الملفوظات
۱۸۹۸/۱/۱۸
خطاب سيدنا المسيح الموعود
القدر:
القدر نوعان: معلق ومبرم. والمعلّق يمكن أن يزول بالدعاء والصدقات، ويبدل الله تعالى قدره هذا بفضله، أما المبرم، فلا ينفع فيه الدعاء والصدقات شيئا، غير أن تلك الصدقات والدعوات لا تذهب سدى، لأن ضياعها يتنافى مع عظمة الله تعالى، بل يُري الله تعالى الإنسان تأثير ونتائج أدعيته وصدقاته تلك بشكل آخر. وأحيانا يؤجل الله قدره ويؤخره إلى وقت آخر.
ونجد أصل القضاء المعلق والقضاء المبرم في القرآن الكريم، وهذا الذكر لم يرد نصا بل ورد معنى، حيث قال الله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) (غافر: ٦١). فيتبين من هنا أن الدعاء يمكن أن يجاب وأن العذاب يمكن أن يلغي بالدعاء. ليس آلاف الأعمال، بل كل الأعمال يمكن أن تُنجز بالدعاء. اعلموا أن الله يتصرف في الأشياء كلها تصرُّف قدرة وسلطان، ويفعل ما يشاء. وسواء اطلع الناس على هذه التصرفات الإلهية الخفية أم لا ، إلا أن الخبرات الواسعة لآلاف الناس والنتائج الصريحة لأدعية آلاف الداعين بحرقة وألم، تدلُّ على أن
لله تصرفًا خفيًّا في الأشياء، فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء. وليس لزاما علينا أن نتعمّق في تلك التصرفات لإدراك كُنْهها وكيفيتها. ما دام الله يعلم أن أمرًا ما آت، فلا حاجة بنا للخوض في الخصام والجدال حوله . لقد جعل الله قضاءه وقدره المتعلق بالإنسان مشروطا، بحيث يمكن أن يلغى بالتوبة والخشوع والخضوع. عندما يصاب الإنسان بأذى ومصيبة، فإنه يتوجه إلى الأعمال الحسنة فطرةً وطبعًا، ويشعر بداخله بقلق وكرب ينبهه ويجذبه إلى فعل االحسنات ويُبعده عن الآثام. وكما أننا نجد تأثير الأدوية بالتجربة، كذلك حين يخر المضطر على أعتاب الله بغاية التذلل والتفاني ويناديه: ربي، ربي، ويدعوه ويستغيثه، فإنه يتلقى البشارة والطمأنينة عبر الرؤى الصالحة أو الإلهامات الصحيحة. قال سيدنا علي كرم الله وجهه: الدعاء الذي يتمّ بصبر وصدق إذا بلغ المنتهى استُجيب. وزوال العذاب بالدعاء والصدقة حقيقة ثابتة قد أجمع عليها المئة ألف وعشرين ألف نبي، وشهد عليها ملايين الصلحاء والأتقياء وأولياء الله تعالى.
جعلت اللذة والسرور في العبادات:
ما هي الصلاة؟ إنها دعاء خاص، ولكن الناس يعدّونها كضريبة الملوك. إن هؤلاء الحمقى لا يفكرون أي حاجة لله إلى هذه الأمور، وأي حاجة لله مع استغنائه الذاتي لأن يقوم المرء بالدعاء والتسبيح والتهليل له؟ كلا، إن الصلاة إنما هي المنفعة الإنسان نفسه، حيث يحقق مطلبه خلالها. يؤسفني أن الناس في هذه الأيام لا يحبّون العبادات والتقوى والصلاح، وسبب ذلك هو التأثير العام السام للتقليد، وهذا ما جعل حب الله يبرد في القلوب، فلا يجدون في العبادة المتعة التي ينبغي أن يجدوها. ليس في الدنيا شيء يخلو من لذة ونوع خاص من المتعة. إن المريض لا يقدر على الاستمتاع بأطيب طعام وأشهاه ، بل يجده مُرًا ويرميه بعيدا ، لذا فينبغي لهؤلاء الذين لا يجدون في عبادة الله لذة ومتعة أن يهتموا بمرضهم، لأنني كما قلت من قبل: ليس في الدنيا شيء إلا وجعل الله فيه لذة ومتعة. لقد خلق الله تعالى الناس لعبادته، فلماذا لا يجد بعضهم فيها لذة وسرورا. إن في العبادة لذة وسرورا بكل يقين وتأكيد، شريطة أن يكون المرء مستعدا للاستمتاع بها. قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات : (٥٧) ، وما دام الإنسان لم يُخلَق إلا للعبادة، فكان لزاما أن تودع العبادة لذةً وسرورا إلى أقصى الحدود. ونستطيع إدراك هذا الأمر بمشاهداتنا وتجاربنا اليومية. وعلى سبيل المثال، قد خُلقت الغلال والمأكولات والمشروبات لفائدة الإنسانن أفلا يجد فيها المتعة واللذة؟ ألا يوجد في فمه لسان يتلذذ بما في هذه الأشياء من طعم ولذة؟ ألا يستمتع برؤية شتى الأشياء الجميلة من نبات وجماد وحيوان وإنسان؟ ألا تستمتع آذانه بأصوات عذبة جميلة؟ فأي دليل يريد بعد ذلك على وجود المتعة في العبادة؟ قال الله تعالى أننا قد خلقنا الرجل والمرأة زوجين، وجعلنا الرجل يميل إلى المرأة، ولم يفعل الله ذلك جبرًا وقهرًا، بل جعل في هذا الميلان أيضا لذة ومتعة، ولو كان الهدف من اجتماعهما التوالد والتناسل فقط، لما تحقق هذا الهدف، ولم ترضَ غيرتُهما بالاجتماع عاريين ، ولكن يوجد في اجتماعهما متعة ولذة أيضا، حتى إن بعض قصيري النظر لا يهتمون بالأولاد، بل يهتمون بهذه المتعة واللذة فقط. كانت غاية الله أن يخلق البشر، فأنشأ هذا الاجتماع بين الرجل والمرأة تحقيقا لهذه الغاية، وجعل فيه المتعة ضمنيا، ولكن أكثر الحمقى قد جعلوا المتعة الغاية المنشودة وراء ذلك. فاعلموا جيدا أن العبادة ليست عبئًا ولا ضريبة، بل يوجد فيها أيضا لذة وسرور، وهذه المتعة أسمى وأعلى من كل الملذات المادية والمتع الدنيوية. وكما أن هناك متعة في اجتماع الرجل والمرأة، لكن لا يستمتع بها إلا صاحب القوى السليمة، حيث لا يجدها العِنّينُ والمخنَّث، أو كما أن المريض يظل محروما من اللذة ولو أكل أطيب الأطعمة وأشهاها، كذلك تماما فإن الشقى لا يجد المتعة في عبادة الله.
حقيقة العلاقة بين العبودية والربوبية:
إن العلاقة بين الرجل والمرأة عابرة فانية، وأقول إن العلاقة الحقيقية الأبدية ذات اللذة المتجددة، إنما هي العلاقة بين الله والإنسان. إنه لمما يصيبني باضطراب شدید وكرب عظيم ينخر نفسي برؤية أن الإنسان عندما لا يجد في الطعام لذةً يذهب إلى الطبيب، ويتوسل إليه ويتزلّف إليه بشتى الطرق، وينفق أموالا طائلة، ويقاسي صنوف الآلام ليجد تلك اللذة الموجودة في الطعام، وأن العِنّين الذي لا يقدر على الاستمتاع بزوجته، يصاب بقلق شديد حتى يريد الانتحار أحيانا، وكثيرا ما تقع مثل هذه الوفيات، لكن آها لذلك الشقي ذي القلب المريض الذي لا يجد المتعة في العبادة ثم لا يسعى للعلاج. لماذا لا تزهق نفسه حزنًا وألما؟ إنه كم يتكبد العناء من أجل الدنيا ومسراتها، ولكن لا يوجد عنده نفس العطش والالتياع من أجل الراحة الحقيقية الأبدية. فيا لحرمانه ويا لشقاوته! يبحث عن العلاج من أجل المتع الآنية الفانية فيجدها، فكيف يمكن أن لا يوجد ثمة علاج من أجل اللذة الدائمة الأبدية. إن علاجها موجود يقينا، ولكن البحث عنه يتطلب صبرا وثباتا. لقد ضرب الله تعالى في القرآن بعض النساء مثلاً للصالحين، وفي ذلك سر وحقيقة. ضرب الله للمؤمنين مثال مريم وآسية، ليبين أنه تعالى يخلق من المشركين مؤمنين. باختصار، إن في ضرب مثالِ النساء سرًّا لطيفا، وهو أنه كما أن هناك علاقة بين المرأة والرجل، كذلك ثمة علاقة بين العبودية والربوبية. فلو كان بين الزوجين حب ووئام كان زواجهما مباركا ونافعا، وإلا تفكّك نظام بيتهما ولم تتحقق الغاية المتوخاة من زواجهما، وفسَد الرجل نتيجة الارتباط بالنسوة الأخريات، ورجع بأنواع الأسقام والأمراض، وأصيب بالجذام نتيجة مرض الزهري، وأصبح من المحرومين الأشقياء في هذه الدنيا نفسها، ولو وُلد في بيته أولاد ، ظل هذا المرض ينتقل إلى أجيال وأجيال. وأما امرأته، فتأتي بالفاحشة وتلطخ شرفها وعزتها، ولا تنال الراحة الحقيقية بتلطيخ الشرف. فكم من عواقب وخيمة تترتب على انفصال الزوجين، كذلك تماما يصبح الإنسان مجذوما ومخذولا جراء انفصاله عن الزوج الروحاني سبحانه وتعالى، ويكابد من الآلام والمحن أشد مما يكابده الزوجان الماديان. فكما أنه توجد في زواج الرجل والمرأة متعة لبقاء النسل، كذلك توجد في علاقة العبودية والربوبية متعة من أجل البقاء الروحاني الأبدي. وقد قال الصوفية: من حظي بهذه المتعة أثرها على سائر ملذات الدنيا ومُتعها، ولو جرّبها مرة واحدة في الحياة كلها، لفني فيها. ولكن المشكلة أن كثيرا من الناس في الدنيا لم يدركوا هذا السر، فتكون صلواتهم مجرد نقرات، يقومون ويقعدون في الصلاة بقلب راغب عنها منقبضين ومتضايقين. ومما يبعثني على الأسف الأشد أنني أرى بعضهم لا يصلون إلا ليزدادوا احترامًا وعزَّا عند أهل الدنيا، وبالفعل، ينالون بصلاتهم بغيتهم هذه، أعني أنهم يُعَدّون من المصلين والصالحين، وإنني أتساءل: لم لا يفكرون أنهم ما داموا قد نالوا هذا العز والاحترام بصلاتهم التي صلوها كذبًا وريَّاء وبقلوب راغبة عنها، فكم سينالون من العز والدرجة لو صلّوا وعبدوا بصدق القلب؟
سبب عدم التمتع بالصلاة وعلاجه:
باختصار، أرى أن الناس يغفلون عن الصلوات ويتكاسلون فيها لأنهم غير مطلعين على ما أودعها الله من لذة ومتعة. هذا هو السبب الأكبر لذلك. وأهل المدن والقرى أشد كسلاً وغفلة فيها حتى إن الخمسين بالمئة منهم أيضا لا يحنون رؤوسهم أمام مولاهم الحق بنشاط كامل وحب صادق. والسؤال الذي يفرض نفسه هو : لماذا؟ إنما جوابه أنهم غير مطلعين على لذة الصلاة، ولم يذوقوا حلاوتها قط. أما الأديان الأخرى، فليس فيها مثل هذه الأحكام. في بعض الأحيان يكونون مشغولين بأعمالهم، وينادي المؤذن، ولكنهم لا يريدون سماع ندائه، وكأن قلوبهم تتأذى منه إن حالتهم يرثى لها جدا. يوجد هنا أيضا أناس دكاكينهم تقع تحت المسجد، ومع ذلك لا يأتون حتى للوقوف فقط في الصلاة. لذا أود أن أقول: إن على المرء أن يدعو الله تعالى بمنتهى الحرقة والحماس ويقول : رب كما أذقتنا صنوف اللذة بالثمار وغيرها من النعم، فأذقنا مرةً لذة العبادة والصلاة أيضا. إن ما يؤكل لا يُنسى. ولو رأى المرء جميلا واستمتع بجماله، فإنه يتذكر جماله دوما، وإذا رأى دميما كريه المنظر وأمعن النظر، فإنه يتجسد له بكل ملامحه الكريهة كلما تذكره، أما إذا لم يكن له به علاقة، ونظر إليه عابرا ، فلا يحفظ من جماله أو دمامته شيئا. كذلك فإن الصلاة ضريبة عند الذين لا يصلّونها ، إذ يرون أن أداءها يضطرهم لأن يستيقظوا من نومهم المريح في الصباح الباكر وأن يتوضأوا في برد قارس تاركين أنواع الراحة. الحق أن مثل هذا الإنسان متضايق من الصلاة، فلا يعرف قدرها. إنه غير مطلع على اللذة والراحة الكامنة في الصلاة، فأنى له أن يستمتع بها؟ أرى أن مدمن الخمر إذا لم يجد متعة بشرب قليل منها يشرب كأسا تلو كأس إلى أن يشعر بالسكر والنشوة. وبوسع العاقل الفطن أن ينتفع من هذه الظاهرة، أعني يجب عليه أن يداوم على الصلاة ولا ينقطع عنها إلى أن يجد المتعة فيها. وكما أن في ذهن مدمن الخمر هدفًا ينشده، وهو أن يجد المتعة بشربها، كذلك على المصلي أن يركز ذهنه، وكل ما فيه من قوى على نيل تلك المتعة المودعة في الصلاة، ثم يجب أن يدعو الله تعالى بصدق القلب وكامل الإخلاص والحماس لنيل تلك اللذة - شأن شارب الخمر - في قلق واضطراب وكرب من أجل نشوته. فإني أقول والحق أقول: إنه سيجد في الصلاة المتعة والحلاوة حتما ويقينا. ثم يجب أن ينشد في صلاته تلك المنافع التي تتحقق بها. كما عليه أن يراعي الإحسان، حيث قال الله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ (هود: ١١٥)، فعليه أن يدعو الله تعالى في الصلاة آخذا هذه الحسنات واللذات في الحسبان بأن يوفقه لصلاة الصدّيقين والمحسنين.
لقد قال الله تعالى هنا: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ (هود: ١١٥)، أي أن الأعمال الحسنة أو الصلوات يقضين على السيئات، وقال في موضع آخر: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت (٤٦)، ولكنا نرى البعض يعملون السيئات مع أنهم يصلون ! لماذا ؟ والجواب أنهم يصلون، ولكن بدون الروح والصدق، وإنما ينقرون نقرات تقليدا وعادة فحسب، وأرواحهم ميتة، ولم يسم الله تعالى صلاتهم حسنات. والجدير بالذكر أن الله تعالى قال هنا: "الحَسَنَات"، ولم يقل: "الصلاة"، مع أن المعنى واحد ذلك ليشير الله إلى ما أودعه في الصلاة من ميزة وحسن وجمال، وليبين أن الصلاة التي تتسم بروح الحق وفيض التأثير تُذهب السيئات حتما ويقينا. الصلاة ليست اسما للقيام والقعود، بل إن مخها وروحها هو ذلك الدعاء المقرون
بلذة وحلاوة.
حقيقة أركان الصلاة:
إن أركان الصلاة إنما هي القيام والقعود الروحانيان. على الإنسان القيام أمام الله تعالى، وهو من آداب الخدم. أما الركوع، أي الجزء الثاني من الصلاة، فهو يوحي بمدى استعداد المرء لإخضاع عنقه للعمل بالأمر الإلهي. وأما السجود فيدل على منتهی الأدب والتذلل والفناء الذي هو هدف العبادة. فهذه آداب وطرق وضعها الله تعالى في الصلاة ليذكّر الإنسان بهدفه وليعطيه نصيبا من السلوك الروحاني. وإضافة إلى ذلك، فقد جعل الله تعالى هذه الطريقة الظاهرية إثباتًا للطريقة الباطنية الروحانية. ولو قام المرء بالطريقة الظاهرية - وهي انعكاس للطريقة الباطنية الروحانية، مقلدا الآخرين تقليدًا فارغا، ومحاولاً التخلص من الصلاة، كأنها عبء ثقيل، فأية متعة أو لذة يمكن أن يجدها فيها؟ وكيف تتيسر له حقيقة الصلاة بدون نيل الحلاوة والمتعة فيها؟ إنما يتأتى له هذا حين تخرّ روحه أيضا على عتبة الله تعالى بكامل الفناء وكامل التذلل، وتردّدُ روحه ما يردّده لسانه، عندها يحظى بسرور ونور وسكينة. أود أن أوضح هذا الأمر بمزيد من البيان، أعني أن على الإنسان أن يعترف بربوبية الله في جميع المراحل التي مرَّ بها في مختلف الأوقات إلى أن صار إنسانًا، أعني بدءًا من مرحلة النطفة، بل من مرحلة عناصر النطفة المختلفة من شتى الأغذية وكيفية تكونها، ثم المراحل التالية للنطفة من طفولة وشباب وشيخوخة. يجب أن يعترف بربوبية الله في جميع تلك المراحل التي مر بها مستحضرا إياها في الصلاة كل حين، وعندها فقط سيتمكن من طرح عبوديته أمام ربوبية الله تعالى.
باختصار، إنما تتيسر لذة الصلاة وحلاوتها نتيجة الاتصال بين العبودية والربوبية. فما لم يخّر العبد أمام الله تعالى معتبرا نفسه كالمعدوم تماما أو شبه معدوم كما هو مقتضى الربوبية، لا ينزل عليه فيض الربوبية ولا يُظلّه ظلُّها. ولو قام بذلك في الصلاة لنال متعةً ما بعدها متعة.
الصلاة الحقيقية:
في هذا المقام، تصبح روحُ الإنسان كالمعدوم تماما ، وتسيل إلى الله تعالى كعين جارية، وتنقطع عمّا سوى الله كلية وتنزل عليه محبة الله تعالى، وباتصال هذين الهياجين، هياج الربوبية من فوق وهياج العبودية من تحت، تتولد حالة خاصة تسمى الصلاة. وتلك الصلاة هي التي تحرق السيئات وتغادرها رمادًا، وتترك وراءها نورا ولمعانا ينفع السالك كمصباح منير عند صعوبات الطريق وشدائده، وينبهه ويقيه من كل العوائق والعثرات التي تعترض طريقه من عشب وشوك وحجر وما إلى ذلك. هذه هي الحالة التي يصدق عليها قول الله تعالى: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر (العنكبوت (٤٦)، لأن سراجًا منيرا يكون في قلبه، لا في يده. وهذا المقام لا يُنال إلا بالتذلل الكامل والفناء الكامل والتواضع الكامل والطاعة الكاملة، وأنى لمن بلغ هذا المقام أن يفكر في الإثم. كلا، بل يستحيل أن ينشأ فيه الإنكار والعصيان، ويرتفع بصره إلى الفحشاء باختصار، يتيسر له من اللذة والسرور ما لا أراني قادرا على وصفه.
الميل إلى غير الله تعالى:
وجدير بالتذكر أيضا أن هذه الصلاة التي هي الصلاة حقًّا إنما تتيسر من خلال الدعاء نفسه. إن سؤال غير الله تعالى ينافي غيرةَ المؤمن منافاة شديدة وصريحة، لأن الدعاء خاص بالله وحده ، واعلموا أن الإنسان ما لم يسأل الله تعالى ويدعوه هو وحده، حنيفًا تمام الحنفية، لا يستحق أن يُدعى مسلما صادقا ومؤمنا مخلصا. إنما حقيقة الإسلام أن يخرّ الإنسان على العتبة الإلهية بجميع كفاءاته وقدراته، سواء الباطنية أو الخارجية. فكما أن المحرّك الكبير يحرّك أجهزة كثيرة، كذلك ما لم يجعل الإنسان كل عمل وحركة وسكون له تابعة لقوة ذلك المحرك العظمى، فأتى له أن يؤمن بألوهية الله حقا، وأنى له أن يسمى نفسه حنيفا في الحقيقة حين يقول: إنّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا (الأنعام: ۸۰)؟ من كان قلبه أيضا متوجها إلى الله تعالى كما يردده لسانه، فلا جرم أنه مسلم ومؤمن وحنيف، أما الذي يسأل غير الله ويجنح إلى غيره أيضا، فليعلم أنه شديد الشقاوة والحرمان، وسيأتي عليه وقت لن يقدر فيه على التوجه إلى الله ولو باللسان رياء.
ومن دواعي ترك الصلاة والكسل فيها أن الإنسان إذا مال إلى غير الله تعالى ظلت روحه وقواه القلبية مائلة إلى ما سوى الله تعالى، ويقسو قلبه تجاه الله تعالى، حتى يصبح جامدا كالحجر، شأن الشجرة المنثنية أغصانها إلى ناحية منذ نعومتها، فنمت وكبرت مائلةً إلى تلك الناحية، وكما أن ثني تلك الأغصان إلى ناحية أخرى مستحيل بعد ذلك، كذلك ليس بوسع هذا الإنسان أن ينثني إلى الله تعالى، فيظل قلبه وروحه يبتعدان عن الله تعالى يوما فيوما ، فأَنْ يترك الإنسانُ الله تعالى ويسأل سواه لأمر جد خطير ومرجف للقلب، لذا، فإن مداومة المرء على الصلاة والتزامه بها ضروري جدا، لكي تصبح الصلاة عادة راسخة فيه، ويفكر في الرجوع إلى الله تعالى أولاً، ثم بعد ذلك يأتي تدريجيا ذلك الوقتُ الذي يرث فيه نورًا ومتعة منقطعًا إلى الله تعالى انقطاعا كليا.
وها إني أؤكد هذا الأمر ثانيةً، ومن المؤسف أني لم تسعفني الكلمات المناسبة لبیان مساوئ الرجوع إلى غير الله تعالى. يذهب الناس إلى الآخرين ويتوسلون إليهم متملقين، وهذا التصرف يثير غيرة الله، لأن تصرفهم هذا هو بمنزلة العبادة والصلاة للناس، ولذلك ، فإن الله تعالى ينأى عن مثل هذا الإنسان ويرميه عنه بعيدا. وأضرب لبيان هذا الأمر مثالا ، ولكنه ليس حقيقة، بل هو مجرد مثال يبين هذا الأمر جيدا، وهو كما أن الإنسان الغيور لا يطيق رؤية زوجته وهي في علاقة غير مشروعة مع شخص آخر، وتستوجب هذه المرأة الخبيثة القتل في رأيه، وكثيرا ما يقع القتل في مثل هذه الحالات بالفعل، كذلك تكون غيرة الألوهية وحماسها تجاه العبودية. إن العبودية والدعاء خاص بالله تعالى، فلا يرضى أن يُتَّخذ غيره إلها أو يُدعى من دونه ألا فاسمعوا وعوا جيدا: إن الميلان إلى غير الله يعني قطع العلاقة
مع الله تعالى.
إن الصلاة أو التوحيد بتعبير آخر؛ لأن إقرار التوحيد عمليا هو الصلاة في الواقع - يظل صاحبها محروما من بركتها وفوائدها ما دام لم يصلها بروح الفناء والتذلل وبقلب حنيف.
الأخذ بالأسباب شعبة من شعب الدعاء:
ألا إن الدعاء الذي قال الله عنه : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) (غافر : ٦١) يتطلب روحًا صادقة، أما إذا كان التضرع والخشوع خاليا من الحقيقة، فلا يعدو الأمر ترديد الكلمات كالببغاء.
وقد يقول البعض أن لا حاجة للأخذ بالأسباب. وهذا القول ناشئ عن سوء فهم، فإن الشريعة لم تمنع من الأخذ بالأسباب. والحق يقال: أليس الدعاء نفسه أحد الأسباب؟ أوليست الأسباب من قبيل الدعاء؟ الحق أن البحث عن الأسباب بحد ذاتها دعاء، والدعاء في حد ذاته مصدر لأسباب عظيمة! إن خلق الإنسان الظاهري وبنية يديه وقدميه كلها لدليل طبعي على التعاون المتبادل. وما دام هذا المشهد موجودا في الإنسان نفسه، فمن المدهش أن يصعب على المرء فهم معاني قوله تعالى : تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى (المائدة: ٣). غير أني أقول: ابحثوا عن الأسباب أيضا بواسطة الدعاء. ما دمت قد بينت لكم ما خلقه الله تعالى في أجسادكم من نظام متكامل مرشد إلى ضرورة التعاون المتبادل، فلا أدري كيف يمكنكم إنكار الدعاء. ولتبيان ضرورة الأخذ بالأسباب بصورة أجلى قد أقام الله تعالى نظام بعثة الأنبياء في الدنيا. كان الله تعالى، ولا يزال، قادرا على ألا يجعل أنبياءه عليهم السلام بحاجة إلى أيّ استعانة من الناس لو شاء ذلك، ومع ذلك يأتي على الأنبياء وقت يضطرون فيه للقول: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ (آل :عمران (٥٣). فهل تظنّون أن نداءهم هذا يكون كنداء المتسولين العاجزين؟ كلا، بل إن قولهم: "مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ" متسم بالعظمة. إذ يريدون أن يعلموا الناس ضرورة الأخذ بالأسباب الذي هو شعبة من شعب الدعاء، وإلا، فإنهم يؤمنون بالله إيمانا كاملا ويوقنون بوعوده يقينا تاما، ويعلمون أن وعد الله: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (غافر : (٥٢) وعدٌ يقيني ومبرم. يا ترى، كيف ينصرهم أحد إذا لم يُلقِ الله في قلبه فكرة نصرتهم؟
السرّ في دعوة المأمور الرباني الناس لنصرته :
الحق أن المعين النصير الحقيقي هو الله وحده الذي صفته: نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ. الأَنْفال: ٤١ . عند هؤلاء القوم تكون الدنيا ونصرته كالميت، ولا تساوي دودةً ميّتة، إلا أنهم يتبعون هذا الأسلوب لتعليم الناس ضرورة الدعاء بهذا المثال الواضح. الحق أنهم يرون الله وحده كافل، وهذا هو الأمر الواقع: ﴿وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (الأعراف: ۱۹۷)، ولكن الله تعالى يأمرهم بإنجاز مهمتهم بواسطة الآخرين. كان رسولنا لا يدعو الناس لنصرته في مناسبات شتى، ذلك لأن الوقت كان وقت النصرة الإلهية، فكان لا يتحرى ويبحث عمن تتحقق نصرة يده. إن هذا لأمر جدير بالتأمل. الحق أن المأمور الإلهي لا يستعين بالناس، بل يريد استقبال النصرة الإلهية بقوله : مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ (آل عمران: ٥٣)، ويظل يبحث عنها بقلب مضطرب من فرط الشوق . يظن الأغبياء قليلو البصيرة أنه يطلب المعونة من الناس، والواقع أنه باتخاذ هذا الأسلوب إنما يتسبب في نزول البركة والرحمة على قلب يصبح وسيلة لهذه النصرة. فهذا هو السر الحقيقي الكامن وراء استعانة الله على المأمور الرباني بالناس، وسيظل هذا الأمر هكذا. لا شك أن المأمورين الربانيين يطلبون المعونة من الناس في سبيل نشر دينهم، ولكن لماذا؟ لأداء واجبهم، ولتوطيد عظمة الله في القلوب، وإلا، فيكاد الأمر يكون كفرًا لو عدّوا ما سوى الله تعالى كافل أمرهم ، وهذا محال على الإطلاق من هؤلاء النفوس القدسية. لقد قلت آنفًا إن التوحيد الكامل لا يتيسر للمرء إلا باعتباره الله الأحد معطي كل شيء ودواء كل داء وعماد كل أمر. هذا هو معنى "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ". وقد فسر الصوفية لفظ الإله بمعنى المحبوب والمقصود والمعبود. وهذا هو الحق صدقا وعدلا. فما لم يتمسك الإنسان بالتوحيد تمسكا كاملا، لا تتوطد فيه محبة الإسلام وعظمته.
وأعود إلى الموضوع الأصلي ثانية وأقول: إن لذة الصلاة وحلاوتها لا تتيسر لمثل هذا الإنسان. فما لم يحرق الإنسان نواياه السيئة وخططه الخبيثة القذرة، وما لم يتفان ويتواضع بالقضاء على أنانيته وكبريائه، لن يسمى عبد الله الصادق، وإن أفضل معلم وخير وسيلة لتعليم العبودية الكاملة إنما هي الصلاة نفسها.
وها إني أقول لكم مرة أخرى : إن كنتم تريدون إنشاء صلة حقيقية وعلاقة صادقة مع الله تعالى، فداوموا على الصلاة والتزموا بها، بحيث تصبح إرادات روحكم وجذباتها، فضلاً عن أجسادكم وألسنتكم، كلُّها صلاةً متجسدة.
الحكم، مجلد ۳ عدد ۱۳ ص ۳- ٧ يوم ١٨٩٨/٤/١٢.
هذا هو السر الكامن في عصمة الأنبياء. لماذا يكون الأنبياء معصومين؟ إنما يحظون بالعصمة لاستغراقهم في حبّ الله تعالى. إنني أستغرب جدا حين أرى الأمم المتورطة في الشرك، كالهندوس الذين يعبدون أنواع الأصنام حتى أجازوا عبادة الأعضاء الجنسية للرجل والمرأة، أو الذين يعبدون إنسانا ميتا، أعني يسوع المسيح. يعتقد أمثال هؤلاء بالفوز بالنجاة بسبل شتى، فالقسم الأول منهم، أي الهندوس، يريدون النجاة من خلال الاغتسال في نهر الغانج وزيارة معابد معينة، وينشدون غفران الذنوب بكثير من الكفارات من هذا القبيل. أما المسيحيون، عبدة عيسى، فيرون في دم المسيح فديةً لذنوبهم. ولكنني أقول: ما دام الذنب موجودا فيهم، فأنّى لهم أن ينالوا الراحة أو الطمأنينة بهذه الطهارة الظاهرية والمعتقدات الخارجية. من المستحيل أن يفوز الإنسان بالطهارة الحقة التي تنال بها النجاة ما لم ينظف داخله ويطهر باطنه. نعم، يمكنكم أنتم أن تتعلموا من ذلك درسًا، فكما أنكم ترون أن درن الجسم وعفونته لا يزولان من دون الغسل، ولا يكون البدن معها في مأمن من الأمراض الخطيرة المهددة، كذلك، فلا يزول الوسخ والدرن الروحاني المتراكم على القلوب بارتكاب أنواع المنكرات والجسارات ما لم يغسله ماء التوبة المصفى الطاهر. فكما أن هناك فلسفة في النظام المادي، كذلك هناك فلسفة في النظام الروحاني أيضا. فطوبى للذين يتدبرون في ذلك ويتفكرون.
حقيقة الإثم ووسائل النجاة منه:
وأود هنا أيضا أن أخبركم: لماذا ينشأ الإثم؟ والجواب بكلمات سهلة هو أن حب غير الله حين يستولي على قلب الإنسان، فإنه يصيب تلك المرآة الصافية النقية بنوع من الصدأ، حتى يسود كله رويدا رويدا، وتعشش فيه الغيرية، وتُبعده عن الله نهائيا. وهذا هو أصل الشرك. أما القلب الذي تستولي عليه محبة الله، ومحبة الله وحده، فهي تحرق ما فيه من الغيرية وتصطفيه لها وحدها. وعندها ، تنشأ فيه الاستقامة، وتستوي في مقامها الحقيقي. لا شك أن الإنسان يتألم حين ينكسر عضو من أعضائه ثم حين يُجبَر، لكن ألم الكسر يكون أكبر كثيرا من ألم عملية الجبر، ثم إن ألم عملية جبره يكون مؤقتا وجالبًا للراحة فيما بعد، ولكن العضو الكسير لو بقي على حاله اضطر المرء لبتره أيضا في نهاية المطاف. وبالمثل، فإن نيل الاستقامة يحتم مواجهة شيء من الأذى والصعاب في المراحل والمدارج الابتدائية، لكن بعد نيل الاستقامة ليس إلا الراحة والسرور الدائمان:
ورد أنه لم تكن لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي شعرة بيضاء قبل أن يتلقى أمر الله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ) هود (۱۱۳) ، ولكن بعدها بدأ شعره يبيض، حتى قال: شيبتني هود. (الترمذي)
باختصار، لا يستطيع الإنسان أن يميل إلى الحسنات ما لم يكن عنده الإحساس بالموت. لقد أخبرت أن الإثم ينشأ بنشوء حب غير الله في القلب، ويستولي عليه بالتدريج؟ فمن وسائل اجتناب الإثم والاعتصام منه أن يذكر الإنسان الموت دوما، ولا يبرح يتدبر عجائب قدرة الله، لأن ذلك يزيده إيمانًا وحبًا لله تعالى، وإذا نشأ حب الله في القلب حرق الإثم وحوّله رمادا.
فالوسيلة الثانية لاجتناب الإثم هي الإحساس بالموت ، فلو وضع المرء موته في الحسبان كل حين، لكفّ عن هذه السيئات ،والخطايا وتيسر له إيمان جديد بالله تعالى، وتسنتْ له فرصة التوبة والندم على ذنوبه السابقة.
ما حقيقة هذا الإنسان الضعيف؟ إنما تتوقف حياته على نفس واحد فقط. فلماذا إذن لا يهتم بالآخرة، ولا يخاف الموت؟ ولماذا يضيع العمر خادما منقادًا للعواطف النفسانية والحيوانية؟ لقد رأيت أن الهندوس أيضًا قد نشأ لديهم الإحساس بالموت . كان في بطالة ثري يُدعى کشن جند ، وكان عمره يتراوح ما بين ۷۰ و ۷۲ عاما، فهجر البيت والأهل وكل شيء، وذهب ليسكن في "كانشي"، هي مدينة بنارس المقدسة عند الهندوس. (المترجم). وهنالك مات. ولم يفعل ذلك إلا ظنا منه بأن موته هنالك سيُكسبه النجاة. لا شك أن ظنه هذا كان باطلا، غير أننا نتوصل من ذلك إلى نتيجة مفيدة، وهي أن الرجل كان عنده الإحساس بالموت، وأن الإحساس بالموت يعصم الإنسان من الانغماس كليةً في ملذات الدنيا ومن الابتعاد عن الله نهائيا. وليس الظن بأن الموت في كانشي مدعاة للنجاة، إلا غشاءَ عبادةِ المخلوق الذي كان على قلب ذلك الهندوسي، غير أنني أتأسف جدًّا حين أرى أن المسلمين ليس عندهم الإحساس بالموت حتى كالهندوس أيضا. انظروا إلى رسول الله كيف شيبه أمر رباني واحد : فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ : هود (۱۱۳). كم كان إحساسه بالموت قويا! لماذا صارت حالته هكذا؟ ليس إلا لنأخذ من ذلك درسا وعبرة، وإلا، فقد بلغت حياة النبي من الطهر والقداسة أن جعله الله تعالى هاديا كاملا إلى يوم القيامة وللعالم بأسره. ذلك لأن سوانح حياته كلها كانت مجموعةً للأحكام العملية. فكما أن القرآن الكريم کتاب الله القولي، وقانون الطبيعة كتابُ الله العملي، كذلك فإن حياة النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب العملي ، وكأنما هي شرح وتفسير للقرآن الكريم.
لقد ابيض شعري حين كنت في الثلاثين من عمري وكان حضرة المرزا، والدي المرحوم، ما زال حيًّا. فكأنما الشعر الأبيض هو أيضا من أمارات الموت. عندما يغزو الشيب الذي علامته هذا الشعرُ الأبيض، يدرك المرء أن أيام موته قد اقتربت، ولكن المؤسف أنه لا يهتمّ عندها أيضا. المؤمن بوسعه أن يتعلم الأخلاق الفاضلة حتى من العصفور وغيره من الحيوانات، لأن كتاب الله المفتوح هذا موضوع أمامه، وكل ما خلقه الله تعالى في الدنيا إنما هو لراحة الإنسان المادية والروحانية كلتيهما. لقد قرأت في تذكرة حضرة جنيد - رحمة الله عليه - أنه قال: لقد تعلمت التأمل والتدبر من القطة. لو أمعن الإنسان النظر جيدا لرأى أن الحيوانات أيضا تمتلك الأخلاق بلا مراء. ومذهبي أن كل طير ودابة عبارة عن خُلق، والإنسان اسم لمجموعها. إنه النفس الجامعة، ولذلك يسمَّى العالم الصغير، إذ توجد فيه كمالات كل المخلوقات مجموعةً. وإن كمالات كافة البشر قد جمعت في النبي ، ولذلك بعث إلى العالم أجمع، وسمي رحمةً للعالمين. وإن قول الله تعالى ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم: ٥) أيضا إشارة إلى مجموعة الكمالات الإنسانية هذه، وهذا ما يساعده على التدبر في عظمة الأخلاق المحمدية، ومن أجل ذلك، قد خُتمت على النبي كمالات النبوة الكاملة. فمن المسلَّم به أن خاتمة أي شيء تكون عند بلوغه الغاية المتوخاة من خلقه. فكما أن الكتاب إذا تم بيان جميع مضامينه انتهى، كذلك فإن الغاية المتوخاة من النبوة والرسالة قد خُتمت على النبي، وهذا هو معنى ختم النبوة، لأن هذه السلسلة كانت جارية عبر العصور، وختمت عند الإنسان الكامل.
الاستقامة هي الاسم الأعظم للإنسان:
وأود أن أبين أيضًا أن الاستقامة التي بدأتُ بها هذا الموضوع هي نفس ما يسميه الصوفية الفناء في مصطلحهم، وهم يفسرون: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ أيضا بمعنى الفناء، أي أن تصبح أرواحنا وثوائرنا وإراداتنا كلُّها لله تعالى، وأن تموت عواطفنا وأهواؤنا النفسانية نهائيا . إن بعض الناس الذين لا يؤثرون مشيئة الله وإراداته على إراداتهم وثوائرهم يغادرون الدنيا في أحيان كثيرة بسبب خيبة آمالهم فيما أرادوا وتمنوا. كان أخي المرحوم مرزا غلام قادر شديد الانهماك في متابعة القضايا، وقد بلغ به استغراقه وانهماكه فيها أن أثرت خيبة آماله فيها على صحته سلبيًا، فمات. لقد رأيت أناسا آخرين كثيرين يؤثرون إراداتهم على الله تعالى، وفي نهاية المطاف يفشلون في تقديم هذه الأهواء على مشيئة الله، فيخسرون بدلاً من الفائدة خسرانا عظيما. سيكشف لكم التأمل في الإسلام أن سبب الفشل هو الكذب فقط. عندما يقل التفات المرء إلى الله تعالى، ينزل عليه قهره الذي يجعله خائبا وخاسرا، لا سيما عندما يخلد ذوو البصيرة إلى الدنيا ومآربها بكل حماسهم وإراداتهم، فإن الله تعالى يجعلهم من الخائبين. ولكن السعداء يضعون في الحسبان ذلك المبدأ المقدس، أعني الإحساس بالموت. إن السعيد يفكر أن لا مناص له أيضا من الموت في يوم من الأيام كما مات والداه أو بعض كبار عائلته، وأحيانا يفكر في عمره ويقول لقد غزاني المشيب والموت قريب الآن، فيرجع إلى الله تعالى. هناك عائلات لا تصل أعمار أبنائها عموما إلا ٥٠ عاما أو ٦٠ عاما. فمثلاً: إن أعمار أفراد عائلة السيد ميان في بطالة لا تتجاوز هذا الحد عادة. وهكذا ، فإن تقدير المرء أعمار أفراد عائلته أيضًا يبعثه على الإحساس بالموت. فينبغي أن تضعوا في الحسبان جيدا أنه لا مناص من ترك هذه الدنيا ومتعها في يوم من الأيام، فلماذا لا يترك الإنسان قبل ذلك الأوان الطرق غير الشرعية لنيل هذه المتع. لم يترك الموت كبار الصالحين والمقربين ، ولم يبال بالشباب ولا بأكبر الأثرياء أو الأتقياء أيضًا، فلماذا يترككم ؟ فاحسبوا الدنيا ومرافقها سببًا من أسباب الحياة ووسيلةً لعبادة الله تعالى. لقد بيّن السعدي هذا الموضوع كالتالي:
خوردن برائے زیستن و ذکر کردن است
تو معتقد که زیستن از بهر خوردن است
أي: إنما الأكل هو من أجل العيش والذكر ، لكنك تعتقد أن العيش من أجل الأكل فقط.
لا تظنوا أن الله سيرضى عنكم حتمًا وأنتم تستمتعون بالملذات. إن هؤلاء العميان لو جاءتهم رسالة من الله، فأيضا لن يكفّوا عن الانغماس في المتعة التي يجدونها في الانجرار وراء اتباع الرغبات الجسدية والنوايا المادية، ويؤثرونها على المتعة التي ينالها المؤمن في الله تعالى. والحق أن رسالة الله لموجودة، واسمها القرآن الكريم، الذي يعد بالجنة الخالدة والراحة الأبدية، لكن وعده بالنعم لا يُلتفت إليه مطلقا. كم يتكبد الإنسان الغافل من الآلام والصعاب بحثًا عن الفرحة الوهمية والراحة المؤقتة، ولكنه عند رؤية صعوبة بسيطة في سبيل الله تعالى يصاب بالقلق ويسيء الظن. ليته استطاع تقدير الأفراح الدائمة الأبدية إزاء هذه اللذات الفانية. وللتغلب على هذه الصعاب والمحن، هناك وصفة كاملة وناجعة حتمًا قد جربها ملايين الصالحين. فما هي تلك الوصفة؟ ألا إنها الوصفة التي تسمى الصلاة.
فما هي الصلاة؟ إنما هي دعاء يحمي المرء من جميع السيئات والفواحش، ويجعله مستحقا للحسنات ومحطّا لنعم الله تعالى. لقد قيل إن لفظ الجلالة "الله" هو الاسم الأعظم. لقد جعل الله جميع صفاته تابعة لهذا الاسم. تأملوا هنا قليلا، فإن الصلاة تبدأ بالأذان، والأذان يبدأ بـ "الله أكبر"، أي باسم "الله"، وينتهي بـ " لا إله إلا الله"، أي باسم "الله" أيضا. إنها لمفخرة العبادة الإسلامية وحدها أن الله وحده لا غير، هو المقصود في أولها وآخرها. وأقول بكل تحدٍ: لا يوجد هذا النوع من العبادة في أي أمة ولا ملة.
فالصلاة التي هي الدعاء، قد قُدّم فيها اسم الله، الذي هو الاسم الأعظم له سبحانه وتعالى.
كذلك، فإن الاستقامة هي الاسم الأعظم للإنسان، والمراد من الاسم الأعظم للإنسان ما تتحقق به الكمالات الإنسانية، وإلى ذلك نفسه قد أشار الله تعالى في قوله : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . وقال تعالى في موضع آخر: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا (فصلت: ۳۱)، أي أن الذين جاءوا تحت ربوبية الله تعالى ، أي حين توضع البيضة البشرية تحت الاسم الأعظم ، أي الاستقامة ، تنشأ فيهم من الكفاءة ما يجعل الملائكة تنزل عليهم، ولا يبقى لهم خوف ولا حزن .
لقد قلت آنفًا إن الاستقامة لشيء عظيم. فما هي الاستقامة؟ اعلموا أن كل شيء إذا كان موضوعًا في محله ومقامه سُمّى الحكمة والاستقامة. فمثلا لو قمنا بتفكيك جهاز المنظار وفصل كل أجزائه التركيبية عن مكانها الأصلي، فلن ينفع أبدًا. فوضع الشيء في محله هو الاستقامة، أو بتعبير آخر، إن الهيئة الطبيعية للشيء هي الاستقامة. وإننا ما لم نترك البنية الإنسانية في وضعها الطبيعي تماما، ولم نضعها في حالة مستقيمة، فمن المستحيل أن تحرز كمالاتها المنشودة. فالأسلوب السليم للدعاء إنما هو أن يجتمع فيه الاسمان الأعظمان، وأن يتوجه الداعي إلى الله تعالى ولا يتوجه إلى أحد غيره، وإن كان هذا الغير وثن أهوائه وأطماعه، وعندها يذوق الداعي طعْمَ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (غافر: ٦١).
فأمنيتي أن تجاهدوا من أجل الاستقامة ، وتنالوها بترويض النفس، لأن الاستقامة تبلغ المرء حيث يتشرف دعاؤه بالقبول. يوجد في الدنيا اليوم كثيرون يشتكون عدم استجابة الدعاء، ولكني أقول مع أسف شديد: أنَّى لهم أن ينالوا متعة استجابة الدعاء ما لم يتحلوا بالاستقامة؟ إننا نحظى بآيات استجابة الدعاء في هذه الدنيا نفسها. بعد الاستقامة، يجد الإنسان في نفسه آثار ثلج القلب والسكينة، ولا يحرق قلبه أي نوع من الفشل وخيبة الأمل في بادي الرأي. لكن الذين يجهلون حقيقة الدعاء ينقلب عليهم فشلهم البسيط فيحا من نار جهنم، ويستولي على قلوبهم، ويصيبهم بالحزن والقلق الدائمين، وإلى ذلك قد أشار الله تعالى بقوله: نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ. الهمزة: ۷ - (۸) ، بل يبدو من الحديث الشريف أن الحمى أيضا من نار جهنم ؟
سلسلة المجددين في الأمة:
وهناك أمر آخر جدير بالانتباه هنا، ألا وهو ، لما كان من المقدر أن يتوفى النبي : : ليغيب بذلك عن العالم - في ظاهر الأمر - النموذج الذي يُري وجه الله تعالى، فقد دبَّر الله لتلافي ذلك طريقة سهلة حيث قال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ) (آل عمران (۳۲. ذلك لأن صاحب الاستقامة هو وحده يمكن أن يصبح محبوب الله، ويستحيل أن يصير صاحبُ الزيغ محبوب الله أبدًا. وقد فرض الله علينا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل صلاة لكي يزداد حبنا للنبي ويتجدد، لتتيسر لنا وسيلة للاستقامة التي بها يجاب دعاؤنا هذا. فمن المسلم به أن وجود النبي صلى الله عليه وسلم باق على وجه الظلية إلى يوم القيامة. ويقول الصوفية إن أسماء المجددين تكون على اسم النبي حصرا، أعني أنهم يُعطون ذلك الاسم نفسه على وجه الظلية بشكل من الأشكال. أما عقيدة الشيعة بأن سلسلة الولاية قد انتهت عند سيدنا علي كرّم الله وجهه - فهي باطلة تماما. إن الكمالات التي قد جعلها الله تعالى في النبوة قد خُتمت جميعها على الهادي الكامل ، والآن ستظل تلك الكمالات تلقي فيوضها الأول على العالم على وجه الظلية بواسطة المجددين دوما، فسوف يمدد الله هذه السلسلة إلى يوم القيامة.
أقول مرة أخرى: إن الله تعالى لم يحرم العالم في الزمن الحاضر أيضًا، وقد أقام لذلك جماعة. أجل، قد أقام الله تعالى بيده عبدًا، وهو نفسه الذي يكلمكم جالسا بين ظهرانيكم. إن هذا الوقت وقت نزول رحمة الله. فادعوا الله تعالى، واسألوه الاستقامة، وأكثروا من الصلاة على النبي لأنها وسيلة عظيمة لنيل الاستقامة، لكن لا على سبيل العادة والتقليد فحسب، بل صلّوا عليه واضعين في الحسبان حسنه وإحسانه لرفع مدارجه ومراتبه ولنجاحاته، وستكون نتيجة ذلك أنكم ستعطون الثمرة الحلوة اللذيذة لاستجابة الدعاء.
وسائل استجابة الدعاء:
وهناك ثلاث وسائل لاستجابة الدعاء:
الأولى : إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ) (آل عمران: ٣٢).
والثانية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (الأحزاب: ٥٧).
والثالثة: الموهبة الإلهية، فمن قانون الله العام أنه يخلق في العالم نفوسًا قدسية كثيرة مثل نفوس الأنبياء - تكون متحلية بالاستقامة بالفطرة.
اعلموا أيضًا أن الناس ثلاثة أنواع من حيث الفطرة، الأول: ظالم لنفسه. والثاني: مقتصد أي يكون حائزا على شيء من الحسنات ومشوبا بشيء من السيئات أيضًا. والثالث: سابق بالخيرات وكارة للسيئات. وهذه الفئة الأخيرة تبلغ مرتبة الاجتباء والاصطفاء ، ومن هذه الفئة الطاهرة تكون جماعة الأنبياء عليهم السلام. وهذا النظام جارٍ ومستمر منذ الأزل، ولم تخل الدنيا من أمثال هؤلاء قط.
يطلب بعض الناس مني الدعاء، لكنهم للأسف الشديد لا يعرفون آداب طلب الدعاء، وعلى سبيل المثال، إذا احتاج "زيد" إلى الدعاء، أرسل "بكرا" ليطلب له الدعاء. هذا الأسلوب لا ينفع شيئا. فما لم ينشئ طالب الدعاء في نفسه القابلية، ولم يتعود على الاتباع والطاعة، لن يجديه الدعاء نفعًا. إذا كان المريض لا يرى ضرورة العمل بأمر الطبيب، فمن المحال أن يستفيد منه شيئا. فكما أن المريض لا بد له من العمل بنصح الطبيب باستقامة وصبر لكي يستفيد منه، كذلك تماما هناك آداب وأساليب لطلب الدعاء أيضًا.
ورد في تذكرة "الأولياء" أن شخصا طلب الدعاء من أحد الصالحين، فطلب منه الرجل الصالح أن يأتيه بالأرز والحليب فاندهش السائل، لكنه ذهب وجاء بهما، فدعا له الرجل الصالح، وتحقق مراد الطالب. عندها أخبره الرجل الصالح وقال: إنما فعلتُه مِن أجل إنشاء علاقة خاصة بيني وبينك.
كما ورد في تذكرة باوا فريد المحترم أن شخصا فقد مستندا هاما له، فجاء إلى باوا فريد طالبا الدعاء، فقال له: أطعمني الحلوى أولاً . فذهب الرجل لشراء الحلوى، فوجد مستنده الهام بين الأوراق في محل الحلواني.
إنما قصدي من ذكر هذه الأمور أن الدعاء لا يكون ذا تأثير ما لم يكن بين طالب الدعاء والداعي علاقة خاصة. فما لم تتولد في الداعي حالة الاضطرار، وما لم يصبح قلق الطالب قلق الداعي نفسه، لا يجديه دعاؤه شيئا. فالمشكلة التي تواجه الناس أنهم يجهلون آداب طلب الدعاء، وحينما لا يرون فائدة واضحة للدعاء، يسيئون بالله الظنون، فيجعلون حالهم يُرثى لها. وأقول أخيرا: سواء أدعوتم بأنفسكم، أو طلبتم الدعاء من أحد، فلا بد لكم من أن تتحلوا بالطهارة والصفاء وتطلبوا الاستقامة وتخرّوا أمام الله تائبين. فهذه هي الاستقامة، وعندها ستحظون باستجابة الدعاء والحلاوة في الصلاة. ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ (الجمعة: ٥).
رسالة للمسيح الموعود حول وحدة الوجود، إعداد شيخ يعقوب علي عرفاني ص ١٤-٢٣ .
19/1/1898
// بعد صلاة المغرب)
مهمة مجدد القرن الرابع عشر:
قال المسيح الموعود : إن فتنة النصارى هي أُمُّ الفتن، ولذلك قيل إن مهمة مجدد القرن الرابع عشر أنه "يكسر الصليب". وبسبب انطباق هذه العلامة على مجدد القرن الرابع عشر سُمّي مسيحا موعودا، لأن الثابت من الأحاديث أن مهمة المسيح الموعود أنه يكسر الصليب، ومعارضونا لا يسعهم إنكار أن واجب مجدد القرن الرابع عشر أن يكسر الصليب لأن هذه المصيبة هي التي واجهها، فكيف يسعهم إنكار أن المسيح الموعود هو مجدد القرن الرابع عشر ؟ إننا نعتني بالعطاشى للحق، أما الذين لا يبحثون عن الحق ويملكون طبائع غير مستقيمة فأنى لهم أن ينتفعوا منا؟ اعلموا أن الهدى يكون في نصيب غير المتعصبين، أما الذين لا يتدبرون ، فلا ينتفعون شيئا. ليفهم طالب الهدى أن مهمة مجدد القرن الرابع في الظروف الراهنة أن يكسر الصليب، لأن الفتنة الصليبية منتشرة انتشارا مخيفا. إن الإسلام دين كان إذا ارتد عنه شخص واحد في الماضي قامت القيامة، أما اليوم ، فإن عدد المرتدين عنه قد بلغ مئات الآلاف للأسف الشديد والمولودون في بيوت المسلمين يرمون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذلك الإنسان الكامل الذي لا نظير له في طهارة الباطن، بأنواع التهم التي تدمي القلوب. لقد نشرت هذه الفئة ملايين الكتب في تكذيب سيد المعصومين، وتشيع دوريات كثيرة من جرائد ومجلات أسبوعية وشهرية للغرض نفسه. أفلم يكن خليقا بالله تعالى أن يبعث مجدّدا في هذا الوضع؟ ثم بيّنوا بالله بعد التفكير أنه لو بعث المجدد في هذا الوقت؟ فهل كان عليه أن يهتم بالجدالات الدائرة حول رفع اليدين والجهر بـ "آمين ؟" فكّروا مليًّا، هل من واجب الطبيب أن يهتم بعلاج الوباء المتفشّي بين الناس أم يهتم بمرض آخر؟ لقد بلغت إهانة رسول الله صلى الله عليه وسلم المنتهى في هذا العصر. ورد أن صحابيا سمع أُمَّه تهين النبي فقتلها. هكذا كانت غيرة المسلمين وحميتهم. أما اليوم، فإنهم يقرأون ويسمعون كتبًا مسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك لا تأخذهم الغيرة. بل لا يأنفونها ولا يكرهونها، وإنما يعادون الذي قد بعثه الله تعالى للقضاء على هذه الفتنة خاصة، وقد جاء متحليًا بغيرة عظيمة لإرساء عزة النبي وجلاله، ويسخرون منه ويستهزئون. نسأل الله أن يهبهم عين البصيرة. آمين.
نبوءة عظيمة عن نصرة النبي:
قال المسيح الموعود: لقد كشف الله تعالى سموّ مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظمة مكانته بإنزال سورة في القرآن الكريم، ألا وهي أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل. الفيل: (٢). لقد نزلت هذه السورة وسيد الكون هدف للمحن والآلام، فطمأنه الله تعالى في تلك الحالة ، وقال: إني مؤيدك وناصرك. وفي قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ. الفيل: (۲) نبوءة عظيمة، وكأنه تعالى قال له: ألم تر أن ربك ردَّ مكرهم في نحورهم ، وأرسل طيورًا صغارًا لإبادتهم. لم تحمل تلك الطيور بنادق، بل حملت الطين فقط، لأن "السجيل" هو الطين. قد عد الله في هذه السورة رسوله الكعبة ، وأنبأ بنجاحه وتأييده ونصرته بذكر حادث أصحاب الفيل، بمعنى أنّ الذين يسعون ويكيدون لإفشال مهمة النبي وأعماله كليةً، سوف يردّ الله تعالى مكايدهم وجهودهم في نحورهم بإهلاكهم بدون أسباب كبيرة، كما دمّرت العصافير أصحاب الفيل. وهذه النبوءة ممتدة إلى يوم القيامة، فكلما أطلت فئة برأسها كأصحاب الفيل، هيأ الله تعالى من عنده الأسباب لتدميرهم ولإحباط مكايدهم.
هذه هي سياسة القسيسين. إن الإسلام هو الصخرة الجاثمة على صدورهم، أما الأديان الأخرى فهي كالخناثى عندهم. والهندوس أيضا إذا تنصروا ألفوا الكتب ضد الإسلام فقط. لقد بذل رام" شندر وتهاكر داس كل ما في وسعهما لتأليف الكتب ضد الإسلام، ذلك لأن ضمائرهم تقول لهم أن هلاكهم على يد الإسلام وحده. ومن الطبيعي أن المرء إنما يخاف مما يسبب هلاكه. الفراخ مثلاً تبدأ بالصراخ فورا برؤية القط، كذلك فإن الجهود التي يبذلها أتباع شتى الأديان عموما والقساوسة خصوصا ضد الإسلام إنما سببها أن قلوبهم تستيقن وضمائرهم تشهدهم أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي سيسحق مللهم الباطلة.
الدفاع عن الإسلام على يد الأحمدية:
إن الإسلام اليوم هدف لغارة كغارة أصحاب الفيل، والمسلمون مصابون بأنواع الضعف، والإسلام فقير غريب، وأصحاب الفيل أقوياء، ولكن الله تعالى يريد أن يُري المشهد نفسه ثانية، ويسخّر العصافير للقيام بتلك المهمة نفسها. فما جماعتنا وما حقيقتها إزاءهم؟ إنها لا تساوي إزاءهم شيئًا، وهي ليست أمام اتحادهم وقوتهم وثروتهم شيئًا يُذكر، ومع ذلك نرى حادث أصحاب الفيل أمام أعيننا، فكم تبعث على الاطمئنان هذه الآيات التي أنزلها الله تعالى! لقد تلقيتُ أنا أيضا هذه الآية بالوحي مما يبين جليا أن تأييد الله ونصرته ستعمل عملها حتمًا، ولكن لا يوقن بذلك إلا الذين يحبون القرآن الكريم، أما الذي ليس في قلبه حب القرآن ووداده ، فأنّى له أن يأبه بهذه الأمور ؟ إنما الإسلام والإيمان أن يوافق المرء أمر الله تعالى. إن الذي لا يعزّ الإسلام ولا يغار عليه، فلا يعزه الله ولا يغار عليه، أيا كان، وهو ليس بمسلم في الواقع. لا تحتقروا أقوال الله تعالى، وارحموا الذين كفروا بالحق تعصبًا ، وقالوا لا حاجة لبعثة أحد في عصر الأمن والسلام هذا. أفلا يرون كيف أحدق الأعداء بالإسلام من كل حدب وصوب،
واأسفا عليهم، وكيف صار هدفًا لهجمات تلو الهجمات؟ وكيف يساء إلى النبي ، ومع ذلك يقولون أن لا حاجة لبعثة أحد.
قانون قمع الفتن لن تنتفع به إلا جماعتنا:
إن قانون قمع الفتن والتمرد الصادر من قبل الحكومة خير لنا، ولن ينتفع منه إلا نحن، وسيكون سببًا لإهلاك الملل الأخرى، إذ نملك كنوز الحقائق والمعارف، وسنواصل توزيعها بلا نهاية. ما هي المعارف التي يمكن أن يعرضها الآريون الهندوس والقسس على الناس؟ وماذا أرى منها القسيسون خلال نصف القرن الماضي؟ متى يقدرون على تقديم شيء غير الشتائم والسباب حتى يقدموا شيئا آخر في المستقبل؟ وليس بأيدي الهندوس أيضا إلا المطاعن وها نحن نتحدى أنه لو ادعى أي آري أو قسيس بيان محاسن دينه ومزاياه، فلن يقف أمامنا ساعة واحدة.
الحكم، مجلد ٥ عدد ٢٦ يوم ۱۹۰۱/۷/۱۷ ص ۱-۲ .
عقيدة الفداء:
إن أول لبنة للدين هي معرفة الله تعالى ، فما لم تكن هذه المعرفة سليمة فكيف تكون الأعمال طاهرة؟ يعترض النصارى كثيرا على طهارة الآخرين الباطنة بسبب إيمانهم بعقيدة الفداء المنافية للأخلاق. لا أفهم كيف يمكن للإنسان أن يخاف مع إيمانه بعقيدة الفداء؟ أليس صحيحا أنهم يؤمنون أن كل الوبال وقع على المسيح جراء ذنوبهم، حتى عُدَّ ملعوناً وبقي في الهاوية ثلاثة أيام؟ ولو عوقب الناس على آثامهم بعد ذلك، فما فائدة الكفارة والفداء إذن؟ إن عقيدة الكفارة والفداء تقتضي ارتكاب الإثم . لا جرم أن المبادئ والعقائد لها تأثير كبير. فالبقرة مثلا مقدسة ومعظمة جدا عند الهندوس، ومن تأثير عقيدتهم هذه أنهم اعتقدوا بطهارة بولها وروثها أيضا ، وتجاوز حماسهم لتقديسها الحدود كلها. وليس ذلك إلا لأن هذا التقديس رسخ فيهم كعقيدة ومبدأ. اعلموا أن المبادئ هي بمنزلة الأم، والأعمال بمنزلة الأولاد. ما دام المسيح قد صار فداء وحمل آثام المؤمنين كلها، فلماذا لا تُرتكب الآثام إذن؟! الغريب أن المسيحيين حين يشرحون عقيدة الكفارة والفداء يبدأون خطابهم بالحديث عن رحمة الله وعدله، ولكني أسأل: لو صلب زيد مكان بكر، فأين العدل والرحم في ذلك؟ ما داموا يؤمنون أن المسيح قد حمل الذنوب كلها، فأي مانع يمنع الناس من ارتكاب الإثم؟ لو قالوا إن المسيح صار كفارة عن ذنوب النصارى الموجودين في ذلك الوقت لكان أمرا آخر ، ولكنهم ما داموا يؤمنون أن المسيح حمل كومة ذنوب الآثمين كلهم إلى يوم القيامة، وقد نال عقابها أيضا، فإن مؤاخذة الآثم بعد ذلك ظلمٌ ما بعده ظلم. أن يعاقب البريء مكان الآثم هو في حد ذاته ظلم، والظلم الثاني أن يحمَّل المسيح كومة آثام الآثمين ، ويبشروا أنه قد حمل عنهم آثامهم، ومع ذلك يؤاخذون على آثامهم ثانية. إنها خدعة غريبة ، لا يستطيع المسيحيون الرد عليها.
عقيدة الفداء تجرى على المعاصي:
ولو قيل إن الإيمان بالفداء ينجي صاحبه من حياة الإثم، فلا يعود قادرًا على ارتكابه ، فهذا ادعاء لا دليل عليه. ذلك أن مبدأ الفداء هذا إثم في حد ذاته. الحق أن القدرة على تجنب الإثم تتأتى بخوف مؤاخذة الله، ولكن ذلك الخوف لا يتأتى لمن يؤمن بأن المسيح قد حمل عنا ذنوبنا، والنتيجة أن حامل هذا المبدأ لا يكون تقيا أبدا، لأنه لن يرى كل ما هو مبني على التقوى ضروريا. اعلموا جيدا أن الطهارة الباطنية تبدأ بالمبادئ السليمة دوما، وإلا فقد قيل:
خبث نفس نہ گردد بسالها معلوم
أي: لا يُعلم خبث النفس لسنوات وسنوات.
ثم علينا أن نرى: ما هي النماذج العملية التي قدمها المؤمنون بعقيدة الفداء للطهارة الباطنية؟ إن سوء أعمال أوروبا معلوم للجميع. في أوروبا تشرب الخمر التي هي أم الخبائث بكثرة لا نظير لها في أي بلد في العالم. لقد قرأت في جريدة أن محلات الخمر الكائنة في لندن لو وُضعت في صف واحد لبلغ ٧٥ ميلا. فما دام هؤلاء يعلمون أنهم قد أُعطوا الترخيص لكل معصية؛ وأن أحدهم مهما ارتكب من الآثام فهي مغفورة له، فماذا يكون التأثير لهذا التعليم؟ يجب أن يجيبنا المسيحيون بعد تفكير وتأنّ. لو كان هذا هو مبدأنا معاذ الله - فكم كان التأثير سلبيًا علينا. إن النفس الأمارة إنما تبحث عن المبررات. انظروا كيف لجأ الشيعة إلى الاتكال على إغاثة الإمام الحسين ، وظنوا أنهم مهما فعلوا لاجئين إلى التقية فلا بأس عليهم.
وأقول دون أدنى خوف: أنكم ستجدون بين الشيعة قلة قليلة من الأتقياء بسبب تمسكهم بمبدأ التقية وعقيدة فداء الإمام الحسين . لقد كتب خليفة محمد حسين الشيعي أن قول الله تعالى في القرآن الكريم: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (الصافات: ۱۰۸) يشير إلى استشهاد الإمام الحسين ، وقد فرح هذا الشيعي جدا بقوله هذا ظنًا منه أنه أدرك لُبَّ القرآن الكريم، واطلع على نقطة معرفة عظيمة. وهذا يذكرني بحكاية سكران . كان عند سكران إبريق مثقوب، وكلما ذهب لقضاء حاجته أخذ معه الإبريق للاستنجاء، وكان الإبريق يفرغ من الماء قبل فراغه
من حاجته. فظل يفكر أياما لحل المشكلة، حتى اهتدى إلى حيلة بارعة في زعمه، حيث قرر الاستنجاء بماء الإبريق قبل قضاء الحاجة ، وفرح بذلك فرحة كبيرة. فالاستنتاج الذي قام به السيد خليفة محمد حسين من قول الله تعالى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (الصافات (۱۰۸) يماثل حيلة هذا السكران البارعة. لا يستطيع الشيعة الحفاظ على نظافة مساجدهم أيضا. كنت أدرس على يد معلم شيعي في مسجد لهم، فرأيت الكلاب تأتي وتبول وتتغوط فيه ولا أتذكر أن أحدًا صلى فيه قط. يقول الشيعة إن الإمام الحسين وأهل البيت قد استشهدوا من أجلنا، ويكفينا لدخول الجنة أن نبكي ونندب حزنًا عليهم دون أي حاجة بنا إلى أي عمل. وكذلك يقول النصارى إن دم المسيح تسبّب في نجاتنا. ونحن نقول لهم: ما دمتم ستُسألون عن ذنوبكم وتُعاقبون عليها، فأين النجاة؟ الحق أن هذا المبدأ المسيحي سيئ التأثير جدا، ولولاه لما انتشر الفسق والفجور في أوروبا على هذا النطاق الواسع ، ولَمَا جَرَفَهم سيلُ الفحشاء كما جرفهم اليوم. اذهبوا إلى لندن وباريس وانظروا ما يحدث في فنادقها ومتنزهاتها، واسألوا الذين يعودون من هنالك. تُنشر كل يوم في الجرائد قوائم الأطفال الذين يولدون ولادةً غير مشروعة.
عقيدة الفداء منافية لنواميس الطبيعة:
لذا، فلن ننظر إلا إلى المبادئ نفسها. أما مبدأنا فهو: مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (الزلزلة)) (۸) ، ويمكنكم تقدير مدى تأثير هذا المبدأ، وهو أن الإنسان سيدرك ضرورة العمل، وسوف يسعى لفعل الخيرات. أما المبدأ الذي يقول: إن نجاة المرء بالأعمال محال ، فهو سيجعل الإنسان قليل الهمة قليل السعي، فاقد الأمل وعاطلا لا يحرك ساكنا. وهذا يكشف أيضا أن مبدأ الفداء والكفارة يمثل إساءة إلى الكفاءات الإنسانية أيضا، ذلك أن الله تعالى قد جعل في قوى الإنسان خاصية التطور والارتقاء، ولكن عقيدة الفداء تعيق تطور الإنسان.
لقد قلت آنفا: إن التحرر والإباحية التي نراها عند هؤلاء المؤمنين بعقيدة الفداء هذه، إنما هو نتيجة هذه العقيدة نفسها، حيث يرتكبون الفواحش كالكلاب والكلبات، وتُرتكب الفواحش في متنزه هايد بارك" بلندن علنًا، ويولد الأولاد ولادة غير مشروعة. لذا فعلينا ألا نكتفي بالقيل والقال، بل لا بد لنا من الأعمال. الذي لا يدرك ضرورة العمل هو قليل البصيرة وجاهل جدا. إن نظائر الأعمال ونتائجها ملموسة في قانون الطبيعة، ولكن لا نجد فيها أية نظائر لعقيدة الفداء. وعلى سبيل المثال، عندما يجوع المرء فيأكل يزول جوعه، أو حين يظمأ فيشرب الماء يزول ظمأه، وندرك من ذلك أن نتيجة أكل الطعام زوال الجوع، وأن نتيجة شرب الماء زوال العطش، ولكن لا يحدث أبدا أن يجوع زيد، ويأكل بكر، فيزول جوع زيد. لو وُجد نظير لذلك في قانون الطبيعة، فلربما كان هناك مجال لقبول مبدأ الفداء، ولكن ما دام لا يوجد في قانون الطبيعة نظير لمبدأ الفداء، فكيف يقبله الإنسان المعتاد على قبول الشيء برؤية نظيره ومثاله؟
ثم لا نجد لمبدأ الفداء نظيرًا حتى في القانون العام للبشر، إذ لم نر أن يقتل زيد بكرا، فيفنى خالد. باختصار، إن الفداء مبدأ يفتقر إلى نظير البتة.
الحاجة إلى الأعمال الصالحة والتقوى:
أقول لجماعتي: هناك حاجة للأعمال الصالحة . إن كان هناك شيء يمكن أن يصل إلى الله تعالى فإنما هي الأعمال الصالحة، قال الله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ فاطر: (۱۱). إن أقلامنا اليوم هى كأسياف رسول الله ، ولكن لن يُكتب الفتح والنصر إلا للشخص التقي، فهناك وعد من الله تعالى: كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم : ٤٨) ، وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) (النساء: ١٤٢). فاعلموا أن نصركم منوط بالتقوى. لم يكن العرب إلا خطباء وشعراء فحسب، ولكنهم لما تحلوا بالتقوى، أنزل الله ملائكته لنصرتهم. لو درس المرء التاريخ، لتبين له أن كل الانتصارات التي حققها الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين لم تكن نتيجة القوى البشرية والجهود الإنسانية. لقد صارت الدولة الإسلامية عالمية خلال ٣٠ عاما، أي حتى عهد خلافة سيدنا عثمان. فهل كان هذا بوسع البشر يا ترى؟ كلا، ومن أجل ذلك قال الله تعالى مرارا : إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل: ۱۲۹).
المتقي والمحسن:
والمتقي هو الخائف الحذر. هناك أمران: تركُ الشر، وإفاضة الخير، والمتقي هو من يترك الشر، والمحسن هو من يفيض الخير. لقد قرأت حكاية بصدد هذا الموضوع، وهي أن أحد الصالحين دعا شيخًا للطعام، وقام بكل ما في وسعه لأداء حق إكرام الضيف، ولما فرغ الضيف من الطعام ، قال له الرجل الصالح في تواضع جم: إني آسف أني لم أتمكن من خدمتك كما ينبغي. فقال الضيف: إنك لم تحسن إلي بشيء، بل أنا الذي قد أحسنتُ إليك، إذ لو أحرقتُ بيتك وأثاثه وقت اشتغالك في البيت، فماذا كان سيحصل يا ترى؟!
باختصار، يجب على المتقي اجتناب السيئات، وتليها مرحلة إفاضة الخير، وقد عبّر عنها هنا بلفظ (المحسنين)، أي أن من واجب المتقي بعد ذلك أن يفعل الخيرات أيضا. إذ لا يكون المرء صالحا كامل الصلاح إلا أن يجتنب السيئات أولاً، ثم يرى ما هي الحسنات.
يُروى أن خادمًا أحضر للإمام الحسين فنجانا من الشاي، وعندما اقترب منه، سقط الفنجان على رأس الإمام بخطأ من الخادم، فتأذى الإما،م ونظر إليه شزرًا. فقرأ الخادم بصوت خافت: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ، فقال الإمام: "قد كظمت". فقال الخادم: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ، علما أن الكاظم يكبت غيظه ولا يبديه، لكنه لا يكون راضيًا عن المخطئ كل الرضى، ولذلك وضع الله تعالى هنا شرط العفو - فقال الإمام: "قد عفوت عنك". فقرأ الخادم: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ، أي أنما المحبوبون عند الله، يحسنون إلى الناس بعد الكظم والعفو . فقال الإمام: اذهب فأنت حر . هذه هي أسوة الصالحين، حيث نال هذا الخادم حريته من سيده نتيجة سقوط فنجان الشاي عليه، وتعلمون أن هذا النموذج الجميل لم يكن إلا نتيجة جمال التعليم.
قوة النبي صلى الله عليه وسلم القدسية:
يقول الله تعالى لرسوله : فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ (هود: ۱۱۳)، أي كُنْ مستقيما بحيث لا يبقى فيك أدنى عوج من سوء الأعمال، وعندها سأكون راضيا عنك. والمراد أن على النبي أن يكون مستقيما بنفسه ، وأن يجعل الآخرين أيضا مستقيمين. كم كان صعبًا تقويم العرب !
الحكم، مجلد ٥ عدد ۳۱ - ۷ - ۱۹۰۱ ص ۱ - ۳ .
لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على استفسار الناس: "شَيَّبَتْنِي هُودٌ"، لأن هذا الأمر الرباني قد حملني مسؤولية جسيمة جدا. ذلك أنه يمكن للمرء أن يقوّم نفسه ويطيع أوامر الله تعالى طاعة كاملة، أما أن يجعل الآخرين مستقيمين ومطيعين، فهذا ليس بسهل أبدا. ومن هنا يتجلى سمو مكانة نبينا الأكرم وعظم قوته القدسية. انظروا كيف عمل بهذا الأمر الرباني حيث أعدَّ جماعة طاهرة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم حتى وصفهم الله بقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)) (آل عمران (۱۱۱)، وسمعوا نداء الله: رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ (البينة: ٩). ولم يبق إلى نهاية حياة النبي أي منافق في المدينة الطيبة.
باختصار، قد حقق النبي نجاحًا لم يوجد له مثيل في وقائع حياة أي نبي آخر . وقد أراد الله تعالى ببيان ذلك ألا يقتصر أمرنا على ثرثرة اللسان فقط، إذ لو بقى مقتصرا على القيل والقال والرياء فقط، فما الذي يميّزنا عن غيرنا، وما وجه فضلنا على الآخرين؟ إنما عليكم تقديم نموذجكم العملي، ويجب أن يحمل من البريق ما يجعل الآخرين يقبلونه، إذ لن يقبله أحد بدون بريق فيه. هل يرضى المرء بشيء متسخ؟ لا يُعْجِبُ المرء ثوب فيه بقعةُ وسخ واحدة، كذلك لن يرغب فيكم أحد ما لم تكن في بواطنكم صفاء ولمعان. كل إنسان يحب الشيء النفيس، كذلك لن تبلغوا أي مقام من الروحانية بدون التحلي بالأخلاق السامية.
غاية خلق الإنسان:
لقد ذكر الله تعالى في سورة العصر نماذج حياة الكفار والمؤمنين. إن عيشة الكفار كعيشة الأنعام تماما التي لا هَمَّ لها سوى الأكل والشرب وإشباع الغرائز الشهوانية: يَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ)) (محمد) (۱۳) . ولكن لو أكل الثور العلف وطرح نفسه على الأرض عند الحراثة، فما سيكون مصيره؟ سيأخذه الفلاح إلى المجزرة ويبيعه للجزار . كذلك يقول الله تعالى عن الذين لا يتبعون أوامره ويعيشون في الفسق والفجور : قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ (الفرقان: ۷۸)، أي ماذا سيكترث الله لكم إن لم تعبدوه؟ ألا فاسمعوا بقلوب واعية، أنه لا بد لعبادة الله تعالى من الحب. والحب قسمان: أحدهما: الحب الذاتي، والآخر: الحب الناشئ عن أطماع، أي يكون وراء الحب دوافع آنية، فيفتر فور زوال تلك الدوافع مسفرا عن ألم وحزن. أما الحب الذاتي فيهب السعادة الحقة. ولأن الإنسان مجبول بفطرته على أن يكون لله تعالى، حيث قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات: ٥٧)، فقد أودع الله تعالى شيئًا لنفسه في فطرة الإنسان، وخلقه لنفسه سبحانه وتعالى بأسباب خفية جدًّا. مما يوضح أن الله تعالى قد جعل غاية خلقكم الحقيقية أن تعبدوه، والذين يعرضون عن هذه الغاية الأساسية الفطرية، ويجعلون غاية حياتهم الأكل والشرب والنوم كالأنعام، فإنهم يبتعدون عن فضل الله تعالى، ولا يكون الله مسؤولا عنهم. إن الحياة التي هي حياة المسؤولية إنما أن يؤمن بقول الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الجنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات: (٥٧ ، ويغيّر المرء منحى حياته، لأن الموت يفاجئهن وما أصدق ما قاله سعدي في بيت شعر له:
مکن تکیه بر عمر نا پائیدار مباش ایمن از بازی روزگار
أي: لا تَثِق بالحياة الفانية ولا تأمن صروف الدهر.
الاتكال على الحياة الفانية ليس من دأب العاقلين، لأن الموت يفاجئ الإنسان ويصرعه من حيث لا يحتسب. وحيث إن الإنسان واقع في قبضة الموت على هذا النحو فمن ذا الذي يمكن أن يضمن حياته سوى الله تعالى.
العيش لوجه الله تعالى:
أما لو صارت حياة المرء الله تعالى، فإنه سوف يتولى حفظه وحمايته. هناك حديث في صحيح البخاري أن العبد إذا أحبّ ربه سبحانه وتعالى أصبح الله جوارحه. وفي رواية أن المرء يبلغ في ولاية الله مقاما يصبح الله فيه يدَه ورجله وما إلى ذلك، حتى يصير لسانه الذي يتكلم به. الواقع أن الإنسان إذا تنزّة عن أهواء النفس، وسار تحت إرادات الله تماما متخليا عن نفسانيته، فلا يصدر منه ما هو غير جائز، بل تصبح أفعاله كلها موافقة للمشيئة الإلهية، وفوق ذلك يعُدّ الله تعالى أفعاله أفعالاً له سبحانه وتعالى.
هذا مقام من قرب الله تعالى قد تعثر عنده قوم لم يقطعوا منازل السلوك كاملة، أو أساء فهمه قوم يجهلون الإلهيات، ولا يعرفون مفهوم قرب الله تعالى، فابتدعوا عقيدة وحدة الوجود. يجب ألا يغيبن عن البال أن الفعل الذي يقع فيه المرء في الابتلاء لا يكون موافقًا لإرادة الله تعالى، بل تكون مشيئة الله خلافه، وصاحب هذا الفعل يتبع أهواءه لا مشيئة الله. أما الذي يكون ولي الله والذي يكون الله مسؤولا عن حياته، إنما هو ذلك الذي لا يقوم بحركة ولا سكون إلا باسترشاد من كتاب الله تعالى، ويرجع في كل أمر وفي كل إرادة إلى كتاب الله ويسترشده. ثم ورد في رواية أن الله تعالى يتردد كثيرا في قبض روح مثل هذا العبد. والحق أن الله تعالى أسمى من التردد ، وإنما المراد من ذلك أنه يتوفاه ويأخذه إلى العالم الآخر من أجل مصلحة عظيمة، وإلا فإن الله تعالى يحب جدا أن يبقى عبده هذا في الدنيا طويلا. فلو أن الإنسان لم يعش عيشةً بحيث يتردد الله تعالى في قبض روحه فهو أسوأ من الحيوانات. إن الماعز الواحد يمكن أن يعيش عليه عدة أشخاص أياما، كما أن جلده أيضا نافع، ولكن لا خير في الإنسان الطالح حيًّا ولا ميّتًا. أما الرجل الصالح، فيسري تأثيره في ذريته أيضا، وينتفعون منه . والحق أنه لا يموت، بل يوهب بعد الموت حياة جديدة. لقد قال سيدنا داود : كنت طفلاً وقد شِخْتُ، ولم أَرَ عابدًا صادقًا لله يرى الذلّ، ولم أرى أولاده يتكففون الناس. وهذا يعني أن الله تعالى يتولى أولاد الإنسان المتقي. بينما ورد في الحديث، أن الظالم يظلم أهله وعياله، لأن تأثيره السيئ يصل إليهم.
غاية خلق الإنسان هي العبادة :
فكم هو ضروري أن تدركوا أن غاية خلق الله لكم إنما هي أن تعبدوه وتكونوا له، ولا تكون الدنيا هدفكم المنشود. وأبيّنُ هذا الأمر لكم مرارا وتكرارا، لأني أرى أن هذه هي غاية مجيء الإنسان إلى الدنيا، وهذا هو الأمر الذي هو بعيد عنه. إني لا أقول لكم أن تتخلوا عن أمور الدنيا كلية وتتركوا أهليكم وأولادكم، وتذهبوا بعيدا إلى غابة أو جبل وتقبعوا فيه. كلا ، إن الإسلام لا يجيز ذلك، وليست الرهبانية هدفه. إنما يريد الإسلام أن يكون الإنسان نشيطا ومجتهدا ومجدّا، لذا أقول: عليكم أن تنجزوا أمور دنياكم بجد واجتهاد، ورد في الحديث أن من كانت عنده أرض ولم يعمرها فهو مؤاخذ عند الله تعالى. فمَن فَهِمَ مِن قولي هذا أني أدعوكم إلى التخلي عن أمور دنياكم فهو مخطئ. كلا، إنما أعني أن تبتغوا رضا الله تعالى في كل ما تقومون به من أعمال الدنيا، وألا تؤثروا مآربكم وأهواءكم على إرادته ومشيئته تعالى.
الحكم، مجلد ٥ عدد ۲۹ يوم ۱۰ - ۸ - ۱۹۰۱ ص ۱ - ۲ .
أما إذا جعل المرء غاية حياته أن يعيش منغمسا في الملذات ، وجعل الأكل والشرب والثياب والنوم منتهى أربه، ولم يبق لله مكان في قلبه، فاعلموا أنه يريد أن يقلب فطرة الله، وسيكون مآله أنه سيجعل قواه وكفاءاته عديمة الجدوى بالتدريج. من المعلوم أننا لو اشترينا شيئا لهدف ما ولكنه إذا لم يحقق ذلك الهدف، فسوف يصبح عديم الجدوى. فمثلا لو اشترينا الخشب لنصنع به كرسيا أو طاولة، ثم ثبت أنه لا يصلح لذلك، فسوف نستخدمه حطبًا، كذلك فإنما غاية خلق الإنسان الحقيقية عبادة الله، ولكنه لو قلب فطرته بتأثير الأسباب والعلاقات الخارجية وأفسدها، فلن يعبأ به الله تعالى. وهذا ما تشير إليه الآية: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ)) (الفرقان: ۷۸). لقد ذكرت من قبل أيضا أني رأيت في الرؤيا أني واقف في فلاة، وهناك قناة طويلة شرقًا وغربا، ملقاة عليها الشياه، ولذبح كل شاةٍ هناك جزار مكلف بذلك، وفي يده سكين، وقد وضعها على عنقها وقد جعل وجهه إلى السماء، وأراني أتمشى بالقرب منهم، وفهمتُ برؤية هذا المشهد أنهم ينتظرون أمرًا من السماء، وعندئذ تلوت هذه الآية نفسها: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ (الفرقان: ۷۸)، وما إن سمع الجزارون الآية، إلا ومرّروا سكاكينهم قائلين : إن أنتنَّ إلا شياة آكلة النجاسة.
باختصار، إن الله تعالى يعبأ بحياة المتقي وبقاؤه عزيز عليه، ولكن الذي يخالف مرضاة الله ، فإنه تعالى لا يعبأ به ويلقيه في جهنم. لذا يجب على الجميع أن يحرر نفسه من عبودية الشيطان. وكما أن الكلوروفورم يُنوّم الإنسان، كذلك فإن الشيطان ينومه نومة الغفلة، ويهلكه خلالها.
ذكر فئتين في سورة العصر:
أعود لمقصدي الأصلي ثانية وأقول : إن الله تعالى قد ذكر في سورة العصر فئتين، فئة الأبرار والأخيار، وفئة الكفّار والفجار. وقال عن الكفّار الفجار: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خسر (العصر (۳)، وفصل عنهم الفئة الأولى فقال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ . العصر ) (٤) ، أي أن المؤمنين الذين يعملون الصالحات ليسوا من الخاسرين.
لقد تبين من هنا أن الخاسرين هم أولئك الذين ليسوا مؤمنين ولا يعملون الصالحات. علمًا أن كلمة الصلاح تُستخدم فيما ليس فيه أدنى أثر للفساد، ولا يُعدّ المرء صالحا ما لم يتخلص من المعتقدات الرديئة والفاسدة، وما لم تتنزه أعماله أيضا عن الفساد. ولفظ المتقي من باب الافتعال الذي يفيد التكلف، مما يعني أنه بحاجة إلى كثير من المجاهدة والسعي، ويكون في حالة النفس اللوامة أثناء مجاهداته. عندما يعيش المرء عيشة الأنعام يكون في حالة النفس الأمارة، فإذا تطور وتغلب على النفس الأمارة صار في حالة النفس المطمئنة . والمتقي يتطور ويخرج من حالة النفس الأمارة، ويصير في حالة النفس اللوامة، ولذلك قيل في المتقين: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ. الأَنْفال: (٤)، وكأنهم في حرب في صلاتهم، حيث تهاجمهم الوساوس والأوهام وتحيّرهم، ولكنهم لا يضيقون ذرعًا ولا تسبب لهم هذه الوساوس فتورا ولا تعبًا، بل يستعينون بالله تعالى مرة بعد أخرى، ويصرخون ويبكون، فيقهرون الوساوس والشبهات. كما أن الشيطان ينهاهم عن إنفاق أموالهم ، ويُريهم الإسراف والإنفاق في سبيل الله سيّين، مع أنه شتان بينهما، لأن المسرف يهدر أمواله بدون جدوى، أما المنفق في سبيل الله فإن ما ينفقه يُرَدّ إليه، فينفق أكثر من ذي قبل، ومن أجل ذلك قيل في المتقين: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الأَنْفال: ٤).
الصراط المستقيم:
الواقع أنه لا مناص للإنسان في حالة الصلاح من أن يكون منزها عن كل أنواع الفساد، سواء في العقائد أو الأعمال. وكما أن جسد الإنسان لا يكون في حالة الصلاحية إلا إذا كانت جميع أخلاطه في حد الاعتدال، دون نقص أو زيادة، إذ لو تجاوز شيء منها حد الاعتدال مرِضَ الجسدُ ، كذلك فإن صلاح روح الإنسان أيضا متوقف على الاعتدال، وهو الصراط المستقيم في مصطلح القرآن الكريم. في حالة الصلاح يصبح الإنسان لله فقط مثل سيدنا أبي بكر الصديق . ثم يتطور الإنسان الصالح رويدا رويدا ، ويبلغ مقام النفس المطمئنة، وهنالك يتيسر له انشراح الصدر، كما قال الله تعالى لرسوله : أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ (الشرح: ٢). غير أنه ليس بوسعنا بيان كيفية انشراح الصدر بالكلمات.
صدرُ الإنسان بيت الله وقلبه الحجر الأسود:
تذكروا بقلوب واعية، أنه كما أن الحجر الأسود موضوع في بيت الله كذلك القلب موضوع في الصدر. لقد جاء على بيت الله زمان وضعَ فيه الكفار الأصنام. وكان من الممكن ألا يأتي ذلك الزمان على بيت الله، ولكن الله تعالى سمح بذلك ليكون نظيرا ومثالا للناس. إن قلب الإنسان أيضا يشبه الحجر الأسود، وصدره يشبه بيت الله، وإن أفكار ما سوى الله هي بمنزلة الأصنام الموضوعة في الكعبة، وقد كُسرت أصنام مكة حين ذهب إليها رسول الله مع عشرة آلاف قدوسي، وتم فتحها. لقد سمي هؤلاء العشرة آلاف صحابي ملائكةً في الكتب السابقة، والحق أن شأنهم كان كشأن الملائكة تماما. إن القوى البشرية أيضا بمنزلة الملائكة من وجه، إذ ورد في صفتهم أنهم: يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (النحل: (٥١) ، كذلك، فمن خاصية القوى البشرية أنها تفعل ما تؤمر، وإن جميع القوى والجوارح البشرية تابعة لأوامر الإنسان. فلا بد لإلحاق الهزيمة بأصنام ما سوى الله تعالى وللقضاء عليها مِن شَنّ هجوم مماثل عليها. والجند الذي يشنّ هذا الهجوم إنما يُعَدُّ بتزكية النفس، ولا يُكتب النصر إلا لمن يقوم بتزكية نفسه، فقد قال الله تعالى : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَاهَا) (الشمس: ١٠). وورد في الحديث الشريف أنه إذا صلح القلب صلح الجسد كله، وما أصدقه من قول، فإن العين والأذن والرّجل واللسان وغيرها من الأعضاء والجوارح كلها تعمل بأوامر القلب، حيث تخطر بالقلب فكرة عن أمر، فلا يلبث العضو المتعلق به أن ينفذها.
اتبعوني وأطيعوا أمري:
هناك ضرورة لنوع من الجهاد لتطهير بيت الله هذا من الأوثان، وها إني أدلكم على سبيل هذا الجهاد، وأؤكد لكم أنكم لو عملتم به لحطمتم هذه الأوثان. وهذا السبيل ليس من اختراع نفسي، بل قد أمرني الله تعالى بأن أخبركم به. وما هو ذلك السبيل؟ إنما هو أن تطيعوني وتتبعوا خطواتي. وهذا النداء ليس بالجديد، بل قال رسول الله الذي طهر مكة من الأصنام : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله. آل عمران (۳۲). كذلك ، فلو اتبعتموني لتمكنتم من كسر الأوثان التي هي في باطنكم، وقدرتم على تطهير صدوركم المليئة بأنواع الأصنام. لا حاجة بكم للاعتكافات الأربعينية من أجل تزكية النفوس؛ إذ لم يقم أصحاب النبي أيضا بهذه الاعتكافات الأربعينية، ولم يقوموا بهذه الأوراد المختلفة من قبيل ما يسمى ذِكْر الأره والنفي والإثبات ذكر النفي والإثبات هو ترديدهم "لا إله إلا الله" بطريقة معينة، حيث "لا إله" نفي، و"إلا الله" إثبات . أما ذكر "الأزه" فيُخرجون عند ترديده صوتاً من الصدر كصوت المنشار. (المترجم) وما إلى ذلك. كلا، بل كانوا يملكون شيئا آخر تماما، ألا وهو أنهم كانوا متفانين في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان النور الموجود في شخصه ينزل على قلوبهم عبر أنبوب الطاعة هذا، فكان يقضى على فكرة كل ما سوى الله قضاء نهائيا، ويملأ صدورهم نورًا مكان الظلام.
واعلموا جيدا أن الأمر نفسه الآن أيضا، فما لم ينزل على قلوبكم النور الآتي من أنبوب الله تعالى، فلن تتزكى نفوسكم. إن صدر الإنسان مهبط الأنوار، ولذلك يسمَّى بيت الله، وإن تحطيم ما فيه من الأصنام هو الأمر الأهم، لكي لا يبقى فيه إلا الله تعالى. ورد في الحديث أن رسول الله قال : " الله الله في أصحابي." سنن الترمذي، كتاب المناقب عن رسول الله (المترجم)، أي ليس في قلوب أصحابي إلا الله فقط. وليس المراد من كون الله وحده في القلب أن يؤمن المرء بعقيدة وحدة الوجود، ويعتبر أن كل كلب وحمار هو الله تعالى، والعياذ بالله . كلا، إنما المراد منه ألا يكون هدف المرء من كل عمل من أعماله إلا مرضاة الله ، وهذه الدرجة لا تنال بدون فضل الله تعالى. ونِعْمَ ما قال الشاعر :
بر کریماں کا رہا دشوار نیست
أي: لا شيء صعب على الكرام.
القرآن هدي لتكميل الإنسان علماً وعملاً:
ثم اعلموا أيضا أن في القرآن الكريم الهدي لتكميل الإنسان علمًا وعَملًا، وأن قول الله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (الفاتحة : ( ٦) يشير إلى تكميله العلمي، وقوله تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ (الفاتحة: ٧) بيان لتكميله العملي، حيث بين الله تعالى أن هدي القرآن الكريم يعطي أكمل النتائج وأتمها. فكما أن الشجرة التي تزرع لا تحمل الزهر والثمر ما لم يكتمل نماؤها ، كذلك فإن الهدي الذي لا يأتي بأفضل النتائج وأكملها فهو هَدْيُ ميّت وعارٍ من أي قوة وقدرة على النماء. فمثلاً : ما الجدوى من هَدْي كتاب الفيدا الهندوسي ما دام من المستحيل على المرء العامل به حقَّ العمل أن يأمل في النجاة الأبدية ونيل السعادة الأبدية، متخلصًا من ولادته المتكررة على شاكلة الديدان والحشرات وغيرها ؟ أما القرآن الكريم فإذا عمل بهديه الإنسان نال أسمى الكمالات، ونشأت له صلة حقة بالله تعالى، حتى إن أعماله الصالحة الصادرة بحسب هدي القرآن تنمو كالشجرة الطيبة التي ضرب القرآن الكريم مثلها، والتي تؤتي أُكُلَها العظيمة الحلاوة واللذة. فمن كان إيمانه مفتقرا إلى قوة النماء والازدهار فإيمانه ميت، فكيف يرجى أن تحمل شجرة إيمانه ثمارًا كالتي تحملها الشجرة الطيبة للأعمال الصالحة؟ ومن أجل ذلك قد وصف الله الصراط المستقيم بقوله: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)) (الفاتحة : ( ليبين أن هذا الصراط لا يجعل سالكه حيران وقلقًا وفاقِدَ الثمار . كلا، بل إنه ينال بغيته وفلاحه.
سلب إيمان معارضي المأمور الرباني:
ولا بد للإنسان من العبادة من أجل تكميله العَمَلي، وإلا فلن يعدو إيمانه مجرد لعبة. ذلك أن الشجرة التي لا تحمل الثمار تكون عقيمة الجدوى مهما طالت وضخمت، وهذه هي حال معارضينا مما يجعلهم عرضةً لخطر سلب الإيمان وحبطه، إذ يرون البار شريرًا والمأمور الرباني كذابًا ، الأمر الذي يجعل المرء في حرب على الله تعالى. من البديهي أن الله تعالى قد أرسلني إلى الدنيا باسم المأمور والمسيح الموعود، فالذين يعارضونني، فإنهم لا يعارضونني، إنما يعارضون الله تعالى. فمعظمهم كانوا قبل دعواي يحترمونني ويجلّونني، وكانوا يعتبرون صب الماء عليّ بالإبريق وقت وضوئي مدعاة للثواب ومفخرة لهم، وكان أكثرهم يحتّون الناس على الدخول في بيعتي، ولكن لما بدأ أمري هذا باسم الله وإعلامه انبروا لمعارضتي، مما يدل على أنهم لا يعادونني عداءً شخصيا، إنما يعادون الله تعالى. لو كانوا على صلة حقيقية مع الله تعالى فكان من مقتضى صلاحهم واتقائهم وخشيتهم أن يلبوا ندائي قبل الآخرين ويصافحوني ويسجدوا سجود شكر الله تعالى. ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل خرجوا ضدي حاملين السلاح، وبلغوا في عداوتي أن سموني كافرا وملحدا ودجّالا. لم يَدْرِ هؤلاء الحمقى للأسف أنه كيف يمكن أن يعبأ بسبابهم وشتائمهم شخص يسمع نداء الله يقول له: "قل إني أُمرتُ وأنا أول المؤمنين. وأنت مني بمنزلة توحيدي وتفريدي"؟
من المؤسف حقا أن هؤلاء الجهّال لا يدرون أنّ قضية الكفر والإيمان لا علاقة لها بأهل الدنيا، إنما هي بيد الله تعالى، والله تعالى يشهد على أني مؤمن ومأمور منه، فأَنَّى لي أن أعبأ بسبابهم؟ باختصار، إن هذه الأمور تدل على أنهم لم يعارضوني، بل عارضوا أمر الله تعالى، وهذا هو الأمر الذي يسلب إيمان معارضي المأمور الرباني. ومن البديهي أن الذين يعارضونني إنما يعارضون الله تعالى. فإذا، كنت أتقدم إلى النور - ومن المؤكد أنني أتقدم إلى النور باستمرار، إذ كانت ولا تزال تظهر من عند الله آيات كثيرة لتأييدي، وتنزل هذه الآيات من السماء نزول المطر - فمن المؤكد أيضا أن الذين يعارضونني إنما يتوجهون إلى الظلام. إن النور والضياء يأتي بروح القدس، وأما الظلام فيقرب إلى الشيطان، وهكذا فإن معارضة الولي تسلب الإيمان، وتجعل صاحبها قرينًا لمن وصف بـ (بئس القرين). باختصار، لا يتأتى الإصلاح إلا بتحقق مراتب التكميل العملي. وتشير كلمة "آمنوا" في قول الله تعالى في سورة العصر : إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ العصر: (٤. إلى التكميل العلمي، بينما تشير كلمة "وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" إلى التكميل العملي. والحكمة أيضا جزءان: أحدهما: أن يتيسر العلم الأكمل الأتم، والثاني : أن يكون العمل على الوجه الأكمل والأتم.
وتواصوا بالحق:
لقد أخبرنا الله تعالى هنا أن المحفوظين من الخسران يقومون بتكميلهم العلمي أولاً، ثم لا يقعون في السيئات، بل يبلغون تكميلهم العلمي إلى درجة الكمال العملي، ثم عندما تتيسر لهم البصيرة الكاملة، ويتجلى كمال علمهم بكمال عملهم، فلا يبخلون، بل يعملون بقول الله تعالى وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ، ويدعون الآخرين إلى الحق الذي وجدوه. ومن معاني وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ (العصر : (٤) أيضا أنهم يكشفون للآخرين نور أعمالهم أيضا، ذلك أن الواعظ إذا لم يعمل بما يعظ به فلا يكون لكلامه تأثير أبدا، بل الحق أنه إذا قال ما لا يفعله فإنه يترك في الآخرين تأثيرا سيئا جدا. فمثلا إذا منع الزاني من الزنا، ثم انكشفت حقيقة أمره للناس، فيُخشى أن يصبح الذين يسمعون كلامه من الملحدين؛ إذ يقولون إذا كان الزنا أمرًا شنيعا في الواقع، وإذا كان الزاني يعاقب عند الله على تصرفه الخبيث هذا، وإذا هناك إله حقا، فلماذا وقع هذا في هذه الفاحشة وهو ينهى عنها الآخرين؟
أعلَمُ شخصًا أراد أن يدخل في الإسلام نتيجة صحبة أحد المشايخ، ولكنه رآه ذات يوم يشرب الخمر، فقسا قلبه وامتنع عن قبول الإسلام. باختصار، إن قوله تعالى: تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ، يعني أنهم ينصحون الآخرين من خلال نور أعمالهم.
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر:
كما أن من شيمتهم: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ، أي أنهم ينصحون الآخرين بالصبر والمثابرة، فلا يُرْغون ولا يُزبدون مستعجلين. إذا كان المرء شيخًا وإمامًا، ثم يثور غضبا بسرعة ، ويفقد الصبر والأناة، فلماذا يضر الناس هكذا؟
والمعنى الثاني لقوله: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ (العصر : ٤) هو أن الذي لا يسمع بصبر وهدوء، فلا يستفيد من الوعظ . إن معارضينا لا يأتوننا بقلب حليم، ولا يذكرون مشاكلهم بصبر وهدوء، بل لا يريدون أن ينظروا في كتاب من كتبنا، ويسعون ليلبسوا الحق بالباطل مثيرين الضجة، فأنّى لهم أن يستفيدوا؟ ما الذي كان بأبي جهل وأبي لهب؟ لم يكن بهما إلا مرض الاستعجال وقلة الصبر ؟ فقالا: إذا كنت قد جئتَ من عند الله، ففجّر لنا من الأرض ينبوعا. لم يصبر هذان الشقيان، وكانا من الهالكين، وإلا فقد أتت القناة التي فجرتها "زبيدة" على أية حال -زبيدة هي زوجة هارون الرشيد وهي التي قامت بمشروع ضخم في تلك الأيام لنقل المياه وتوفيرها للحجيج والمعتمرين عبر مئات الكيلومترات لتصل إلى مكة ثم إلى منى عبر قنوات من عيون وسيول تتوفر في مواسم الأمطار، وما زالت آثار هذا المشروع باقية إلى يومنا هذا. (المترجم).-، كذلك يقول معارضونا أن ادْعُ لنا، ويجب أن يجاب دعاؤك فورا، ويجعلون هذا الأمر معيارا لمعرفة الحق من الباطل، ويقترحون من عندهم أمورا أخرى ويقولون : لو حَدَثَ كذا ووقع كذا لآمنا، ولكن لا يقبلون أي شرط منا. من المؤسف حقًّا أن هؤلاء هم مصداق قوله تعالى: وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (الشمس: (١٦).
اعلموا أن الصابر وحده ينال مرتبة انشراح الصدر، أما الذي لا يصبر ، فكأنه يريد فرضَ حُكمه على الله تعالى، ولا يريد أن يقبل حكومة الله على نفسه، ومثل هذا المتجاسر الوقح الذي لا يخاف جلال الله وعظمته، يُحرَم ثم يُقطع.
صحبة الصادقين:
ثم لا يغيبن عن البال أيضا أن من شروط الصبر : العمل بقول الله تعالى: كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: (۱۱۹). إن المكوث في صحبة الصالحين ضروري. هناك كثيرون يعيشون بعيدين متقاعسين ويقولون : نعم، سوف نأتي لزيارتك في يوم من الأيام، ولسنا متفرغين في الوقت الحالي. إن الذي يجد جماعة الموعود المنتظر منذ ١٣٠٠ عام، ثم لا ينصرها ولا يحضر مجلس هذا الموعود من عند الله ورسوله، فأنى له أن ينال الفلاح ؟ كلا، لن يناله. واللهِ دَرُّ القائل:
ہم خدا خواہی و ہم دنیائے دوں ایں خیال است و محال است و جنوں
أي : تريد وصال الله والدنيا الدنية أيضا! هذا خيال ومحال وجنون.
إنما يريد الدِّينُ المكوث في الصحبة، فمن لم يرد الصحبة ، فكيف يتوقع التدين والصلاح؟ لقد نصحت أحبائي مرارا، وها إني أنصحهم مرة أخرى وأقول: عليهم أن يأتوا هنا مرة بعد أخرى، ويمكثوا وينتفعوا، ولكني أرى أن الاهتمام بهذا الأمر قليل جدا. يعاهدني الناس على إيثار الدين على الدنيا واضعين أيديهم في يدي، ثم لا يبالون بعهدهم هذا شيئا. اعلموا أن القبور تناديكم، والموت يقترب منكم كل حين، وكل نفَس تتنفسونه يقربكم من الموت، ولكنكم تظنونها ساعات الفراغ والبطالة. لا يليق بالمؤمن التحايل على الله تعالى. إذا جاء الموت، فلن يتقدم ساعة ولن يتأخر. إن المعارضين الذين لا يقدرون هذه الجماعة ولا علم لهم بعظمتها دعوهم جانبا، ولكن الأشقى والأظلم من يعرف صدق هذه الجماعة وينضم إليها ثم لا يقدرها حق قدرها. إن الذين لا يأتون هنا بكثرة، ولا يمكثون في صحبتي ولا يسمعون ولا يرون ما يُظهره الله تعالى كل يوم من الآيات لتأييد جماعته هذه، فإنهم مهما كانوا صالحين وأتقياء وورعين إلا أني أقول إنهم ما قدروا هذه الجماعة حق قدرها. لقد قلت آنفًا إن الإنسان بحاجة لتكميله العملي بعد التكميل العِلمي، والتكميل العملي محال بدون التكميل العلمي، وتكميلهم العلمي صعب ما لم يأتوا ويمكثوا هنا. تصلني رسائل كثيرة بأن فلانا أثار كذا وكذا من الاعتراض، ولكنا لم نستطع الردّ عليه. ما سبب ذلك؟ إنما سببه أن هؤلاء لا يحضرون هنا، ولا يسمعون الأمور العلمية التي يُريها الله تعالى لتأييد جماعته. إن كنتم قد عرفتم صدق هذه الجماعة حق المعرفة، وآمنتم بالله تعالى وعاهدتم بصدقٍ على إيثار الدين على الدنيا، فأسألكم: ما الذي عملتم بهذا الصدد ؟ هل تظنون أن حكم الله: كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (التوبة: (۱۱۹) قد نُسخ؟ إن كنتم مؤمنين حقا، وترون أن هذه هي السعادة الحقيقية، فآثروا الله على كل شيء. أما إذا استهنتم بهذه الأمور واعتبرتموها عبئًا، فاعلموا أنكم ستُعَدّون من المستهزئين بالله تعالى.
الحكم، مجلد ٥ عدد ٣١ يوم ٢٤ - ۸ - ۱۹۰۱ ص ۱-۳
الفاتحة تشمل جميع معارف القرآن:
تدبّروا سورة الفاتحة التي هي رسم دقيق للقرآن الكريم، والتي تسمّى أم الكتاب أيضا لتضمُّنِها معارف القرآن كلها إجمالاً. لقد بدأت هذه السورة بقوله تعالى: (الحَمْدُ لِلَّهِ (الفاتحة: (٢)، ومعناه أن المحامد كلها لله وحده. وقد عُلّمنا بذلك أن كافة أنواع المنافع والخير والرخاء في الحياة المدنيّة، إنما تأتي من عند الله تعالى، لأنه تعالى ما دام هو صاحب الحمد والثناء بكل أنواعه، فليس هناك مُعط حقيقي إلا هو، وإلا للزم القول أنه لا يستحق بعض أنواع الحمد أو الثناء، وهذه الكلمة كفر. فكم يحتوي قوله تعالى : الحَمْدُ لِلَّهِ- مِن تعليم رائع وجامع لتوحيد البارئ تعالى، حيث ينبه الإنسان أن كل ما في الكون هو عبد الله تعالى، وليس بنافع في حد ذاته. كما يرسخ هذا التعليم في الأذهان بكل جلاء ووضوح أن كل نفع وخير إنما هو من عند الله تعالى في الواقع، لأنه تعالى هو صاحب المحامد كلها ، فآثروا الله دوما على كل نفع وخير، إذ ليس هناك من ناصر ولا معين سواه. إذا كان المرء يخالف رضا الله تعالى، فقد ينقلب أولاده أعداءً له، بل بالفعل يصبحون أعداء في بعض الأحيان.
الصفات الأمهات لله تعالى:
ثم إن سورة الفاتحة نفسها ترسم لنا ذلك الإله الذي يقدمه القرآن الكريم للناس ويطالبهم بالإيمان به. فقد ذكرت الفاتحة بالترتيب أربع صفات الله التي تسمى أمهات الصفات، وكما أن الفاتحة هي أم الكتاب كذلك فإن صفات الله المذكورة فيها هي أمهات الصفات، وهي: (رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، وبالتدبر في هذه الصفات الأربع يتراءى للإنسان وجه الله تعالى.
والربوبية فيضها فيض واسع جدا وعام وفيها إشارة إلى تكفل الله تعالى بتربية المخلوقات كلها في جميع مراحلها وتكميلها. فكّروا كم يصبح أمل الإنسان واسعًا حين يفكر في ربوبية الله تعالى.
أما الرحمانية، فتعني أن الله تعالى يهيئ كافة الأسباب الضرورية لبقاء الموجودات بدون أي عمل من عامل. انظروا مثلاً إلى القمر والشمس والهواء والماء وما إلى ذلك، فكيف سخرها الله تعالى لبقاء وجودنا بدون دعاء أو التماس أو عمل منا. أما الرحيمية، فتعني أن الله تعالى لا يضيع عمل عامل. أما صفة: مَالِكِ يَوْمِ الدِّين، فمن مقتضاها أن يجعلنا من الناجحين. فلو اجتهد الطالب من أجل الامتحان كثيرا ، ومع ذلك نقصت بضع علامات من أجل النجاح، فإن النظام الدنيوي سيُعلن فشله غير آبه باجتهاده الشديد، ولكن رحيمية الله تعالى ستستره ، وتعلن نجاحه. فالرحيمية فيها نوع من الستر أيضا.
إن إله المسيحيين ليس ستارًا على الإطلاق، وإلا فما الحاجة إلى الفداء والكفّارة؟ كذلك فإن إله الآريين الهندوس ليس ربًّا ولا رحمانا ، إذ لا يقدر على أن يهب شيئًا بدون عمل ومقابل. وليس هذا فحسب، بل إنّ اقتراف الذنب ضروري بحسب مبدأ الفيدا على ما يبدو. فمثلاً: لو أُريدَ إعطاء المرء حليب بقرة جزاءً على عمله، لاستلزم ذلك بحسب روايتهم إن كانت صحيحة أن تزني امرأة من فرقة البراهمة، فتتحول إلى بقرة عبر عملية التناسخ جراء فاحشتها وفسقها، لتسقي هذا الإنسان حليبًا وإنْ كان زوجها. باختصار، يستحيل لعامل أن ينال جزاء عمله من كنوز إله الفيدا ما لم تُرتكب هذه السلسلة من الأفعال، لأن نظام إله الفيدا كله قائم على هذا النمط. أما الإسلام، فقد قدّم ذلك الإله الذي يستحق المحامد كلها، ومن أجل ذلك فهو المعطي الحقيقي. وهو الرحمن يُنعِم بدون عمل عامل. ثم إن "مالك يوم الدين" يجعل الإنسان ناجحا كما قلت آنفا . الحكومات الدنيوية لا تضمن أبدًا إعطاء وظيفة لكل حائز على شهادة البكالوريوس مثلا ، ولكن حكومة الله كاملة وتملك الكنوز التي لا نفاد لها، ولا عوز عند الله تعالى، فيكتب النجاح لكل عامل، كما يستر بعض ما فيه من نقاط ضعف ونقائص إزاء حسناته وخيراته. وإنه تعالى توّاب وحَيِي أيضا، فهو يعلم الآلاف من عيوب عباده ولكنه لا يكشفها. غير أنه يأتي وقت حين يصبح المرء جريئا ، ويتمادى في سيئاته باستمرار، ولا يستفيد من حياء الله وستره بل يتقوى فيه عرق الإلحاد، وعندها لا تطيق غيرة الله أن يترك هذا المتجاسر الوقح بدون عقاب، فيلقى الخزي والهوان. كان حضرة المولوي عبد الله الغزنوي تلقى بشأن محمد حسين وحيًا يشير إلى عيب فيه، فطلب منه محمد حسين أن يخبره بذلك، فقال: إن حياء الله يمنعني من ذلك. كما أن حضرة الغزنوي كان رأى في الرؤيا أن ثياب محمد حسين قد تمزقت، وقد تحققت هذه الرؤيا الآن. إنما قصدي من هذا البيان أن من خواص الرحيمية الستر أيضا، ولكن الاستفادة من هذا الستر يقتضي أن يكون هناك عمل من قبل الإنسان، فلو بقي في عمله نقص أو عيب ستره الله تعالى برحيميته. والفرق بين الرحمانية والرحيمية أن لا دخل للعمل أو الفعل في الرحمانية، أما الرحيمية ففيها دخل للعمل، ولكن يبقى في العمل نوع من الضعف أيضا، ورحم الله يقتضي ستره. أما مَالِك يَوْمِ الدِّينِ، فهو الذي يحقق الهدف الحقيقي. واعلموا جيدًا أن هذه الصفات التي هي أمهات الصفات صورة تُرينا وجه الله تعالى روحانيا، إذ يتراءى لنا وجه الله على الفور بالتدبر فيها، وتقفز الروح بنشوة وتخرّ أمامه ساجدة. إذ بدأ هذا الذكر بـ الحَمْدُ لِلَّهِ ، وهي صيغة الغائب، ولكن بعد ذكر هذه الصفات الأربع ، قد تغير هذا الذكر فجأة، لأن هذه الصفات قد قدمت الله أمامنا عيانا ، فكان حريا به وكان من مقتضى الفصاحة أيضا ألا يظل سبحانه وتعالى غائبًا، بل يتحول إلى مخاطب حاضر ، ومن أجل ذلك قد تحوّل الكلام هنا إلى الخطاب ، فقيل : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ .
واعلموا أنه ليس ثمة فاصل بين إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، غير أن إِيَّاكَ نَعْبُدُ متقدم زمانًا إلى حد ما، لأن الله تعالى حين خلقنا برحمانيته أناسًا ومنحنا صنوف القوى والنعم، لم يكن هناك أي دعاءٍ أو طلب من قبلنا، وإنما فعل ذلك كله بمحض فضله، وهذا هو التقدم.
الرحيمية والرحمانية:
وأعود ثانية إلى ما كنت بصدد بيانه وأقول: اعلموا أن الرحمة نوعان، أولهما: يسمى الرحمانية، والآخر: الرحيمية. والرحمانية فيض بدأ قبل وجودنا وخلقنا. فمثلاً : قد خلق الله قبل وجودنا أيضا الأرض والسماء والقمر والشمس وغيرها من الأشياء الأرضية والسماوية، وهي كلها نافعة لنا وتنفعنا فعلاً. لا شك أن الحيوانات الأخرى أيضا تستفيد من هذه الأشياء، ولكن الحيوانات نفسها ما دامت تنفع الإنسان وتخدمه، فثبت أن المستفيد الحقيقي من كل هذه الأشياء هو الإنسان في الحقيقة. ترون في الأمور الجسمانية، كيف أن الإنسان يأكل أطيب الأطعمة وأفضلها، وكيف أن أجود اللحم يكون من نصيب الإنسان، أما العظام والأجزاء الرديئة فتكون للكلاب. لا شك أن الدواب تستمتع باللذة الجسمانية لحد ما ، ولكنها لا تكون شريكة للإنسان في اللذة الروحانية.
باختصار، هذان نوعان من الرحمة، وقد أُعطينا أَوَّلهما حتى قبل وجودنا، وأما الثاني، أي الرحيمية، فتتجلى مظاهره بعد الدعاء ويقتضي منا العمل والجهد.
العلاقة بين الدعاء ونواميس الطبيعة:
وأرى من المناسب هنا أن أبين أن الدعاء وثيق الصلة بالنواميس الطبيعية دائما. إن الطبيعيين المعاصرين الذين يجهلون العلوم الحقة كل الجهل والذين جُل همهم تقليد الأوروبيين في طريقة عيشهم يعتبرون الدعاء بدعة، لذا أرى لزاما على أن أبين هنا موضوع الدعاء بإيجاز.
ترون أن الرضيع عندما يضطرب من شدة الجوع ويبكي ويصرخ للحليب، يتدفق الحليب في ثدي أمه. ومع أن الرضيع لا يعرف حتى اسم الدعاء، إلا أن صرخاته تجلب الحليب، فما السبب وراء ذلك؟ هذا أمر قد جربه الجميع عموما. ومن الملاحظ أن الأم لا تشعر بوجود الحليب في ثديها أحيانا، بل لا يوجد بالفعل في بعض الأحيان، ولكن ما إن تصل صرخاته الأليمة إلى مسامعها حتى يتدفق الحليب في ثدييها، وكما أن هناك صلة وثيقة بين صرخات الرضيع وبين تدفق الحليب، فأقول والحق أقول: لو كانت صرخاتنا أمام الله مليئة بالاضطرار والألم اللذين يوجدان في صرخات الوليد، فلا بد أن تستثير فضل الله ورحمته وتجذبها جذبًا. وأقول بناء على خبرتي: فإني قد أحسست بل رأيتُ فضل الله ورحمته اللذين ينزلان نتيجة استجابة الدعاء ينجذبان إلي انجذابًا، أما إذا لم يحس الفلاسفة المعاصرون ذوو العقول المظلمة بهذه الحقيقة أو لم يروها، فهذا لا يعني أن هذه الحقيقة منعدمة من
الدنيا، ولاسيما ونحن مستعدون في كل وقت لإراءة نموذج استجابة الدعاء. باختصار، إن نظائر استجابة الدعاء لموجودة في نواميس الطبيعة، ويرسل الله في كل زمان نماذج حية لذلك، ومن أجل ذلك علمنا الله تعالى دعاء: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) . إن هذه مشيئة الله وقانونه، وليس بوسع أحد أن يبدلها.
إن قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ دعاء بأن يجعل الله أعمالنا كاملة أتم الكمال. والتدبر يكشف أن هذه الكلمات، وإن كانت تأمرنا بالدعاء للاهتداء إلى الصراط المستقيم، إلا أن كلمات: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ التي سبقتها تشير إلى أن واجبنا اغتنام هذه الفرصة المتاحة لنا. أعني أن نستعين بالله تعالى مستخدمين قوانا السليمة على السير في الصراط المستقيم. لذا، فلا بد من الأخذ بالأسباب الظاهرية أيضا، ومن تركها فقد كفر بنعمة الله. فمثلاً إن اللسان الذي خلقه الله من العروق والأعصاب، إذا لم يكن كما هو لما قدرنا على الكلام. لقد رزقنا الله للدعاء لسانًا قادرا على التعبير عما تختلج في قلوبنا من نوايا وأفكار، وإذا لم نستخدم اللسان للدعاء فهي شقاوتنا. هناك أمراض عديدة لو أصابت اللسان لتعطل عن العمل. فهذا المثال يبين لنا رحيمية الله تعالى. كذلك قد أودع الله قلوبنا الخشوع والخضوع وقوة التفكر والتدبر، ولو دعونا الله تعالى بدون بذل هذه القوى والقدرات، فلن يكون دعاء مجديا ونافعا أبدا، إذ لم نستفد من العطية الأولى، فماذا عسى أن نستفيد من الثانية؟ فكأن ورود: إِيَّاكَ نَعْبُدُ قبل اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . يعني أننا نقول لربنا : ربنا إننا ما أضعنا المواهب والقوى التي أعطيتنا من قبل أيضا. واعلموا أن ميزة الرحمانية أنها تجعل الإنسان أهلاً للاستفادة من الرحيمية، ولذلك قال الله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (غافر : (٦١). هذا ليس كلاما فارغا، بل هذا ما يقتضيه الشرف الإنساني. إن الدعاء من صفات الإنسان، ومن لم يسأل الله تعالى استجابة دعائه فهو ظالم. إن الدعاء حالة من السرور والمتعة اللذين لا أجد كلمات لبيانهما للدنيا للأسف، لأن هذه المتعة لا تُدرك إلا بالخبرة.
قصارى القول، إن من أول شروط الدعاء أن يعمل المرء الصالحات، ويعتقد اعتقادا سليما، لأن الذي يدعوا الله تعالى بدون إصلاح المعتقدات وفعل الصالحات فكأنما يختبر الله تعالى. الحق أننا بقولنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ نسأل الله تعالى أن يجعل أعمالنا أكمل وأنتم ، ثم نصرح أكثر ونقول: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، أي أننا نريد أن تهدينا إلى صراط المنعم عليهم، وتنقذنا من صراط المغضوب عليهم الذين حل بهم العذاب نتيجة سوء أعمالهم. وأما قوله تعالى: وَلَا الضَّالِّينَ، فعلمنا فيه أن ندعوه بأن يحفظنا من أن نكون من المحرومين من حمايته، فنظل هائمين على وجوهنا بعيدا عن الصراط المستقيم.
وجدير بالذكر هنا: أن هذه الآيات جاءت على طريقِ اللَّفِ والنشر المرتب، إذ قيل هنا أولاً : الحَمْدُ لِلَّهِ ، أي أن الله تعالى مستجمع للصفات الكاملة، ومتصفّ بالمحاسن كلها، ومنزه عن العيوب والنقائص جمعاء. وثانيا : رَبِّ الْعَالَمِينَ. وثالثا: الرَّحْمَنِ. ورابعا: الرَّحِيمِ. وخامسا : مَالِكِ يَوْمِ الدِّين، والطلبات الخمسة المذكورة بعد ذلك جاءت كلها منسجمة مع هذه الصفات الخمس تماما، حيث قيل : إِيَّاكَ نَعْبُدُ إزاءَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أي يا إلهنا المستجمع للصفات الحميدة كلها والمنزه عن العيوب كلها، إنما نعبدك أنت وحدك. إن المسلم يعرف ذلك الإله الذي هو متصف بجميع تلك المحاسن التي يتصورها العقل الإنساني، بل إنه تعالى أسمى وأرفع من ذلك أيضا، إذ الواقع أن عقل الإنسان وفكره لا يقدران على الإحاطة بصفات الله أبدا، فالمسلم يؤمن بهذا الإله المتصف بالصفات الكاملة، أما سائر الأمم ، فتتعرض عند ذكر إلهها في المجالس للخجل والندم، ويجب أن تخجل.
تصور الإله عند الهندوس:
خذوا الهندوس مثلاً، فإن الإله الذي يؤمنون به ويقولون إن كتابهم "الفيدا" يقدّم ذلك الإله، لو ذكروا في مجلس أن إلههم هذا لم يخلق ولا ذرة من الكون ولم يخلق الأرواح أيضا، فهل يبقى لقائل هذا الكلام مجال للفرار إذا قيل له: ما الحرج إذا مات مثل هذا الإله؟ ذلك أن الأشياء ما دامت قد وُجدت بنفسها، وما دامت قائمة بذاتها كما يزعمون، فما الحاجة لحياة هذا الإله من أجل حياتها وبقائها؟ فمثلاً: لو أطلق المرء سهما ثم مات والسهمُ منطلق إلى هدفه، فأي تغير يمكن أن يطرأ على السهم، لأنه بعد انطلاقه ليس بحاجة إلى من أطلقه. كذلك فلو جاز الموت لإله الهندوس في وقت من الأوقات، فليس بوسع هندوسي أن يبين لنا الخسارة التي يؤدي إليها موته. ولكن لا يمكننا قول ذلك بحق الله تعالى، لأن لفظ "الله" نفسه يدل على أنه بريء من كل عيب ونقيصة. وبالمثل، يؤمن الآريون بكون الأجسام والأرواح أزلية، أي أنها موجودة منذ الأزل. لو قلنا لهم: أي دليل يمكن أن تقدموه على وجود الإله مع إيمانكم هذا؟ فلو قالوا: إن الإله قام بتركيب الأرواح والذرات بعضها ببعض، لقلنا: ما دمتم تؤمنون بأن الذرات والأرواح أزلية وقائمة بذاتها، فتركيب بعضها ببعض ليس إلا عملا أدنى، ويمكن أن تتركب بنفسها.
كذلك حين يقول لنا الآريون أن من تعاليمهم أن إلههم يأمرهم في أن إلههم يأمرهم في كتابهم "الفيدا" بأن المرأة إذا لم تقدر على الإنجاب من زوجها، فعليها أن تضاجع رجلا أجنبيا لتنجب الأولاد، فماذا عسى أن يقال عن مثل هذا الإله؟ أو لو قالوا أن من تعاليمهم بأن الإله لا يعطي النجاة الأبدية أيًا من محبيه الصالحين، بل لا بد له عند القيامة الكبرى من إلقاء الناجين في دورة التناسخ مرة أخرى، أو لو قالوا أن إلههم لا يعطي أحدًا أي شيء فضلا منه وكرما ، بل ينال كل إنسان نتائج أعماله فقط، فما الحاجة إلى مثل هذا الإله أصلا؟ باختصار، إن الذي يؤمن بمثل هذا الإله يتعرض لندم شديد.
تعليقات
إرسال تعليق