الفصل الثاني:
البرهان على ورود ذكر الدجّال في القرآن الكريم.
يعتقد البعض خطأ أنه لم يَرِدْ لخروج الدجّال وظهور فتنه ذكر في القرآن الكريم، وأنّه ليس ثمة دليل في كتاب الله على ظهور المسيح الدجال، حيث نقرأ في الكتاب الشهير (كبرى اليقينيات الكونية، للأستاذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي - أحد أشهر علماء الشام - شرحاً هامشياً يبيّن فيه ، برأيه . السبب الكامن وراء عدم ذكر قصة الدجّال في القرآن الكريم، فيقول:
"قد يتساءل البعض: لماذا لم يكن لقصة الدجّال وخبره ذكر في القرآن، وما السر في أن كل ما جاءنا من أخباره أحاديث عن الرسول فقط.
والجواب: إنّه لا يبعد أن تكون الحكمة من ذلك هي أن الدجال أهون على الله من أن يسجل اسمه في كتابه وكلامه القديم، يُتلى على ألسنة الناس في كل زمان ومكان. وقد درج القرآن في أسلوبه وإخباراته على عدم ذكر الأسماء - اللهم إلا الرسل والأنبياء - وبعض الطغاة الذين أرسلوا إليهم. أَفَيَخصّ الدجّال وحده بالذكر والتعيين؟ " / (كبرى اليقينيات الكونية للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ص 322-321.
إننا، مع تقديرنا لأفهام وآراء الدكتور البوطي، مضطرون إلى القول بأنّ تفسيره للحكمة الإلهية في عدم إيراد خبر الدجّال في القرآن الكريم غير مقنع، كما أنه يشير إما إلى عدم اطلاعه على تفسير سيدنا رسول الله صلی عليه وآله وسلم للآيات الكريمة في القرآن الكريم التي أشارت إلى ورود ذكر الدجال كما سنرى في هذا الفصل، أو أنه بالرغم من اطلاعه على هذا التفسير فإنه لم يأخذه بعين الاعتبار، ولم يهتمّ بِلَفْتِ النظر إليه. ولذلك لا يمكننا أن نوافق الدكتور على رأيه هذا حتى لو أردنا ذلك، لأسباب نبينها فيما يلى وأهمها :
إن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه قد أكد لنا في الحديث الصحيح أنّ الله تعالى قد أورد ذكر الدجّال في القرآن الكريم على أنّه إحدى آيات الله التي ينبغي على المؤمنين ألا يكفروا بها حين ظهورها، لأنه سيكون في التصديق بها وإظهارها تصديق لنبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإظهار لدين الله العظيم: الإسلام.
فإذا كان زعم الدكتور حقاً بأن الله تعالى لم يذكر الدجال في القرآن الكريم احتقاراً لشأنه ، ولكونه أهون على الله من أن يُذكر فيه، فلا بد هنا من أن نسأل :
أولاً : ألم يرد في أحاديث رسول الله صلى الله عليـه وآلـه وسـلـم أنّ فتنـة الدجال هي أخطر وأشد فتنة على الجنس البشري منذ خلق آدم وإلى قيام الساعة؟
ثانياً: ألم يذكر القرآن الكريم الفِتَن الأقل شأناً وخطراً من الدجّال مثل فتنة الناس واليهود ودابة الأرض وغيرها من الفِتَن؟ كيف يمكن إذن تفسير ذكر القرآن للفتن الأقل شأناً في مقابل الزَعْم أنّ الدجّال – وهو الفتنة الأخطر شأناً - لم يذكره الله لأنه أهون عليه من أن يذكره في "كتابه وكلامه القديم يتلى على ألسنة الناس"؟!
ثم أليست نبوءات الرسول الكريم عن الدجّال وغيره هي من كلام الله القديم وعلمه بالغيب الذي لا يعلمه إلا هو ؟ ثم أليس صحيحاً أننا كمسلمين ننظر إلى كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونتعامل معه بالقداسة نفسها التي نتعامل فيها مع كلام الله؟
ثم أيهما أحقر وأهون عند الله سبحانه : الدجّال أم الشيطان؟ فإذا كان عز وجل قد ذكر الشيطان وهو أهون الخلق عنده ، فكيف يقول الدكتور بأنّ الله تعالى لم يذكر الدجّال، لأنه أهون عليه من أن يذكره في كتابه؟!
صيح أن الدجّال لم يُذكر بالاسم الصريح في القرآن الكريم، غير أنّ المفسرين الأوائل - كما كان يجب أن يعلم الدكتور البوطي – قد أوردوا في تفاسيرهم أن الدجال قد ورد ذكره في آيات معينة في القرآن الكريم، وإليكم البيان:
1) جاء في (تفسير البغوي) أنّ الدجّال مذكور في القرآن الكريم في قول الله تعالى:
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) غافر : 58 /. والمراد بالناس بحسب تفسير البغوي: الدجّال.
2) وجاء في تفسير معالم التنزيل ولباب النقول في أسباب النزول) للسيوطي، ما يلي:
"وقال قوم: أكبر وأعظم خلقاً من خلق الدجّال، ولكن أكثر الناس لا يعلمون". / تفسير معالم التنزيل.
3) كما ورد أيضاً المعنى نفسه في تفسير (فتح القدير) / الجزء الرابع / بسند صحيح- راجع التفسير المذكور.
(4) وجاء في حديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يؤكد هذه التفاسير التي تقول بأن المقصود بالناس الدجّال، حيث نقرأ في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال:
(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجّال). / سبق تخريجه.
وقد جاء في قواميس اللغة العربية أنّ كلمة (الخلق) تعني: الناس.
(5) ونجد في " فتح الباري - الجزء 13 " تفسيراً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤكد فيه أن ذكر الدجال قد ورد في القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى :
يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا الأنعام: 159.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(ثلاثة إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً : الدجّال والدابة وطلوع الشمس من مغربها). /أخرجه الترمذي.
بمقارنة هذه الآية الكريمة بالحديث الشريف، نجد أنّ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بيّن أنّ أوّل هذه "الآيات" الواردة في هذه الآية الكريمة هو الدجال، وأنّ هذه الآيات هي: الدجّال والدابة وطلوع الشمس من مغربها .
والآن، أفلا يُبين هذا ويؤكد أنّ الدجّال مذكور في هذه الآية من القرآن الكريم على أنّه آية من آيات الله تعالى؟ وهل بعد بيان رسول الله صلى عليه وآله وسلم في تفسيره للقرآن بيان أو مجال لترجيح رأي شيخ من المشايخ أو زاعم من الزاعمين؟
كان على الدكتور أن يشير إلى عدم اطلاعه على هذه التفاسير، أو أن يوردها - إن كان يعرفها - للأمانة العلمية!
6: ومن البراهين على أنّ ذكر الدجّال قد جاء في القرآن الكريم، الحديث الذي جاء في صحيح مسلم عن سيدنا المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حيث قال:
من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف عُصم من فتنة الدجال).
مسلم وأحمد وداود والنسائي عن أبي الدرداء.
إنّ هذا الحديث يُبيّن بكل وضوح أنّ سورة الكهف تحتوي على ذكر الدجال بحيث يمكن فهم حقيقته من خلال دراستها، لأن القرآن الكريم إنما هو كتاب علم ومعرفة ، وليس كتاب سحر وشعوذة، يُبعد الشر بأساليب السحرة والمشعوذين.
وإننا سنعمل في هذا الكتاب - بعون الله تعالى - على كشف وبيان حقيقة المسيح الدجّال من خلال سورة الكهف، تطبيقاً لإرشاد وهدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الرجوع إلى هذه السورة لفهم حقيقة الدجّال والاعتصام من شره وفتنته التي هي أشدّ الفتن على الجنس البشري قاطبة.
الفصل الثالث:
عرض النصوص والأحاديث الشريفة المتعلقة بظهور المسيح الدجال.
لا شكّ في أنّ القرآن الكريم يفيض بالنبوءات المتعلقة بمستقبل الإنسان وأيامه ومصيره. ومن جملة ما تنبأ به، أنّ الإنسان سيتوقف عن استخدام النوق والعشار وأمثالها كوسائط أساسية للنقل، وسيستخدم وسائط أخرى بديلاً منها، مما سييسر الله له اختراعه، قال تعالى:
وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ) التكوير : 4 .
والعشار هي النوق التي كانت تُعدّ من أهم وسائط النقل التي كان الناس يستخدمونها زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن باستطاعة أحد في ذلك الوقت أن يتخيّل إمكانية أن يستغني عنها أحد من الناس بحال من الأحوال.
كما تنبأ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بترك استخدام القلاص (النوق كوسائط للنقل فقال:
لتتركن القلاص فلا يُسعى عليها / صحيح مسلم عن أبي هريرة .
وبيّن لنا ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم أنّ ترك السعي على هذه الدواب کوسائط للنقل، إنما سيكون بسبب ما قَدّر الله للإنسان من اختراع وسائل بديلة تماثل هذه الدواب من حيث كونها وسائط للنقل أيضاً، فقال تعالى : وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ﴾ ياسن : 42 .
وجاء في أحاديث رسول الله صلى الله عليها وسلّم نبوءات مذهلة تتعلق بواسطة النقل التي سيستخدمها الدجّال عند ظهوره، وقد أطلق على هذه الواسطة اسم "حمار الدجّال"، وبيّن أنّ المسيح الدجال يأتي على هذا الحمار الهائل الذي يأكل النار في أحشائه، وله فتحة يُخرج منها النار والدخان، وينطلق في سرعات هائلة براً وبحراً وجواً ، لونه أقمر شديد البياض، أهلب لا شعر له، وطول كل أذن من أذنيه ثلاثون ذراعاً، وعرض ما بين أذنيه سبعون ذراعاً، وما بين حافره إلى حافره مسيرة يوم وليلة. تُطوى له الأرض منهلاً منهلاً، يسبق الشمس إلى مغيبها. طوله في الأرض ستون خطوة، ولونه أحمر- إنّ اللون الأحمر لحمار الدجال هنا هو فقط المتعلّق بالحمار البري الذي طوله ستون خطوة ، كما في الحديث ، وأما الحمار الجوّي فلونه أقمر كما في الحديث أيضاً.- ، طعامه الحجارة، وله فتحة يُخرج منها ناراً ودخاناً، لا يُدرى قبله من دبره، يتقدّمه جبل من دخان، يخوض البحر لا يغرق ولا يبلغ الماءُ حقويه، وسرعته كالغيث إذا استدبرته الريح. له سروج وفروج ودوي يملأ ما بين الخافقين، ويدعو الناس للركوب فيه.
هذا هو حمار الدجّال في النبوءات المذهلة لسيدنا خاتم النبيين، محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما عن نبوءاته المتعلّقة بالمسيح الدجال نفسه، فقد قال إنّ الدجّال أجعد الشعر أعور العين اليمنى وعينه اليسرى كأنها عنبة طافئة، وفي رواية: كأنها كوكب دري؛ وله قدرات خارقة بحيث أنه يسيطر على الأرض والناس براً وبحراً وجواً، فيأمر السماءَ فتُمطر، ويأمر الأرض فتنبت وتُخرج كنوزها وتتبعه كيعاسيب النحل. وكذلك يسيطر على مياه الأنهار، فيأمر الماء أن يرتد فيرتد وأن يجري فيجري، ويأمره أن ييبس فييبس. ويسيطر على البحار والمحيطات، فيطوف فوق مائها ويجتازها بسرعات كبيرة ،ويُخرج من كنوزها وحيتانها ما يشاء. ويُغني أقواماً . إذا ما انصاعوا له وقبلوا دعوته . فيجعل أراضيهم جنات خضراء مثمرة ومواشيهم مسمّنة باللحم وممتلئة الضروع باللبن. ويحاصر الأقوام التي ترفض دعوته والانصياع له ، فيُحاصرهم ويفقرهم ويجعل أراضيهم ممحلة ومواشيهم معروقة وأيديهم فارغة. كما يسيطر على طيور السماء ، فيتناولها من الجو ويشويها في الشمس شيّاً. ويمعن في خوارقه ، فيحيي الموتى، ويشق الإنسان نصفين ثم يعود فيضمه ويحييه من جديد فيأتي يتهلل وجهه يضحك! ويأتي الدجّال بمثل الجنة والنار، ويكون معه جبال من لحم وخبز وأنهار من ثريد، تتقدمه النار. في حين يكون من ورائه جنة وجبل أخضر.
أما عن زمن الدجال العجيب، فإنّه يختلف اختلافاً كبيراً عن المألوف حيث يجعل الدجّالُ الزمن يتقارب فتصير السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كضرمة النار. كما أن المدن في زمانه تتوسع وتنمو .
وتختلف أحوال الغذاء بالنسبة إلى المؤمنين، فيصير التهليل والتسبيح والتكبير بمثابة الغذاء لهم. وأما بعد القضاء على الدجّال وانتشار العدل في الأرض، فتختلف الغرائز والنفوس الحيوانية؛ إذ يصير الذئب في الغنم ككلبها، وتمشي الناس بين الوحوش الضارية فلا تؤذيهم ، ويدخل الأولاد أيديهم في أفواه الأفاعي السامة فلا تلدغهم، وتمرّ الغنم بالحقول فلا تمس السنابل ولا تأكلها ولا تكسر أعواد الزروع -راجع هذه الأحاديث في مصادر الحديث بحث الدجال والمهدي ، وكذلك في معجم أحاديث الإمام المهدي، الجزء الثاني .-.
وهكذا تطرح أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المتعلقة بظهور الدجّال الكثير من الغرائب والعجائب التي يصرّ المشايخ على الأخذ بحرفيتها، باعتبار أنها أحاديث صحيحة مسندة متواترة ثبتت وصحت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيحيلونها بذلك إلى ما يُشبه الخرافات والأساطير ! ولا شكّ في أنّ هذه الأحاديث صحيحة متواترة، ولكن الأخذ بحرفيتها يتنافى ويتناقض مع العقل والعلم والمنطق الإنساني السليم، والأهم من ذلك، أنه يتنافى ويتناقض مع المنطق الإيماني في القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كما سنبرهن في الفصول القادمة. ولكن فهم هذه الأحاديث على ضوء البيان والتعليم القرآني الكريم سوف يبدي أنها آيات إعجازية مذهلة تشهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته للعالمين كما نوهنا آنفاً.
وبما أنّ الأحاديث الشريفة التي ذكرت الدجّال وفتنه كثيرة جداً، كان لابد من ذكر بعضها فقط ، مما يُساعد على بيان حقيقة الدجّال دون إسهاب أو إطناب؛ ولذلك فإننا سنعرض الأحاديث التالية، ثم نعمد إلى مناقشة كل واحد منها في محله بعد أن نبين الهدي القرآني المتعلق بفهم النبوءات التي يُظهر الله عليها أنبياءه ، وكيف يجب على العلماء والفاهمين أن يؤوّلوها ويفهموها :
الأحاديث الصحيحة المتعلقة بظهور المسيح الدجال:
عن علي رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: تحتَ الدجّال حمار أقمر، طول كل أذن من أذنيه ثلاثون ذراعاً ... تُطوى له الأرض منهلاً منهلاً، يتناول السحاب بيمينه .. ويسبق الشمس إلى مغيبها، يخوض البحر إلى كعبيه ..) . / (كنز العمال) وأورده صاحب عقد الدرر في أخبار المنتظر)
وأورد الإمام المقدسي في كتابه (عقد الدرر في أخبار المنتظر) ص 276 الحديث التالي :
(يخرج - الدجال - على حمار مطموس العين مكسور الطرف، يخرج منه الحيات، محدودب الظهر، قد صُوّر كلّ السلاح في يديه، حتى الرمح والقوس، يخوض البحار إلى كعبيه.
ذكره الإمام أبو الحسن محمد بن عبيد الله الكسائي في قصص الأنبياء.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في قصة الدجّال : (.. له حمار أحمر طوله ستون خطوة ... / (عقد الدرر في أخبار المنتظر ) ص: 274.
وجاء في رواية أنّ حمار الدجّال طوله ستون ذراعاً ، لا يُدرى قبله من دبره يتقدمه جبل من دخان. كما ورد أنّ طعامه الحجارة وله فتحة يُخرج منها النار، وله دوي يملأ ما بين الخافقين.
وعن حذيفة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يركب الدجالحماراً أبتر ، بين أذنيه أربعون ذراعاً، يستظل تحت أذنيه سبعون ألفاً من اليهود).
وروى أبو نعيم عن حذيفة رضي الله عنه في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن حمار الدجال:
يخوض البحر لا يبلغ حقويه، وإحدى يديه أطول من الأخرى، فيبلغ قعره ، فيُخرج من الحيتان ما يشاء.
وفي رواية: (فيمد يده الطويلة فيُخرج ما يشاء).
وفي حديث رواه المنادي عن عليّ كرم الله وجهه أنّ الدجّال:
يتناول السحاب بيمينه ويسبق الشمس إلى مغيبها يخوض البحر إلى كعبيه، أمامه جبل من دخان ، وخلفه جبل أخضر، ينادي بصوت يسمع له ما بين الخافقين: إليّ أوليائي، إليّ أوليائي، إلي أحبابي، إلي أحبابي. فأنا الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، وأنا ربكم الأعلى. كذب عدو الله.
وورد في حديث رواه الحاكم وابن عساكر عن ابن عمران أن الدجّال:
يسيح الأرض كلها في أربعين يوماً، وما من بلد إلا وسيطؤها إلا مكة والمدينة، ويتناول الطير من الجو ويشويه في الشمس شياً).
وجاء في كتاب (الإشاعة لأشراط الساعة للإمام البرزنجي) من حديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الدجّال:
يأتي النهر فيأمره أن يسيل فيسيل، ثم يأمره أن يرجع فيرجع، ثم يأمره أن ييبس فييبس) / رواه نعيم بن حماد ص 129. 125:
وروى الحاكم وابن عساكر عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قال في الدجّال : .... يسير معه جبلان، أحدهما فيه أشجار وثمار وماء، وأحدهما فيه دخان ونار. فيقول هذه الجنة وهذه النار).
وروى نعيم وحذيفة عن ابن عمر في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الدجال أنّ معه: جبل من تريد ونهر ماء.
وعن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (يخرج الدجال في خفّة من الدين، وإدبار من العلم .. وله حمار يركبه، عرض ما أذنيه أربعون ذراعاً . فيقول للناس: أنا ربكم ، وهو أعور، وربكم ليس بأعور ، مكتوب بين عينيه " كافر " مهجأة ، ك ا ف ر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب، .. ومعه جبال من خبز ).
رواه أحمد في مسنده، وصححه الحاكم في المستدرك، ورجاله ثقاة.
وجاء في صحيح مسلم عن حذيفة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
(إنّ الدجال يخرج، وإن معه ماء وناراً، فأما الذي يراه الناس ماءً فنار تحرق، وأما الذي يراه الناس ناراً فماء عذب بارد. فمن أدرك ذلك منكم ، فليقع في الذي يراه ناراً فإنه ماء عذب بارد).
وفي رواية ابن أبي شيبة:
معه من كل لسان ، ومعه صورة الجَنة خضراء، يجري فيها الماء، وصورة النار سوداء ، تُداخن. / معجم أحاديث الإمام المهدي ج 2 ص 6.
كما جاء في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان في حديث طويل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال:
(غير الدجال أخوفني عليكم. إن يخرج وأنا فيكم ، فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم، فامرؤ حجيج نفسه ، والله خليفتي على كل مسلم .. فمن أدركه منكم ، فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف .. قلنا يا رسول الله: وما إسراعه في الأرض؟ قال : كالغيث استدبرته الريح. فيأتي على القوم ، فيدعوهم ، فيؤمنون به، ويستجيبون له ، فيأمر السماء فتمطر ، والأرض فتنبت .. ثم يأتي القوم، فيدعوهم، فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم .. ويمرّ بالخربة ن فيقول لها : أخرجي كنوزك ، فتتبعه كيعاسيب النحل. ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً ، فيضربه بالسيف ، فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه، فيقبل ويتهلل وجهه يضحك.
فبينما هو كذلك، إذا بعث الله المسيح بن مريم ، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهزودتين، واضعاً كفّيه على أجنحة ملكين .. فلا يحل لكافر يجد ريح نَفَسِه إلا مات، ونَفَسُه ينتهي حيث ينتهي طرفه ، فيطلبه حتى يدركه بباب لد ، فيقتله. ثم يأتي عيسى بن مريم قوم عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم، ويحدّثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك، إذ أوحى الله إلى عيسى: إني أخرجت عباداً لي، لا يدان لأحد بقتالهم، فحرّز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج ، وهم من كل حدب ينسلون ... إلى آخر الحديث.
وجاء في كنز العمال - الجزء 14 ، حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الدجّال:
لا يخرج الدجال حتى يذهل الناس عن ذكره، وحتى يترك الأئمة ذكره على المنابر).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الدجال:
(إنما أحدّثكم هذا لتعقلوه، وتفهموه ، وتفقهوه، وتعوه. فاعملوا عليه، وحدّثوا به من خلفكم، وليحدّث الآخرُ الآخر، إنه أشدّ الفِتَن).
نعيم بن حماد ( الإشاعة لأشراط الساعة للإمام البرزنجي ص: 128.
هذه باقة من الأحاديث الشريفة التى يصرّ أصحاب التعصب الحرفي على الأخذ بحرفيتها؛ الأمر الذي يبدو بطلانه واضحاً من الوهلة الأولى.
وسنبحث في الفصل القادم في الأساس القرآني الذي لابد أن نبني عليه أسلوب الفهم والأخذ، كي لا تُحيل إعجاز الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى خرافات وأساطير بجهلنا وطيشنا وقلة تفهمنا وتدبّرنا.
الفصل الرابع:
بين التمسك بالحرفية وضرورة التأويل:
ثمة صراع قديم بين التمسك بحرفية النصوص الدينية المقدسة والضرورة التي تُحتّم - في كثير من الأحيان - تأويلها بشكل منطقي يقبله العقل دون أن يكون ذلك على حساب النص الموثق.
ويتبدى هذا الصراع حاداً أكثر ما يتبدّى حول النصوص المتعلقة بالنبوءات المستقبلية التي وردت في الكتب المقدّسةن التوراة والإنجيل والقرآن الكريم ، لدى أصحاب الرسالات السماوية اليهودية والمسيحية والإسلام.
-
وأما فيما يتعلّق ببحثنا هذا: خروج المسيح الدجال) فإن الصراع بين الإصرار على التمسك بحرفية النص وضرورة الأخذ بالتأويل يكاد يبلغ ذروته القصوى، كما أنه يقسم الباحثين والمهتمين - من حيث الفهم والاعتقاد - إلى فريقين متباينين وقد يصل الخلاف بينهما إلى حدّ يجعل القائلين بالحرفية يتهمون مخالفيهم بإفساد العقيدة والناس، وقد يصل أحياناً إلى حدّ تكفيرهم! ولما كان لابـد مـن وجـود (حقيقـة) في الأمر، تكـون هـي الأصل والمرجع الصحيح الذي يجب أن يؤخذ به، كي تفهم - من خلاله – الحقائق ذات الصلة، لذا فإنّ من الضروري لكلا الفريقين أن يُعاودوا النظر في موقفهما الاعتقادي من غير تعصب أو تصلب، وذلك بغية الوصول إلى الفهـم والاعتقاد السليمين الخاليين من شوائب التقليد الأعمى المتوارث دون ما تفكر أو دراسة أو تمحيص لتبيّن الهذي الصحيح للنصوص المقدّسة، والتي لا ريب في أنها لم ترد عبثاً، بل جاءت تحمل رسالة يقصد منها الهداية إلى فهم أو ممارسة معيّنة؛ وبذلك يستنير الفرد والمجتمع بالهذي الصحيح للنبوءة المقدّسة، ويصير أقرب إلى الإيمان الحق الذي يعتقد المؤمنون أن فيه الخير. ولا شكّ في أن الإيمان الحق يجب أن يهدي إلى العمل الحق الذي فيه كل الخير للإنسان الفرد وللبشرية جمعاء.
*
ضلال الفهم المترتب على التمسك بالحرفية:
مما لاشك فيه أن أحاديث خروج الدجّال ومجيء المسيح الموعود عليه السلام قد بلغت حد التواتر ولا يمكن إنكارها، كما بيّن ذلك العلماء المحققونن ومن بينهم القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني في (التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر والدجّال والمسيح) . راجع كتاب " الإذاعة لأشراط الساعة لمحمد صديق حسن الفنوجي البخاري، وكتاب " المهدي المنتظر" للأستاذ إبراهيم المشوخي ص 34. ولكن المسلم المصدق بها ، يجد نفسه مضطراً إلى عدم الأخذ بحرفيتها لأنّ من يدرس هذه الأحاديث بمجملها - على ضوء الأسس الإيمانية المبينة في القرآن الكريم والحديث الصحيح ، يجد أنّ الإصرار على فهم هذه الأحاديث الشريفة بالحرفية التي جاءت فيها دون أي توفيق أو تأويل منطقي مدروس على أساس الهدي القرآني الصحيح، يضع الفأس على رأس التوحيد، كما أنه يؤدي بكلّ تأكيد إلى :
1 . التناقض بين بعض هذه الأحاديث وبعضها الآخر.
2 . التناقض بين هذه الأحاديث والقرآن الكريم.
3 . التناقض بين هذه الأحاديث والمنطق العلمي والعقلي السليمين.
وبما أنه يستحيل وجود أية تناقضات في الأحاديث الصحيحة، فلا بد إذن من محاولة فهمها على أسس التأويل التي أقرها وبينها القرآن الكريم كما سنبين ذلك في مكانه من هذا الكتاب بعون الله تعالى.
ولبيان التناقض المترتب على الأخذ بالحرفية نورد الأمثلة التالية:
دخول الدجّال مكة وطوافه بالبيت:
جاء في عدد من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الدجال لا يستطيع دخول مكة ولا المدينة، لأنّ الله عزّ وجل قد حرم عليه دخولهما، ولكننا نقرأ في أحاديث أخرى أنّ الدجّال يدخل مكة ويطوف بالكعبة، فقد جاء في صحيح مسلم ومسند ابن حنبل في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحديث التالي، حيث يقول الدجال عن نفسه:
وإني أوشك أن يؤذن لي بالخروج ، فأخرج، فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة ، هما محرّمتان على كلتاهما).
وكذلك روى ابن ماجة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام الحديث التالي:
لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه - أي الدجّال - وظهر عليه، إلا مكة والمدينة، فإنه لا يأتيهما من نقب من نقابهما ، إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة..).
يتأكد من هذين الحديثين أنّ الله عزّ وجل قد حرم على الدجال دخول مكة والمدينة بالرغم من أنّه سيظهر على الأرض كلها، في حين أننا نقرأ في الحديث التالي أنّ الدجّال يدخل مكة ويطوف بالكعبة أيضاً.
جاء في صحيح البخاري في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر عن رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم قال:
وأراني الليلة عند الكعبة في المنام، فإذا رجل آدم كأحسن ما يُرى من أدم الرجال تضرب لمّته بين منكبيه رجيل الشعر يقطر رأسه ماء، واضعاً يديه على منكبي رجلين ، وهو يطوف بالبيت.
فقلت: من هذا؟
فقالوا: هذا المسيح بن مريم.
ثم رأيت رجلاً وراءه، جعداً قططاً أعور العين اليمنى، كأشبه ما رأيت بابن قطن، واضعاً يديه على منكبي رجل يطوف بالبيت.
فقلت: من هذا؟
قالوا: المسيح الدجال).
صحيح البخاري، كتاب الرؤيا وصحيح مسلم.
أجمع العلماء على أنّ رؤى الأنبياء حق لأنها من الله، ونجد في هذا الحديث أنّ الدجّال يدخل مكة ويطوف بالكعبة؛ في حين جاء في الحديث الآخر أنّ مكة والمدينة محرّمتان على الدجّال ولا يستطيع دخولهما، فكيف يمكن فهم هذا التناقض؟! ثم كيف يمكن لعملاق قَدِرَ على الأرض جميعها أن يعجز عن دخول مدينتين صغيرتين منها؟ وما القوى التي ستمنعه، في حين أنّه قد ملك القوى كلها، كما تبين الروايات التي تتحدث عنه؟ - سنعمد إلى حل هذه الإشكاليات في حينها ، ونبيّن أنّ التناقض إنّما ينشأ عن الفهم الحرفي الخاطئ، وأنّه ليس ثمة تعارض أو تناقض في هذه الأحاديث.-.
ومن الأسئلة الإشكالية التي قد تُثيرها هذه الأحاديث أيضاً - في نظر بعضهم - هي: كيف يدخل الدجّال مكة ويلتقي بالمسيح الموعود عليه السلام في حين أنّ الدجّال لا يستطيع مواجهته؟ إذ ورد في أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الدجّال إذا رأى المسيح الموعود ذاب كما يذوب الملح، أو كما يذوب الرصاص، أو انماث كما تنماث الشحمة في الشمس، أو أنه يموت بِنَفَسِهِ لأنه كافر؛ فقد ورد أنه لا يحل لكافر يجد ريح نفس المسيح الموعود عليه السلام إلا مات. / راجع هذه الأحاديث في بحث الدجّال في مصادر الحديث الشريف.
وجاء أنّ القاضي عياض أجاب عن هذا الإشكال فقال:
"إن رؤيا الأنبياء وإن كانت وحياً إلا أنّ منها ما يقبل التعبير ".
ويؤكد العلامة علي القارّي هذا المذهب في الفهم فيقول:
"قال التوريشي: إنّ طواف الدجّال عند الكعبة مع أنّه كافر، مؤوّل بأنّه رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو من مكاشفاته، إذ كوشف بأنّ عيسى في صورته الحسنة التي ينزل عليها يطوف حول الدين، لإقامة أموره وإصلاح فساده، وأن الدجال في صورته الكريهة التي يظهر عليها يدور حول الدين ، يبغي العوج والفساد " / المرقاة، شرح المشكاة ج: 5. باب بين يدي الساعة.
عين الدجّال العوراء:
ورد في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الدجال: أعور العين اليمنى). / صحيح البخاري.
وجاء في حديث آخر: الدجال أعور العين اليسرى). / صحيح مسلم.
وقد اختلفت الروايات حول شكل عينه العمياء، إذ جاء في الحديث:
كأنّ عينه عنبة طافئة) وفي حديث : إنه مطموس العين) مشكاة المصابيح.
وجاء في رواية ابي سعيد عند أحمد أنّ الدجال:
جاحظ العين اليمنى، كأنها كوكب دري).
فكيف يمكن الأخذ بهذه الأحاديث بحرفيتها ، مع وضوح التناقض فيها؟ لا بد إذن من برهان مقنع.
* قدرات الدجّال الخارقة:
بينت أحاديث رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الدجال يتصف بصفات وقدرات خارقة، نورد في ما يلي أمثلة عليها:
يأتي معه بالجنة والنار ،وجبال من خبز ولحم وطعام.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّ:
الدجال أعور العين اليسرى.
وجاء في رواية أن الدجّال :
معه جنة ونار) صحيح مسلم.
معه جبل خبز ونهر ماء) صحيح البخاري.
وفي رواية أن :
الدجال يخرج، وإنّ معه ماءً وناراً، فأما الذي يراه الناس ماءً، فنار تحرق. وأما الذي يراه الناس ناراً، فماء عذب بارد . فمن أدرك ذلك منكم ، فليقع في الذي يراه ناراً ، فإنّه ماء عذب) صحيح مسلم.
وهل يُعقل هنا أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس من أمته أن يُلقوا بأنفسهم وأهليهم في نار الدجال باعتبار أنها هي الجنة، لو كانت هذه النار حقيقية؟ وماذا لو أوقد الدجّال ناراً حقيقية هائلة ، ثم أمر المسلمين أن يلقوا بأنفسهم فيها طاعة لرسول الله عليه الصلاة والسلام؟! وهل يمكننا تخيل مشايخ المسلمين يفعلون ذلك لكونهم أول من يحرص على طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!
وجاء في حديث:
أنّ معه الطعام والأنهار, صحيح مسلم.
وفي حديث:
معه نهران يجريان ، أحدهما رأي العين، ماء أبيض والآخر نار تؤجج). صحيح مسلمز
كما جاء في حديث:
معه واديان، أحدهما جنّة، والآخر نار. أبو داود.
وفي حديث:
يأتي معه بمثل الجنة والنار) متفق عليه.
وفي حديث :
ويكون له جنة ونار، فيقول: هذه جنّة لمن سجد لي، ومن أبى أدخلته النار. . ذكره الإمام أبو الحسن بن عبيد الله الكسائي في قصص الأنبياء، وأورده المقدسي في (عقد الدرر في أخبار المنتظر) ص: 275.
وروى الحاكم وابن عساكر عن ابن عمر أنه :
(يسير مع الدجّال جبلان، أحدهما فيه أشجار وثمار وماء، وأحدهما فيه دخان ونار. فيقول هذه الجنّة، وهذه النار / الإشاعة لأشراط الساعة ) ص 124.
وفي رواية نعيم عن أبي مسعود:
معه جبل من مرق وعراق اللحم حارّ لا يبرد، ونهر جار، وجبل من جنان وخضرة ، وجبل من نار ودخان. يقول: هذه جنتي وهذه ناري، وهذا طعامي ،وهذا شرابي) / ( الإشاعة لأشراط الساعة )، ص
126.
لقد أثارت هذه الأحاديث الشريفة - المتعلّقة بتملّك الدجال للجنة والنار، وجبال الطعام من الخبز واللحم والمرق والماء والأنهار - دهشة واستغراب العلماء المتفكرين الذين يرفضون أن يكون ثمة تناقض بين المنطـق الـديني والمنطق العقلي العلمي. ولما كان الإصرار على الأخذ بالحرفية يؤدي حتماً إلى ظهور مثل هذا التناقض والتعارض المرفوضين، فقد ذكرت الكتب اختلاف العلماء في هذا الشأن، حيث نقرأ:
"اختلف العلماء في هذه الجنّة والنار هل هي حقيقة أم تخيل ".
وقد مال ابن حبان في صحيحه إلى أنّه تخيّل، واستدلّ بحديث المغيرة بن شعبة في الصحيحين أنه قال:
(كنت أكثر من سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الدجال، فقال لي: وما يُضيرك منه؟ قلت: لأنهم يقولون : إنّ معه جبل خبز. قال: هو أهون من ذلك)؛ " ومعناه أنه أهون من أن يكون معه ذلك حقيقة، بل يُرى كذلك وليس بحقيقة "). / الإشاعة لأشراط الساعة)، ص: 126.
وجاء في (المرقاة شرح المشكاة باب العلامات بين يدي الساعة) في معرض شرحه لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هو أهون على الله من ذلك، قال: قوله:هو أهون على الله من ذلك . أي أنّ الدجّال أحقر على الله تعالى من أن يُحقق له ذلك، وإنما هو تخييل وتمويه للابتلاء، فيثبت المؤمن ويزلّ الكافر). (القول الصريح في ظهور المهدي والمسيح) لمؤلفه : نذير أحمد.
إحياء الدجّال للموتى وإنزاله للمطر:
جاء في حديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن من فتن الدجال أنه يقتل ويحيي، حيث نقرأ في صحيح البخاري، باب ذكـر الـدجّال، الحديث التالي:
يأتي الدجّال .. فيخرج إليه رجل .. فيقول الدجّال: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته ، هل تشكون في الأمر، فيقولون: لا، فيقتله ثم يحييه).
يتبين بكل وضوح - من خلال الروايات التي تذكر قدرة الدجال على إحياء الموتى - أنّ الإصرار على الأخذ بالمعنى الحرفي لهذه الروايات يتناقض بشكل مؤكد، ليس مع القرآن الكريم فحسب، بل مع الأسس الإيمانية والتوحيدية في حق الله سبحانه وتعالى. فالمعلوم أنّه لا يحيي ولا يُميت إلا الله وحده؛ إذ يؤكد القرآن الكريم ذلك في أكثر من موضع، حيث نقرأ قوله عزّ وجل:
هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ يونس 57.
فكيف يمكن لكم أن تُضيفوا إيماناً جديداً، فتزعمون أنه:
(هو يحيي ويُميت ، وكذلك الدجال)؟!
ويتحدى القرآن الكريم المشركين أن يُثبتوا شيئاً من ذلك فيقول :
ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ الروم 41.
فهل تُجيبون على سؤال الله هذا بقولكم : نعم ، الدجال يفعل ذلك أيضاً؟!
وحتى لو قلتم ذلك، فإنّ الله تعالى يختم الآية منزّهاً نفسه عن هذا الشرك القبيح، فيقول:
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
ثم إذا انتبهنا إلى كلمة (مِنْ) في قوله تعالى: ﴿يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ ) نجدها هنا للتبعيض الذي ينفي إمكانية القدرة على إحياء الأموات بأيّ شكل كان، لأنّ هذا الأمر إنما هو من صفات الله وحده -قد يقول بعضهم أنّ النبي عيسى عليه السلام قد أحيا الموتى بإذن الله، بمعنى أنه قد أقام ميتاً من قبره. وهذا خطأ مبين، إذ أن إحياء عيسى للموتى لم يكن بأكثر من إحياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم للموتى. حيث يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ . الأنفال: 24. أي إذا أحياكم بنور الإيمان والتوحيد الذي نزل عليه، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجِ مِنْهَا. الأنعام . 123. فالموت هنا هو الكفر والضلال، والإحياء هو بعث الإيمان في النفوس؛ وبهذا فإنّ جميع الرسل يحيون الموتى بإذن الله.-- ، فكيف يمكن أنّ نُشرك به المسيح الأعور الدجال أو غيره ، كائناً من كان؟!
ونقرأ في سورة البقرة ردّ سيدنا إبراهيم على النمرود بقوله:
رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. البقرة . 259.
فهل تضيفون إلى هذه الصفة – التي خص الله بها نفسه على لسان إبراهيم عليه السلام - صفةً أخرى ، فتقولون : "ربي والدجّال يحييان ويميتان"، نعوذ بالله من ذلك؟!
ومن الأمور التي خص الله تعالى بها ذاته كذلك، إنزال الغيث من السماء، فقال عن نفسه:
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ. لقمان ، 35.
فكيف يمكن الإيمان بأنّ الدجّال يقدر على أن يأمر السماء فتنزل الغيث، فيكون بذلك مساوياً الله في قدرته تلك؟!
وبالرغم من أننا سنعمد إلى بيان حقيقة نبوءات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بحث الدجّال وقدراته؛ إلا أنني ألفتُ هنا نظر القائلين بقدرة الدجال على إنزال الغيث من السماء إلى أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم تذكر قدرة الدجّال على إنزال الغيث بل جاء فيها أنه يأمر السماء فتمطر، فقال:
(وإنّ من فتنته أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر).
ابن ماجة والمستدرك للحاكم.
كما جاء في معرض ذكر رسول الله صلى الله عليه للدجال:
فيأمر السماء فتمطر) صحيح مسلم.
وثمة فرق هائل بين أن تمطر السماء أو أن ينزل منها الغيث، كما سنبين لاحقاً، فلا تشركوا بالله أحداً.
* الدجال يعلم الغيب!
ورد في بعض الأحاديث المتعلّقة بالدجّال أنّه يتنبأ بأحداث غيبية تتعلق بالمستقبل، كما في الحديث التالي الذي جعل الآخذين بالحرفية يعتقدون أنه يمكن للدجال أن يتنبأ بالغيب وأنّه مخلوق حي بـاق مـذ وجد في الأرض! وإليكم الحديث:
تروي كتب الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليـه وآلـه وسـلـم جمـع يـومـاً صحابته ليحدثهم حديثاً، فقال:
(يا أيها الناس .. أتدرون لم جمعتكم؟ ... لأن تميماً الداري كان رجلاً نصرانياً ، فجاء فبايع وأسلم، وحدثني حديثاً وافق الذي كنت أحدثكم عن المسيح الدجال. حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهراً في البحر، ثم أرفأوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس، فجلسوا في أقرب السفينة، فدخلوا الجزيرة ، فلقيتهم دابة أهلب، كثير الشعر، لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر .
فقالوا: ويلك ما أنت؟
فقالت: أنا الجساسة،
قالت: يا أيها القوم، انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير، فإنه إلى خبركم بالأشواق.
قال: لما سمت لنا رجلاً ، فرقنا منها أن تكون شيطانة.
قال: فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقاً وأشدّه وثاقاً، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد.
قلنا: ويلك، ما أنت؟
قال: قد قدرتم على خبري، فأخبروني أنتم.
قالوا : نحن أناس من العرب، ركبنا في سفينة بحرية، فصادفنا البحر حين اغتلم، فلعب بنا الموج شهراً، ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه ، فجلسنا في أقربها، فدخلنا الجزيرة
فقال: أخبروني عن نخل بيسان،
قلنا : عن أي شأنها تستخبر؟
قال: أسألكم عن نخلها، هل يثمر ؟
قلنا له : نعم.
قال: أما إنها يوشك ألا تُثمر.
قال: أخبروني عن بحيرة طبريا،
قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟
قال: هل فيها ماء؟
قالوا : هي كثيرة الماء.
قال: أما إنّ ماءها يوشك أن يذهب .
قال: أخبروني عن عين زغر.
قالوا : عن أي شأنها تستخبر؟
قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟
قلنا له: نعم، هي كثيرة الماء، وأهلها يزرعون من مائها.
قال أخبروني عن نبي الأميين: ما فعل؟
قالوا: قد خرج من مكة ، ونزل يثرب.
قال : أقاتله العرب؟
قلنا: نعم.
قال: كيف صنع بهم؟
فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه،
قال: قد كان ذلك؟
قلنا: نعم.
قال: أما إنّ ذلك خير لهم أن يُطيعوه. وإني مُخبركم عني: إني أنا المسيح الدجال ، وإني أوشك أن يؤذن لي بالخروج، فأخرج ، فأسير في الأرض ، فلا أدع أرضاً إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة، فهما محرمتان عليَّ) صحيح مسلم.
نرى من هذا الحديث الصحيح أن الدجّال قد تنبأ بأنباء غيبية كثيرة ، وقد تحقق أكثرها حتى الآن، فكيف يصح لدجّال كافر ملعون يضل الناس، ويدعو إلى تأليه نفسه أن يعلم الغيب بهذا الشكل، وكيف استطاع ذلك؟!
إن المسلمين يؤمنون يقيناً أنّه لا يعلم الغيب أحد إلا الله، وذلك بتأكيـد وتعليم القرآن الكريم حيث يقول الله عز وجل:
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾. النمل، 66.
وأمر الله عز وجل رسوله أن يحذر أمته من أن يظنوا يوماً أن أحداً سوى اللهالله يمكن أن يعلم الغيب ، فقال له:
فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ. لِلَّهِ يونس: 21.
كما أمره أن يؤكد بأنه هو نفسه - وهو رسول الله - لا يعلم الغيب، فقال لهله:
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) الأنعام : 51.
فكيف يصح بعد هذا البيان القرآني أن يعتقد المؤمنون بإمكانيـة قـدرة الأعور الدجال على التنبؤ بالغيب حقاً، مُناقضاً بذلك البيان القرآني المبين؟!
ثم كيف يمكن لرجل كافر ملعون أنّ يظلّ حيّاً باقياً منذ نوح والنبيين في الزمان السابق لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم يظل حياً باقياً إلى زماننا هذا، حتى يبعث الله المسيح الموعود والمهدي المنتظر عليه السلام فيقتله ويقضي عليه وينقذ العالم والجنس البشري من شروره وفتنه؟!
إنّ الأخذ بحرفية هذا الكلام يضع الفأس على رأس التوحيد -كما قلنا – ويحتم الوصول إلى هذه النتيجة المتناقضة. سيأتي شرح هذا الحديث في موضعه من الكتاب.
* حمار الدجّال الخارق!
وأما أوصاف حمار الدجّال التي وردت في الأحاديث المتعلقة بالدجال، فلا يمكن لأصحاب العقول المنطقية السليمة أن يأخذوا بحرفيتها بأي شكل من الأشكال؛ إذ ما هذا الحمار الناري الذي مسافة ما بين حافره إلى حافره مسيرة يوم وليلة ، وطول كل أذن من أذنيه ثلاثون ذراعاً، وعرض ما بين أذنيه أربعون ذراعاً، ورغم أن طول أذن حمار الدجال ثلاثون ذراعاً فقط، فإنّ سبعين ألفاً من اليهود يستظلون تحتها،كما أنّ حمار الدجال هـذا يأكل الحجارة، ويُخرج من مؤخرته ناراً، ويطير في السماء، فتطوى له الأرض منهلاً منهلاً، ويسبق الشمس إلى مغيبها؛ معه من كل السلاح ، تخرج منه الحيات ويخوض البحر إلى كعبيه ولا يغرق، ويسير في الأرض، وطوله ستون خطوة، لونه أحمر، يتقدّمه جبل من دخان، ولا يُدرى قبله من دُبُره؛ وينادي الناس إليه، بدوي يملأ ما بين الخافقين .. وغير ذلك من الأوصاف العجيبة؟!
ثم أية حمارة (أتان) يمكن أن تلد مثل هذا الحمار الهائل؟ أم أنّ أمّه ستكون حمارة عادية ولدت حماراً كونياً هائلاً؟!
وإن لم يكن سيولد من حمارة عادية، فمن أين سيأتي إذن؟!
ويفيد هنا أن نأتي بمثال تُبيّن فيه رفض بعض المفكرين المسلمين أن تُنسب هذه الخرافات إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فكان من شأنهم أنهم أنكروا الأحاديث ذاتها، وهذا خطأ لا نوافقهم عليه، بل كان ينبغي أن يفهموا حقيقة النبوءات العظيمة الكامنة فيها من خلال فهم بيان اللغة العربية المتعلق بالرمز والاستعارة والمجاز وغيرها.
ومن المفيد هنا، الاطلاع على رأيهم في هذا المقام. فمن هؤلاء: العلامة محمد فريد وجدي رئيس تحرير مجلة (نور الإسلام، لسان الأزهر سابقاً ، وصاحب الموسوعة العربية (دائرة معارف القرن العشرين) الذي ذكر أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتعلقة بخروج الدجال، ثم قال:
"رأينا في هذا الكلام أنّ الذي يُلقي نظرة على هذه الأحاديث ، يُدرك لأول وهلة أنها من الكلام الملفّق ، الذي يضعه الوضاعون ، وينسبونه للنبي صلى الله عليه وسلم لمقاصد شتى - نحن لا نوافق على رأيه هذا، بل نؤكد صحة هذه الأحاديث المتواترة وأنها قد جاءت في الصحيح، ولكننا نرفض الفهم الحرفي لها ، ونؤكد على أنه لابد من فهمها من خلال أسس التأويل التي وضعها القرآن الكريم كما سنبين في الفصل القادم بعون الله تعالى.-. إما لإفساد عقائد الناس، أو لتصغير شأن النبي صلى الله عليه وسلم في نظر أهل النقد، فإنّ هذا الكلام لو نُسِب إلى أحد الناس ، حطّ من شأنه، فما بالك لو نُسب لخاتم النبيين وإمام المرسلين.
إن في توهين هذا الكلام عدة وجوه لا تقبل المناقشة:
أولها : أنه أشبه بالأساطير الباطلة، فإنّ رجلاً يمشي على رجلين يطوف البلاد يدعو الناس لعبادته، ويكون معه جنة ونار يُلقي فيهما من يشاء؛ كل هذا من الأمور التي لا يُسيغها العقل .. والنبي أجل من أن يأتي بشيء تنقضه بداهة النظر، وإلا فما هي جنته وما هي ناره اللتين تتبعانه حيث سار؟ هل هما مرئيتان أم خياليتان؟ إن كانتا مرئيتين، فهل جنته قصور منيفة وحدائق غنّاء ، كما يفهمه الناس من مدلول هذه اللفظة؟ إن كانت كذلك فكيف تسير معه هذه القصور والحدائق إلى حيث توجّه ؟ وهل ناره تنور عظيم متأجج بالناس والحجارة ، على ما يفهمه الناس من معنى هذه الكلمة؟ وهل مثل هذا الأمر ، مما يصح أن يُسيغه عقل بشري ناط الله به تمييز الممكن من المستحيل، وجعله الفارق بين الحق والباطل؟
وإن قيل بأنّ جنّته وناره خياليتان. فهل كان يقتل متبعه ليرسل بروحه إلى الجنة أو يَعِدُه بها وعداً بعد مماته الذي ورد أنّه يلقي بمتبعه في جنّته فيجدها ناراً، ونـاره جنـة وارفة الظلال، وأنهما يسيران معه حيث سار، وهذا ممتنع عقلاً كما رأيت.
وثانيها : كيف يُعقل أن رجلاً أعور مكتوب على جبهته (كافر) يقرؤها - ورد في الحديث الشريف (يقرؤه) وليس (يقرأها) ، والفرق بينهما مهم جداً؛ والحديث عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال إنّ الدجّال: (مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه / أي يتبينه / كل مؤمن، كاتب وغير كاتب) - البخاري ومسلم - ومعنى يقرؤه يتبيّنه، وليس يقرأ أحرف الكلمة المذكورة.- الكاتب والأمي على السواء، يقوم بين الناس فيدعوهم لعبادته، فتروج له دعوة أو تسمع له كلمة؟ أي إنسان بلغ به الانحطاط العقلي إلى درجة يعتقد فيها بألوهية رجـل مـشوّه الخلقة مكتوب في وجهه كافر بالأحرف العريضة ؟ وأي جيل من أجيال الناس تروج فيهم مثل هذه الدعوة؟
إن العرب كانوا يشكون في المرسلين ويستكبرون أن يتبعوا رجلاً يمشى على رجلين؛ ويودّون لو أرسل الله إليهم ملائكة من السماء، كما نص عليه القرآن. وأما غيرهم من الأمم ، وحتى في أقدم أزمنة التاريخ، فقد كانوا يُظهرون الأنفة من اتباع أمثالهم في البشرية ويودّون لو أنّ الرسول كان من عالم آخر، كما نص عليه القرآن أيضاً. فمن هي تلك الأمم التي كُتب عليها أن تُفتن برجل أعور مكتوب على وجهه كافر، فتعتقد فيه الألوهية؟
ثالثها: لماذا لم يذكر القرآن عن هذا المسيح الدجال شيئاً مع خطورة أمره وعظم فتنه كما تدلّ عليه تلك الأحاديث الموضوعة، فهل يُعقل أنّ القرآن قد ذكر ظهور دابة الأرض، ولا يذكر ظهور الدجّال الذي معه جنّة ونار يفتن بهما الناس؟ - قد برهنا في الفصل الثاني من هذا الكتاب على ورود ذكر الدجّال في القرآن الكريم في أكثر من موضع باعتباره الناس وباعتباره آية من آيات الله، وإنّ قول العلامة فريد وجدي هنا أن أحاديث الدجال موضوعة ، إنّما هو زعم باطل ، ويؤكد ذلك ورود هذه الأحاديث في الصحيح وفي مصادر كثيرة مروية عن أوثق الرواة والمحدثين.-.
رابعها: أن كون هذه الأحاديث موضوعة يُعرف بالحس من الحديث الطويل الذي نُسب إلى نواس بن سمعان ، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يُنبئ بأن الدجال يخرج من خلة بين الشام والعراق ويعمل الأعاجيب، ثم يدركه عيسى إلخ.
إن تنظر إلى تركيب هذه القصة نظر منتقد، لا يخطر ببالك شك في أنها موضوعة، وقد وضعها واضع لا يفرّق بين الممكن والمستحيل وبين سنن الله في خلقه وما تولّده الخيالات من الأباطيل، ولكن الدليل الحسي على بطلان هذا الحديث هو أن واضعه - لقصر نظره - خيّل له أنّ أسلحة الناس لن تزال القسي والسهام والنشاب والجعاب حتى تقوم الساعة؛ ولم يُدرك أنه لن يمرّ على وضع هذه الأحاديث نحو سبعة قرون حتى وجدوا البارود والبندق ولم تمر ستة قرون أخرى حتى لم يكن للقوس والنشاب ذكر، وقامت مدافع الماكسيم وقنابل اليد والشرانبل والأدخنة السامة والغازات الملتهبة والديناميت الذي يتساقط من الطيارات إلخ .. لم يدرك ذلك كله، فصوّر الأسلحة في آخر الزمان على من الحال الذي عهده في زمان، وليس بعد هذا دليل محسوس على أن هذا الحديث مختلق؛ فإن الذي يوحى إليه أكبر من أن يقع في هذا الخطأ العظيم، ويرى القارئ مما مرّ من هذه الأحاديث كلها أنها خالية من روح النبوة ولا يؤيدها شيء مـن القـرآن - العكس هو الصحيح بل هي إعجاز نبوي مذهل ولا حول ولا قوة إلا بالله العليم الخبير !-، ولا مـن طريق الإشارة، فلا يصح لعاقل أن يعوّل على أمثال هذه الموضوعات. فإن للأخذ بها حطة في العقل وذهاب بالدين مذهب الخرافات والأضاليل، والمسلمون أمروا أن يتحروا الحقيقة في كل شيء، وأن لا يأخذوا بكل ما يقال وإن هدّم العقل والدين " / (دائرة معارف القرن العشرين) . مادة الدجّال.
هذا ما قاله العلامة فريد وجدي في دائرة معارف القرن العشرين)؛ حيث نجد أنّ الإصرار على الأخذ بالحرفية في هذه الأحاديث قد ضلّل حتى العلماء، فجعلهم يقولون بالخرافة والخيال، أو يرفضون الأحاديث الصحيحة؛ وكلا الأمرين خطأ وضلال خطير ومبين.
ولو أردنا أن نبين جميع الغرائب والعجائب المرفوضة بجميع المقاييس العقلية والعلمية والدينية وغيرها، والتي تتأتى جميعها عن الإصرار بالأخذ بحرفية هذه الأحاديث الصحيحة، لَلَزِمَنا أكثر من كتاب ليفي هذا البحث حقه؛ ولكننا نكتفي بهذه الأمثلة المبينة الواضحة للذين لا مانع لديهم من أن يفهموا!
وندخل الآن في عمق البحث، لنبيّن روعة البيان في هذه الأحاديث العظيمة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، التي جعلها الله له نبوءات خارقة تشهد على صدقه في عصرنا وزمننا الحديث هذا أيضاً، فتكون له عليه الصلاة والسلام إعجازاً نبوياً خارقاً يؤيده ويؤكده العلم والعقل -نحن لا نرى تناقضاً يفصل بين العقل والدين، وإنما نورد هنا كلمة العقل للتأكيد ليس أكثر.- والدين، كما سنرى في الفصول القادمة من هذا الكتاب، بعون الله تعالى.
الفصل الخامس:
التعليم القرآني في تأويل النبوءات:
يتبين من خلال دراسة بحث المسيح الدجّال في أحاديث سيدنا رسول صلی الله عليه وآله وسلم، أنّ الله تعالى قد أطلع محمداً عليه الصلاة والسلام على الأحداث المستقبلية المتعلّقة بخروج الدجال خلال الرؤى الصادقة ، كما روى هو صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، حيث نقرأ ألفاظه التي تشير إلى رؤياه في أحاديثه تلك، إذ يقول:
وأراني الليلة عند الكعبة في المنام ، ثم رأيت وراءه رجلاً جعداً . فقلت: من هذا؟ قالوا: المسيح الدجّال . صحيح البخاري، كتاب الرؤيا.
ثم إنّ تصنيف هذا الحديث في صحيح البخاري في كتاب الرؤيا، يلفت إلى أنّ إخبار الله تعالى للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسـلـم عـن الدجال وخروجه قد كان عن طريق الرؤى الصادقة التي يُطلع الله من خلالها رسله على ما يشاء من الغيب.
وكذلك يتبيّن من قصة تميم الداري في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنها لا يمكن أن تكون إلا رؤيا، وذلك بدلائل وبراهين سنبينها في موضعها من هذا الكتاب، حين نكشف النقاب عن حقيقة مفهوم الدجال، وبيان كيف أنه آية من آيات الله عز وجل.
تعليقات
إرسال تعليق