وبعضهم يصفونه بغير المخلوق، ولكن لو لم نصفه بغير المخلوق لبطل الاستواء. لا شك في أن النقاش حول كون العرش مخلوقا أو غير مخلوق عبث أصلا، هذه استعارة، حيث بين الله فيه رفعته العالية، أي هو مقام منزه عن كل جسم ونقص، ويقابله هذه الدنيا وهذا العالم كله. وليس للإنسان اطلاع كامل عليه. هذا المقام يمكن أن يسمى قديم، فالناس يستغربون من ذلك ويحسبونه شيئًا ماديا. وانطلاقا من القدم يرد الاعتراض على ورود الحرف "ثم". فالحقيقة أن القدم يشمل "ثم" أيضًا. كما عندما يكون القلم بيد الإنسان فتتحرك اليد أيضًا حيثما يتحرك القلم، لكن يكون التقدُّم لليد. يعترض الآريون على المسلمين عن قدم الله، ويقولون إن إله المسلمين موجود منذ ستة أو سبعة آلاف سنة. وهذا خطؤهم، فمن الغباوة أن يقدر عمر الله بالنظر إلى هذا المخلوق. فلا نعلم ما الذي كان قبل آدم ومن أي نوع كان ذلك المخلوق. والله الله أعلم بذلك الوقت: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْ...
لا بد من التقوى من أجل الفتح: وما دام الأمر هكذا، فاعلموا أن التقوى ضرورية للمرء لكي تنفتح عليه أبواب الحقائق والمعارف فاتقوا الله ، لأن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل (۱۲۹) . ولا أستطيع أن أحصي لكم كم مرة تلقيت هذه الآية في الوحي، إذ أوحيت إلي مرات كثيرة جدا. لو أننا اكتفينا بالأقوال دون الأفعال، فاعلموا أن لا جدوى من ذلك. إن النصر  يتطلب التقوى، فكونوا متقين إن أردتم النصر. ضرورة التضحيات المالية لنشر الإسلام أرى أن نساء الهندوس والنصارى أيضا يوصين بعقارات كبيرة وأموال طائلة لنشر  دعوتهم، ولكن لا نجد نظير ذلك في المسلمين في هذه الأيام. إن أكبر مشكلتنا  هي  الحاجة إلى النصرة المالية لنشر الإسلام. اعلموا أن الله  تعالى هو الذي أراد تأسيس هذه الجماعة بيده وسوف يكون حاميها وناصرها، ولكنه يريد أن يؤتي عباده الأجر والثواب، ومن أجل ذلك قد اضطر الأنبياء لطلب المساعدة المالية. لقد طلب رسول الله النصرة المالية ، وعلى نفس المنهاج ، الذي هو منهاج النبوة، نذكر أحبابنا بحاجات الجماعة من حين لآخر. ومع ذلك أقول: إ...