التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الردود على الأسئلة التي يطرحها الناس عادة

السؤال ١: أين يثبت موت المسيح ابن مريم من القرآن الكريم؟ بل إن قوله تعالى: ﴿رَافِعُكَ إِلَيَّ" و"بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ" يدلّ على أن المسيح رفع إلى السماء بجسده. وكذلك الآية: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ؟ تدل على أن المسيح لم يُقتل ولم يمت على الصليب.
الجواب: فليتضح أن معنى الرفع إلى الله هو الموت، كذلك إن لقول الله : ارْجِعِي إِلَى رَبِّك"، وقوله: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ" المعنى نفسه. إضافة إلى ذلك إن الوضوح والجلاء والتفصيل الذي ورد به ذكر موت المسيح في القرآن الكريم لا يتصور أكثر منه؛ لأن الله قد بين وفاة المسيح بوجه عام وبوجه خاص أيضا، كما يقول مثلا على وجه العموم: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ " . إن هذه الآية التي قدّمتُها للاستدلال تدل بصراحة متناهية أن الموت قد أصاب جميع الرُّسُل، سواء أكان بالموت الطبيعي أو بالقتل، ولم يسلم من الموت نبي من الأنبياء السابقين، فهنا يستطيع القراء الكرام أن يفهموا بالبداهة أنه إذا كان المسيح الذي كان رسولا من الرسل السابقين - لم يمت إلى الآن، بل رفع إلى السماء حيا، ففي هذه الحالة لا يصح مضمون هذه الآية الذي يدلّ بوجه عام على موت كل نبي سبق بل يصبح هذا الاستدلال لغوا وقابلا للطعن فيه.
والآية الثانية التي تدل على موت المسيح ابن مريم على وجه العموم هي: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ. كذلك قول الله تعالى بوجه عام: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرِ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ .
 والآية الثالثة التي تدل على وفاة المسيح كاستدلال عام هي: ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا . أي؛ يا بني آدم أنتم حزبان، فمنكم من يموت قبل الشيخوخة، أي لا يصل إلى سن متقدم جدا ليصبح شيخا فانيا، بل يموت قبل تلك المرحلة؛ ومنكم حزب آخر يصل أصحابه إلى مرحلة الشيخوخة؛ أي يصابون بحالة أرذل العمر المقرفة والمنفرة، فيصبحون كطفل عديم الفهم مع كونهم من العلماء والعاقلين، وينسون في لمح البصر كل ما تعلموه مدى العمر.
فما دام الله تعالى قد قسم بني آدم إلى حزبين آدم فقط من حيث أسلوب الحياة، فلا يمكن أن يبقى المسيح ابن مريم خارجا عن أحد هذين القسمين مثل بقية البشر. علما أن هذا ليس قانون المشرعين الدنيويين حتى يقدر أحد من الناس على ردّه، وإنما هي سنة الله التي بينها الله جل شأنه بنفسه بصراحة تامة. فمن منطلق هذا التقسيم الإلهي يجب أن ينطبق على المسيح إما مبدأ مِنْكُمْ "مَنْ يُتَوَفَّى"، فيكون الآن جالسا بعد الموت في جنة الخلد على ذكره بنفسه في الإنجيل. أو إذا لم يمت إلى الآن، فلا بد أن يكون قد بلغ أرذل العمر بتأثير الزمن، وبذلك فإن وجوده أو عدمه سيان بسبب حدوث الاختلال في حواسه . أما الآيات البينات التي تدل على موت المسيح بوجه خاص فلا نرى حاجة إلى تكرارها. ومن الواضح أنه إذا كان المسيح ابن مريم خارجا عن جماعة المرفوعين الذين ارتحلوا من الدنيا إلى الأبد ورفعوا إلى الله، فلا يمكنه قطعا ينضم إلى الذين وصلوا إلى عالم الآخرة بل سينضم إليهم بعد الممات. وإذا قيل بأنه قد انضم إلى الأموات بحسب الآية: فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، فَسَيُعَدٌ منهم لا محالة. والثابت جليا من حديث المعراج أيضا أنه انضم إلى الأنبياء الذين ماتوا من قبل وأعطي مكانا قرب النبي يحيى. فمن الواضح في هذه الحالة أن معنى الآية: إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ، سيكون كما يلي: إني متوفيك ورافعك إلى عبادي المتوفّين المقربين ومُلحقك بالصالحين. ويكفي فهما للعاقل غير المتعصب أنه إذا كان المسيح قد رُفع حيا فكيف اقتحم صف الأموات. ولا بد من الذكر أيضا أن بعضا من قليلي الفهم يظنون أن تلك الآيات تحمل معنيين، ولكن هذا فهم فاسد تماما، ولا يليق بالمؤمن أن يفسر القرآن برأيه، بل القرآنُ بنفسه يفسر بعضه بعضا. وإذا لم يكن صحيحا أن الآيات التي وردت في حق المسيح مثل: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) و (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي، تدل على موت المسيح في الحقيقة بل لها معانٍ أخرى، فلا بد أن نحتكم إلى القرآن نفسه للبت في هذا النزاع. وإذا كان القرآن يستخدم هذه الكلمة – بالتساوي - أحيانا بمعنى الموت وأحيانا أخرى بمعنى لا علاقة له بالموت، لتساوى احتمال استمداد كلا المعنيين في القضية المتنازع فيها، أما لو كان القرآن الكريم يستعملها بمعنى محدد في غالب الحالات وأكثرها ، لكان ذلك المعنى هو المرجح في هذا البحث، وأما إذا كان القرآن الكريم يستخدمها بمعنى واحد في كل مكان من بدايته إلى نهايته، فسيكون الحكم النهائي والقاطع في المكان المبحوث فيه أن المعنى المراد من فعل "التوفّي" في القرآن كله هو الذي أُريد به في هذا المقام أيضا؛ لأنه من غير الممكن وبعيد عن الفهم تماما أن يستخدم الله تعالى في كلامه الفصيح والبليغ – ولا سيما في محل النزاع والصراع الذي هو بمنزلة معركة حامية الوطيس في علمه - كلمات شاذة ومجهولة لم تُستعمل في أي مكان في كلامه قط. ولو فعل ذلك لكان معناه أنه يريد أن يترك خلقه يهيمون في متاهات الشبهات. والمعلوم أنه لم يفعل ذلك. كيف يمكن أن يريد الله تعالى في ٢٣ آية من القرآن الكريم معنى واحدا دائمًا من كلمة معينة، ويريد في مكانين فقط - ولا سيما في مكانين يحتاجان التوضيح والبيان أكثر من غيرهما معنى آخر تماما ويدفع الخلق إلى هوة الضلال بيده؟ أيها القراء الكرام، فليتضح لكم أنه حينما درست فعل "التوفي" دراسةً متأنية في جميع الأماكن في القرآن الكريم من بدايته إلى نهايته تبين لي أنه قد ورد في ٢٣ آية كلها بمعنى الموت وقبض الروح، عدا الآيتين قيد البحث، ولم يُستخدم في أي مكان بأي معنى آخر. وتلك الأماكن هي:

حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) (النساء: (١٦)
 وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) (آل عمران: ١٩٤)
(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ (السجدة: (١٢)
 إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ)) (النساء: ۹۸) 
فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ. (غافر: (۷۸)

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ (النحل: (٢٩) 
تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ) (النحل: ٣٣)
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ (البقرة: ٢٣٥)
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) (البقرة: ٢٤١)
 تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا (الأنعام: (٦٢)
رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ (الأعراف: ۳۸)
 تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) (الأعراف: ۱۲۷)
(يَتَوَفَّى)) (الأنفال: (٥١)
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ (محمد: ۲۸) 
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ (يونس: ٤٧)
تَوَفَّني مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بالصَّالِحِينَ (يوسف: ١٠٢)
أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ)) (الرعد: ٤١)
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى (غافر: ٦٨)
الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ) (يونس: ١٠٥)
هذه الآية لم ترد في القائمة سهوا، وقد تكررت بدلا منها سهوا آية: أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ) . فحذفنا الآية المكررة ووضعنا هذه الآية التى لم ترد سهوا . كما أنه ذكر سهوا أن الآية الثالثة عشرة في القائمة
هي من سورة التوبة، ولكنها من سورة الأنفال. كما أن المسيح
الموعود قد ذكر مع السورة رقم الجزء الواردة فيها، ولكننا وضعنا رقم الآية في السورة وحذفنا رقم الجزء. (الناشر)

ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ (النحل: ٧١)
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى)) (الحج: (٦)
اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى (الزمر:٤٣) 
 هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى (الأنعام: (٦١) 

من الواضح كل الوضوح أن المراد من فعل "التوفي" في جميع الآيات المذكورة آنفا من القرآن الكريم إنما هو الموت وقبض الروح. أما الآيتان الأخيرتان فإنهما تتعلقان بالنوم ظاهريا، ولكن الحقيقة أن المراد في هاتين الآيتين ليس النوم، بل المراد والمقصود الحقيقي هو الموت، وقد أُريد الإثبات من ذلك أن النوم أيضا نوع من الموت. فكما تُقبَض الروح عند الموت كذلك تقبض عند النوم أيضا. إذن، فإن إطلاق فعل "التوفّي" على النوم في هذين المقامين استعارة استخدمت مع قرينة النوم، أي قد ذكر النوم بكلمات صريحة ليعلم كل شخص أن المراد من "التوفّي" هنا ليس الموت الحقيقي بل الموت المجازي وهو النوم.



ويعلم كل ذي علم بسيط أيضا أنه عندما تُستعمل كلمةٌ ما بمعنى حقيقةٍ مسلَّم بها، أي بمعناها الخاص بها والمتداول عموما، فليس ضروريا لمستخدمها أن يورد قرينة معينة لتوضيح معناها بوجه خاص لأن الكلمة شائعة ومعروفة وتتبادر إلى الفهم بذلك المعنى المعين. ولكنه لو استخدم كلمة بالمعنى المجازي بصرفها عن حقيقة مسلّم بها، لتحتم عليه أن يُضيف عندها قرينة بأسلوب آخر، إما صراحةً أو كناية لكي لا يشتبه المعنى على الفهم. وللتمييز فيما إذا كان المستخدم قد استخدم الكلمة حقيقةً مسلمًا بها أم على سبيل المجاز والاستعارة النادرة، فإن لذلك علامة واضحة؛ وهي أنه عند استخدامها بالمعنى المتداول يذكر الحقيقة المسلّم بها بإيجاز دون أن يرى ضرورة إلى قرينة عليها؛ معتبرا إياها مفهوما شائعا ومعروفا وموضوعا متبادرا إلى الذهن، أما في حالة الاستعارة والمجاز فلا يُستحب ذلك الإيجاز، بل يكون واجبا عليه عندئذ أن يذكر قصده بعلامة واضحة يفهمها الفطين بسهولة، ويوضح أن تلك الكلمة لم تُستخدم في ذلك المقام بمعناها الأصلي.

الآن، وقد تبين بوضوح الفرق بين الحقيقة والمجاز، يمكن لكل من قرأ القرآن الكريم بنظرة تأمل وتدبَّر في فعل "التوفّي" حيثما ورد في القرآن، أن يشهد بأمانة على صدق بياني هذا. وينبغي الإمعان في الآيات التالية على سبيل المثال لا الحصر:
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ)) (يونس: ٤٧)
تَوَفَّنِي مُسْلِمًا (يوسف: ١٠٢) 
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى)) (الحج: (٦)
تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ) (النساء: ۹۸)
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ)) (البقرة: ٢٤١)
 تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا) (الأنعام: ٦٢)
رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ (الأعراف: ۳۸)
تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (الأعراف: ۱۲۷)
وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) (آل عمران: ١٩٤)
ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) (النحل: ۷۱)


إذن، يتبين من هذه الآيات بصراحة متناهية ووضوح تام أن فعل "التوفّي" قد استخدم فيها كلها بمعنى الموت. وهل في القرآن الكريم آية استخدم فيها فعل "التوفي" وحده وأريد منه معنى آخر غير الموت؟ فلما ثبت بصورة قطعية ويقينية دون أدنى شك أن الأسلوب المتبع في القرآن الكريم من بدايته إلى نهايته هو أن المعنى المراد من فعل "التوفّي" في كل مكان هو الموت، فإن اختراع معنى في الآيتين: "إِنِّي مُتَوَفِّيكَ" و"فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي" المتنازع فيهما مخالفا للأسلوب الشائع العام والمتبع في القرآن الكريم، ليس إلا إلحادا وتحريفا سافرا.


 وفي هذا المقام، هناك نقطة أخرى جديرة بالذكر وهي: لماذا استخدم فعل "التوفّي" في محل الموت في كل مكان في القرآن الكريم، ولماذا لم يُستخدم فعل " الإماتة"؟

السر في ذلك أن لفظ "الموت" يطلق أيضا على فناء الأشياء التي لا تبقى فيها روح بعد فنائها؛ فمثلا لو اتخذت النباتات والجمادات صورا أخرى غير صورتها الحقيقية لأُطلق عليها لفظ "الموت"، كما يقال: مات الحديد وانصهر، أو ماتت قطعة الفضة وانصهرت. كذلك لا يُطلق فعل "التوفّي" على الحيوانات والحشرات التي لا تبقى فيها روح بعد موتها ولا تستحق الثواب أو العقاب، بل يقال: ماتت الدابة أو ماتت الحشرة؛ فلما كان في مشيئة الله تعالى أن يبين في كلامه العزيز بوضوح أن الإنسان حيوان لا يصيبه الفناء التام بعد موته بل تبقى روحه، ويحتفظ بها قابض الأرواح؛ فلم يُطلق عليه فعل "الموت" بل أطلق "التوفي" ليدل على أنه عمل لم يقض عليه قضاء نهائيا، وما أفناه فناء تاما بعد إماتته، بل أمات جسده فقط، واحتفظ بروحه.
وإضافة إلى ذلك أيضًا؛ إن في اختيار هذا الفعل، ردًّا على الملحدين الذين لا يعتقدون ببقاء الروح بعد موت الجسد.
ليكن معلوما أيضا أن فعل "التوفّي" قد استخدم في القرآن الكريم من البداية إلى النهاية بمعنى قبض الروح وترك الجسم يفنى. إن حقيقة موت الإنسان هي أن الله تعالى يقبض روحه ويترك الجسد على حاله بفصل الروح عنه.

ولكن ما دام النوم أيضا يشترك في هذه الحقيقة إلى حد ما؛ فقد عُبّر عن النوم أيضًا في الآيتين المذكورتين من قبل "التوفي" على سبيل الاستعارة، لأن الروح تُقبض نوعا ما في حالة النوم أيضا، ويُترك الجسم عاطلا دون أن يكون له أي عمل أو دور. أما في حالة "التوفّي الكامل، حيث تقبض الروح على الوجه الأكمل، ويُترك الجسم وشأنه، فهي موت الإنسان، لذلك فقد استخدم فعل "التوفّي" في القرآن الكريم بوجه عام ليدل على موت الإنسان. والقرآن الكريم مليء بهذا الاستخدام من بدايته إلى نهايته. ولم يُطلق فعل "التوفّى" على النوم في القرآن الكريم إلا في موضعين اثنين، وذلك أيضا مع ذكر قرينة. وفي هاتين الآيتين أيضا جاء التصريح بوضوح تام أنه ليس المراد من "التوفّي" هنا النوم، بل المراد هو الموت فقط. وقد أُريد التبيان أن النوم أيضا نوع من الموت إذ تُقبض الروحُ في النوم أيضا ويُترك الجسم على حاله. والفرق الوحيد بين النوم والموت هو أن النوم موت ناقص، والموت الحقيقي إنما هو موت على الوجه الكامل.

والجدير بالانتباه أيضا أنه كلما ورد فعل "التوفّي" في القرآن الكريم، سواء أكان بمعناه الحقيقي (أي بمعنى الموت، أم بالمعنى غير الحقيقي (أي بمعنى النوم)، كان المراد منه دائما هو قبض الروح وترك الجسم عاطلا بلا حراك. فلما اعتبرنا المعنى المذكور آنفا مبدأ مسلّما به، وتشهد عليه آيات القرآن الكريم التي ورد فيها فعل "التوفّي" - وإن قبلنا جدلا الفكرة الباطلة بداهة أن معنى : إنِّي مُتَوَفِّيكَ هو "إني مُنيمُك" - ثبت مع ذلك خطأ الفكرة القائلة برفع الجسد لأنه لا بد أن نستنتج من: إِنِّي مُتَوَفِّيك ، حسب المبدأ المذكور آنفا؛ أني سأجعل النوم غالبا عليك وسأقبض روحك. والمعلوم الآن أن العبارة: رَافِعُكَ، التي جاءت بعد - إنِّي مُتَوَفِّيكَ- تعني أني سأقبض روحك ثم أرفعك إلي؛ فإن كلمة: رَافِعُكَ إِلَيَّ ، مرتبطة بـ: مُتَوَفِّيكَ . ويُستنتج منها بالبداهة أن الله تعالى قد قبض روحه ثم رفع إليه الروحَ نفسها، لأن الشيء الذي يُقبض هو الذي يُرفع، ولا يوجد أي ذكر لقبض الجسد.

أما الآيات الأخرى التي تشير إلى النوم، فقد قال الله تعالى فيها بصراحة تامة: إن في النوم أيضا تقبض الروح فقط كما تُقبض عند الموت، ولا يُقبض الجسد. فكل شخص يستطيع أن يُدرك أنه لا يُرفع إلا ما يُقبض، وليس أن ما يُقبض هو الروح وأما ما يُرفع فهو الجسد. ولو قيل ذلك، لكان هذا المعنى معارضا تماما للآيات القرآنية كلها ومشيئة الله أيضا؛ فكلما استخدم القرآن الكريم فعل "التوفّي" - على سبيل الاستعارة - للإشارة إلى النوم، قال في تلك الأماكن أيضا إننا نقبض الروح ونترك الجسد على حاله، والفرق الوحيد بين الموت والنوم هو أنه في حالة الموت لا نحرر الروح بعد القبض، بل نحتفظ بها عندنا. أما في حالة النوم فنقبض الروح إلى مدة معينة ثم نحررها فتعود إلى الجسم.
الآن، يجب التدبر؛ أفلا يكفي هذا البيان القرآني للفهم أن الله لا يهمه قبض الجسم ورفعه سواء في حالة الموت أو النوم؟ فالله يقول بنفسه إن الجسد خُلق من طين، ويعود إلى التراب في نهاية المطاف. إن الله تعالى يقبض الأرواح منذ بدء الخليقة ويرفع إليه الأرواح فقط. فما دام هذا هو واقع الأمر وهذا هو الحق والصدق، وأيضًا لو افترضنا جدلا في هذه الحالة أن معنى "إنِّي مُتَوَفِّيك" هو أنني سأقبض روحك بالأسلوب نفسه الذي تقبض به روح النائم، فمع ذلك لا علاقة للجسم بهذا النوع من القبض. ولن يثبت من تفسير كهذا إلا أن روح المسيح قبضت في حالة النوم، وبقي الجسد في مكانه على الأرض، ثم أُعيدت إليه في وقت آخر. وهذا المعنى باطل بالبداهة وينافي ما يهدف إليه كلا الفريقين لأنه لا علاقة لنوم المسيح لفترة وجيزة واستيقاظه ببحثنا قط. وإن آية القرآن الكريم المذكورة آنفا تعلن بأعلى صوتها أن روح المسيح ما أعيدت إلى الجسد - بعد أن قبضت - كما تعاد
روح النائم، بل رفعها الله تعالى إليه كما يتبين من الكلمات الصريحة الدلالة: إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ.

 يجب أن ننظر بعين العدل والإنصاف أنه كما قال الله جل شأنه في القرآن الكريم في حق المسيح : إنِّي مُتَوَفِّيكَ. كذلك قال في حق سيدنا ومولانا النبي أيضا: ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ. أي قد ورد فعل "التوفّى" في كلا الموضعين، في حق المسيح وفي حق سيدنا ومولانا ، فكم هو بعيد عن العدل والإنصاف أن نستنتج من "التوفي" الوارد في حق سيدنا ومولانا معنى الموت، ونصرفه عن معناه الحقيقي والمعروف إذا وردت الكلمة نفسها في حق عيسى ، وبذلك نجنف عن المعنى المتفق عليه الذي يتبين من القرآن الكريم من بدايته إلى نهايته، ونختلق من عند أنفسنا معنی آخر.

إذا لم يكن هذا هو الإلحاد والتحريف، فما الانحراف والتحريف إذا؟ هناك تفاسير مبسوطة موجودة في العالم، مثل تفسير الكشاف ومعالم التنزيل والتفسير الكبير للإمام الرازي وتفسير ابن كثير وتفسير مدارك التنزيل وفتح البيان وغيرها، وقد ورد في جميع هذه التفاسير تحت الآية: يا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ "إني مميتك حتف أنفك"، أي يا عيسى سأميتك موتا طبيعيا دون أن تموت على الصليب أو بالضرب.
وغاية ما في الأمر أن بعض المفسرين فسروا هذه الآية بأوجه أخرى أيضا نتيجة قصور فهمهم، ولكنهم فعلوا ذلك بناء على رأيهم الشخصي الذي لا أصل له وليس بناء على آية أو حديث. ولو كانوا أحياء لسئلوا: لماذا وبأي دليل لبستم الحق بالباطل؟ على أية حال، ما داموا قد اعترفوا أن من جملة الأقوال المختلف فيها قول بأن المسيح مات حتما ورفعت روحه، فإن زلاتهم الأخرى تستحق العفو. علما أن بعضهم – مثل صاحب الكشاف - ضعف الأقوال الأخرى بنفسه ؛ إذ أسبقها بكلمة "قيل".
الآن، وقد أسهبنا في بحث فعل "التوفّي"، وتبيّن أنه قد استعمل في القرآن الكريم من بدايته إلى نهايته بمعنى قبض الروح فقط، بقى أن نرى: بأي معنى استخدم في القرآن الكريم فعل "الرفع" في: رَافِعُكَ إِلَيَّ ؟
ليكن معلوما أنه كلما ورد فعل "رفع" في القرآن الكريم في حق الأنبياء والأخيار والأبرار كان معناه العام هو بيان منزلةٍ عليا في السماء يحتلها هؤلاء الأخيار عند الله من حيث مكانتهم الروحانية ونقطتهم النفسية، وأيضا كي يبشروا أن روحهم سترفع بعد الموت وفراقها الجسد إلى مقام قربهم عند الله؛ إذ يقول الله جل شأنه في القرآن الكريم لإظهار المكانة السامية لنبينا الأكرم: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ. أي أن جميع الأنبياء ليسوا سواسية من حيث درجاتهم، بل بعضهم نال شرف الكلام وجها لوجه، ورفعت درجات بعضهم أكثر من غيرهم.


لقد جاء في الأحاديث تفسير هذه الآية بأن روح کل نبی كل نبي تُرفع إلى السماء بعد مماته وتنال مقاما في سماء من السماوات بحسب درجتها، فيقال بأنها رفعت إلى مقام كذا وكذا، وذلك لتستبين درجتها الظاهرية أيضا بحسب درجتها الباطنية. إذا، فهذا الرفع إلى السماء يكون لتحقيق الدرجات. وأما العبارة: رفع بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ، التي وردت في الآية المذكورة آنفا ، ففيها إشارة إلى أن رفع النبي كان أعلى ممن رفع إليه غيره من الأنبياء وأن روحه لم تستقر في السماء الثانية مثل روح المسيح، ولم تستقر في السماء السادسة مثل روح موسى بل هي أعلى وأسمى من الجميع على الإطلاق. هذا ما يدل عليه حديث المعراج بمنتهى الصراحة. بل ورد في "معالم النبوة" حديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم حين تجاوز السماء السادسة ليلة المعراج قال موسى: "رب لم أظنّ أن يُرفع علي أحد. " لاحظوا هنا أن فعل "رفع " قد استخدم لبيان الدرجات فقط. وتبين معنى الآية القرآنية المذكورة آنفا من خلال الأحاديث النبوية أن كل نبي يُرفع إلى السماوات بحسب درجته وينال نصيبه من الرفع بحسب مقام قربه. وتبين أيضا أن أرواح الأنبياء والأولياء - وإن كانت على الأرض أثناء حياتهم في الدنيا - تكون لها صلة مع سماء تعتبر حدا أعلى لرفعها ، ثم بعد الممات تستقر روحه في السماء التي جعلت الحد الأعلى لرفعها.
فالحديث الذي يذكر رفع الأرواح عموما بعد الممات يؤيد هذا البيان. ولأن هذا البحث واضح وصريح للغاية، وقد كتبت في هذا الموضوع من قبل أيضا، لذا لا أرى حاجة للإسهاب فيه الآن.

يجدر بالبيان في هذا المقام أن بعض المفسرين عندما رأوا أن معنى "التوفّي" في الآية: إنِّي مُتَوَفِّيكَ هو الإماتة في الحقيقة، وأن: رَافِعُكَ إِلَيَّ تدل بقرينة الموت الصريحة على رفع الروح، قلقوا أن ذلك يخالف رأيهم بمنتهى الصراحة، فاقترحوا إصلاحا أن كلمة رَافِعُكَ هنا متقدمة على إنِّي مُتَوَفِّيكَ حاسبين أنفسهم بمنزلة مصلحي الترتيب الوارد في القرآن الكريم، واختاروا لأنفسهم منصب المعلّم. ولكن القراء يعرفون جيدا كم يمس ذلك بكرامة كلام الله الأبلغ والأفصح، وإلى أي مدى يحط من شأنه! هنا يجب أن يكون معلوما أيضا أن ما قاله الله تعالى بحق المسيح : وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ، ليس المراد منه قط أن المسيح لم يمت. أليس هناك طريق آخر لموت الإنسان إلا أن يُقتل أو يُصلب؟ بل المراد من النفي الوارد هنا أمر آخر؛ فقد ورد في التثنية :۲۱ /۲۳ أن "المعلق ملعون من الله"، واليهود الذين قتلوا المسيح على الصليب على حد زعمهم، كانوا يظنون لتمسكهم بهذه الآية أن المسيح ابن مريم لم يكن نبيا ولا مقبولا عند الله، لأنه مات على الصليب، بحسب مضمون التوراة التي تقول أن الذي يموت على الصليب ملعون، فأراد الله تعالى أن يُظهر الحقيقة للعيان ويدحض زعمهم هذا، فقال: ما صلب المسيح ابن مريم في الحقيقة، وما قتل، بل مات ميتة طبيعية. 



السؤال :۲ أين وفي أي كتاب ورد أن المسيح ابن مريم الذي وعد بمجيئه ليس المراد منه المسيح ابن مريم نفسه بل أريد منه مثيله؟

أما الجواب:
 أولا وقبل كل شيء، تناول القرآن الكريم هذا الذكر بصراحة تامة حين قال بكلمات واضحة إنه لم يأت نبي إلا مات، فقد جاء فيه: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ، وقال: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ، وقال أيضا:
وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ .

 فالواضح أن الاعتقاد بحياة المسيح على عكس ما تعلنه هذه الآيات بأعلى صوتها، وكذلك الاعتقاد بحياته بجسده المادي في السماء الثانية دون الحاجة إلى الطعام مثل الملائكة على عكس مفهوم الآية: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ - هو انحراف تام عن كلام الله المقدس. 
أكرر وأقول: لو كان المسيح حيا في السماء بالجسد المادي، لصار تقديم الله تعالى دليلا من خلال الآية المذكورة آنفا - بالقول بأنه لو مات هذا النبي أيضا، فلا مجال للاعتراض على نبوته، لأن الأنبياء لا زالوا يموتون منذ البداية واهيا ولغوا، بل خلافا لواقع الأمر. والله تعالى أعلى شأنا من أن يكذب أو يقول ما ينافي واقع الأمر.


وبما أنه من الواضح أن المسيح قد مات وعودته بعد الممات مستحيلة، إذ يرد في القرآن الكريم أي نبأ بعودته إلى الحياة بعد الممات؛ فلا شك أن المسيح المقبل سيكون مثيله حتما.
وبالإضافة إلى ذلك قد أشار النبي أيضا في أحاديثه المقدسة إلى أن المسيح الآتي ليس المسيح ابن مريم الحقيقي بل مثيله، لأنه ذكر ملامح المسيح الراحل مختلفة عن ملامح المسيح الآتي، وقال عن المسيح الراحل بصورة قاطعة أنه كان نبيا، أما المسيح الآتي فذكره على أنه شخص من الأمة كما يتبين من حديث: "إمامكم منكم". وفي حديث: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" أنبأ الله على سبيل الإشارة بمجيء مثيل المسيح. وعلى ذلك فإن المسيح المقبل نبي أيضا مجازا، لكونه محدثا. فأي بيان أوضح وأجلى من ذلك؟ وأضف إلى ذلك أن المسيح ابن مريم الذي رفعت روحه ودخلت الجنة بحسب مفهوم الآية: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةٌ * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ، فكيف سيعود مرة أخرى إلى عالم الأحزان؟ صحيح أننا نعتقد أن الدخول الكامل في الجنة من الناحية المادية والروحانية يتحقق لكل من يستحقه بعد حشر الأجساد، ومع ذلك، فإن ما أعطي المقربون من متع الجنة قبل ذلك فلا يُنزع منهم، وإن مثولهم أمام العالمين يوم القيامة لا يستلزم خروجهم من الجنة ، لأنه ليس المراد من ذلك أن عرشا من الخشب أو الحديد أو الفضة سيُفرش خارج الجنة ويجلس الله عليه مثل الحكام أو السلاطين الدنيويين، وسيضطر الناس للمثول أمامه بقطع مسافة ما حتى يُعترض بأن الناس سيضطرون للخروج من الجنة بعد أن دخلوها للمثول أمام الله في فلاة مترامية الأطراف حيث وُضع عرش رب العالمين. إن هذه الفكرة مادية بحتة ويهودية الطابع. والحق أننا نؤمن بيوم القيامة ونؤمن بعرش رب العالمين، ولكن لا نعتبره عرشا ماديا ونؤمن أيضا بأن كل ما قاله الله والرسول سيتحقق حتما، ولكنه سيتحقق بأسلوب نزيه لا يتنافى مع قدوسية الله، ولا يغاير تنزهه أو أي صفة من صفاته الكاملة. إن الجنة مقام تجلي الله تعالى، فكيف يمكن القول إنه سبحانه وتعالى سيظهر ذلك اليوم خارج الجنة كشخص ذي جسم، أو سيأمر بنصب عرشه خارجها. بل الحق أن أهل الجنة سيكونون في الجنة في ذلك اليوم ، وأهل النار في النار، ولكن التجلّي الأعظم لرحمة الله سيمطر على الصادقين والمؤمنين متعةً كاملة بأسلوب جديد، ويريهم متعة حياة الجنة بصورة حسية ومادية، ويدخلهم دار السلام الجديدة. كذلك تماما إن تجلّى غضب الله سيري جهنم في أعين أهلها بصورة جديدة، وكأنه سيدخلهم في النار بعد الحساب والإدانة من جديد. إن دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار روحانيا دون أدنى توقف بعد موتهم، إنما هو ثابت بتواتر القرآن والأحاديث الصحيحة. إلامَ  َأطيلُ هذا البيان فارحم يا ربي القادر على كل شيء هذا القوم الذين يقرؤون كلام الله المقدس ولا يجاوز تراقيهم.


السؤال 3: الدليل الذي قدّم على إبطال عودة المسيح بأن موته ثابت، وأن كل مؤمن وصادق يدخل الجنَّة بعد موته، وأن الذي يدخل الجنة يستحق البقاء فيها إلى الأبد بحسب مفهوم الآية: ﴿وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ليس صحيحا، لأنه لو كان ذلك صحيحا لاستلزمه عدم صحة قصة وردت في القرآن الكريم عن النبي "عُزير" حيث قيل إنه مات مئة عام ثم أحياه الله. والسبب في ذلك أنه لا بد من التسليم في حالة حياته – بحسب المبدأ المذكور آنفا - أنه أخرج من الجنة. كذلك لو حملت هذه الآية على الظاهر، واستنبط منها أن الصادقين يدخلون الجنة بعد مماتهم فورا ولا يخرجون منها أبدا، لبطل خروج الأموات من القبور بعد بعثهم للمثول أمام رب العالمين في المحشر، ولأحدث ذلك انقلابا شديدا في معتقدات الإسلام المسلّم بها.
أما الجواب: فليتضح أنه صحيح تماما أن الذي يُدخل الجنة لا يُخرج منها أبدا، حيث وعد الله تعالى المؤمنين وعدا صادقا فقال: لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ، أي لقد نجا الداخلون في الجنة من كل نوع من الحزن والألم، ولن يُخرجوا منها أبدا.
ثم يقول تعالى في آية أخرى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجذُودٍ، أَيْ أَنْ السعداء يُدخلون الجنة بعد الممات وسيبقون فيها ما دامت السماوات الأرض. ولو بدلت السماوات والأرض كما سيحدث يوم القيامة لما أُخرجوا منها، ولن يحدث في الجنة خلل بسبب تحلل السماوات والأرض، لأن الجنة عطاء لن يُحرموا منه لحظة واحدة.

كذلك ورد ذكر بقاء أهل الجنة الدائم فيها في آيات أخرى من القرآن الكريم وهو زاخر بهذا الذكر كقوله : وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ .و: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ، وغيرهما. والمعلوم أيضا أن المؤمن يُدخل الجنة بعد مماته دون أدنى تأخير، كما يتبين من الآيات التالية: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (، وفي آية أخرى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) ، وفي آية أخرى: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ .
أما الأحاديث، فيوجد فيها هذا الذكر بكثرة بحيث إن بيانه الوافي مدعاة للإطالة. يذكر النبي لو ما رآه بأم عينيه، فيقول: "اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاء وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاء." وورد في قصة في إنجيل لوقا: الإصحاح ١٦ أن لعازر الذي كان شخصا فقيرا، أُجلس بعد مماته في حضن إبراهيم أي استمتع بجنة النعيم، أما الغني الذي مات في الأيام نفسها فألقي في النار، وطلب من "العازر" ماء باردا و لم يعطه.
وبالإضافة إلى ذلك هناك آيات أخرى تتحدث عن حشر الأجساد، وأن
أهل الجنة سيدخلون الجنة بعد الحساب ويُلقَى أهل النار في النار. ويبدو بإلقاء نظرة عابرة في كلا النوعين من الآيات كأن هناك تناقضا بينهما. إن دخول الأرواح الطيبة الجنةَ بعد الممات يتبين بصراحة تامة وبداهة متناهية من القرآن
والأحاديث، ولكن لن تجدوا آية واحدة أو حديثا واحدا يثبت أن أهل الجنة سيُخرجون من الجنة يوم الحساب، بينما بقاؤهم في الجنة إلى الأبد بحسب وعد الله مذكور في عدة أماكن في القرآن الكريم والأحاديث. ومن ناحية ثانية، من الثابت أيضا أن الأموات سيخرجون من القبور أحياء، وكل شخص سيقف الله ليسمع الحكم بحقه، وسيُكشف لكل شخص حساب أعماله وإيمانه بميزان الله تعالى. فالذين يستحقون الجنة يُدخلونها، والذين يستحقون أن يصلوا
أمام النار يُلقون في جهنم.
فليتضح الآن أن الطريق الأمثل لإزالة هذا التعارض الحاصل بين الآيات والأحاديث ليس بالاعتقاد أن تبقى جميع الأرواح بعد الممات في حالة فناء دون شعورها بالارتياح أو نيلها أي نوع من العقاب ودون أن يصلها نسيم الجنة أو تلفحها نار جهنم؛ لأن اعتقادًا مثله يعارض آيات القرآن الكريم البينة والأحاديث أيما معارضة. لولا علاقة الميت بالجنة أو النار خلال الفترة بين الموت وحشر الأجساد لكان الدعاء للميت والصدقات وإطعام الفقراء الطعام عن الميت أو التصدق بالألبسة وغيرها من الأعمال من هذا القبيل على مدى الأمد الطويل كلها عبثا ، ولا بد من القبول أيضا أنه لا علاقة للميت مع الراحة والألم أو الثواب والعقاب قط، مع أن هذا الزعم يعارض تماما تعليم النبي . إذا، إن ما يزيل التعارض بين الآيتين من كلا النوعين هو أن الجنة والنار منقسمتان على ثلاث درجات.

الدرجة الأولى: وهي الدرجة الدنيا، تبدأ حين يرتحل الإنسان من هذه الدنيا ويرقد في مرقده. ولقد ذُكرت هذه الدرجة الدنيا في الأحاديث على سبيل الاستعارة بأساليب مختلفة، ومن جملتها أنه إذا كان الميت عبدا صالحا فتحت في قبره نافذة إلى الجنة يرى من خلالها مشاهد الجنة ويستمتع من نسيمها العليل. وسعة النافذة تعتمد على مرتبة إيمان صاحب القبر وعمله. وقد ورد أيضا أن الذين يغادرون الدنيا وهم فانون في الله بحيث يضحون بحياتهم الغالية في سبيل حبيبهم الحقيقي مثل الشهداء أو الصديقين الذين هم سابقون على الشهداء أيضا، لا يُفتح لهم في قبرهم بعد مماتهم نافذة فقط، بل يُدخلون الجنة بكل وجودهم وبكل قواهم ولكن مع ذلك لا يذوقون متعة الجنة بصورة أكمل وأتم قبل يوم القيامة.
كذلك يُفتح في قبر الميت الخبيث نافذة إلى جهنم، فيصيبه من خلالها بخار حارق، فتحترق الروح الخبيثة كل حين بلهيبه. بالإضافة إلى ذلك قد ورد أيضا أن الذين يغادرون الدنيا وهم فانون في الشيطان لكثرة المعاصي لدرجة قطعهم علاقتهم بمولالهم الحقيقي كليا بسبب طاعتهم الشيطان، لا يُفتح لهم في قبرهم نافذة إلى جهنم فقط، بل يُلقون فيها بكل وجودهم وكل قواهم، كما يقول الله جل شأنه: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا . ومع ذلك لا يذوقون عقاب جهنم بصورة أكمل وأتم قبل يوم القيامة.
الدرجة الثانية: هناك درجة أخرى فوق الدرجة التي ذكرناها آنفا لأهل الجنة وأهل النار، وهي دخولهم الجنة أو النار، ويمكن أن نسميها الدرجة المتوسطة، وتأتي هذه الدرجة بعد حشر الأجساد وقبل دخول الجنة العظمى أو النار الكبرى. وبسبب العلاقة بين الروح والجسد كامل القوى، ينشأ نشاط ذو درجة عالية في قوى صاحبها فيلاحظ تجلّى رحمة الله أو غضبه بوجه أكمل حسب حالته، ويجد الجنة العظمى أو جهنم الكبرى قريبة جدا منه، فتتقوى حاسة المتعة أو العقاب أكثر من ذي قبل، كما يقول الله جل شأنه: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ) ، ويقول أيضا: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ. والحائزون على الدرجة الثانية أيضا ليسوا سواسية، بل منهم من يحتلون درجة عليا وتصحبهم أنوار الجنة في حالة كونهم من أهل الجنة؛ ويقول الله جل شأنه مشيرا إليهم: نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ . كذلك من أهل النار أيضا كفار يحتلون درجة عليا؛ حيث تُضرم في قلوبهم نار جهنم قبل أن يدخلوها بصورة كاملة، كما يقول الله جلّ شأنه: نَارُ الله الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ . 

وفوق هاتين الدرجتين هناك الدرجة الثالثة والأخيرة؛ وهي منتهى المدارج التي سيدخلها الناس بعد يوم الحساب ويتذوقون أكمل وأتم سعادة أو شقاوة.
فملخص الكلام أن الإنسان في هذه المدارج الثلاثة يكون في نوع من الجنة أو نوع من النار. وما دام الحال على هذا المنوال، فمن الواضح أنه لا يُخرج من تلك الدرجة من الجنة أو من النار بعد أن يحتل درجة من هذه الدرجات الثلاث، غير أنه حينما يتقدم من هذه الدرجة ينتقل من الدرجة الدنيا إلى الدرجة العليا.

ومن أساليب هذا التقدم أن شخصا يموت مثلا في حالة أدنى من الإيمان ومن والعمل، فيجعل له ثقب صغير إلى الجنة بقدر قدرته على تحمل تجلي الجنة. وإذا مات تاركا وراءه أولادا صالحين يدعون لمغفرته جاهدين ويتصدقون وينفقون على الفقراء طالبين المغفرة له، أو كانت هناك علاقة حب بينه وبين أحد من أهل الله، فيستغفر الله له بالتضرع والابتهال أو قام الميت في الدنيا في حياته بعمل لفائدة خلق الله، ينفع عباده بطريقة من الطرق؛ فتزداد النافذة التي فتحت إلى الجنة اتساعا ببركة ذلك العمل الخير الجاري، بل إن قوله : "سبقت رَحْمَتِي على غَضَبِي" -هكذا ورد في الأصل، وهو سهو، إذ إنه لا يوجد حرف "على" في الحديث الذي أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم. (المترجم)- يظل يوسع النافذة باستمرار حتى تصبح بوابة واسعة، فيُدخل صاحبه الجنة مثل الشهداء والصديقين. ويفهم الفاهمون أنه من السخف شرعا وعدلا وعقلا الظنُّ أن يكون نوع من الخير جاريا من أجل مسلم بعد وفاته، وأن تكون بعض أوجه الثواب والأعمال الصالحة مفتوحة له، تبقى سعة النافذة المفتوحة له إلى الجنة، ومع على ما كانت عليه أول يوم فتحت فيه. ليكن معلوما أيضا أن الله تعالى قد أوجد مسبقا لفتح هذه النافذة أسبابا يتبين منها بصراحة أن ذلك الكريم له يود أنه لو تحرك إليه أحد، ولو بنــزر يسير من الإيمان والعمل لظل ينمو ويزدهر باستمرار ولو حدث يوما أن انقطعت كافة أوجه الخير الذي يصل الميت من هذا العالم لما انقطعت سلسلة الاستغفار الذي أمر به المؤمنون والصالحون والشهداء والصديقون أن يدعوا من الأعماق لإخوتهم الذين سبقوهم في هذا العالم.
والواضح أن الذين يدعو لهم فوج من المؤمنين فإن دعاءهم لن يذهب شدى أبدا، بل يعمل عمله كل يوم ويوسّع بكل قوة نافذة فتحت إلى الجنة لمن مات من المؤمنين المذنبين. ولقد وسعت هذه الأدعية إلى الآن ما لا يعدّ ولا يُحصى من النوافذ حتى دخل الجنة عدد لا يحصى من الذين فتحت لهم في البداية نافذة صغيرة لرؤية الجنة فقط . 

إن جميع المسلمين الذين يسمون أنفسهم موحدين في العصر الراهن مخدوعون في ظنهم أن الشهداء فقط يدخلون الجنة بعد الممات، أما بقية المؤمنين حتى الأنبياء والرسل فسيُبقون خارجها إلى يوم الحساب، وسيفتح لهم إلى الجنة نافذة صغيرة فقط. ولكن القائلين بذلك لم ينتبهوا إلى الآن أن الأنبياء والصديقين هم أعلى من الشهداء روحانيةً؟ كذلك، أليس الابتعاد عن الجنة نوع من العذاب الذي لا يمكن أن يُتصوَّر بحق المغفور لهم؟ والذين يقول الله عنهم: رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ . هل يمكن أن يتأخروا عن الشهداء في السعادة والفوز بالمرام؟

 الأسف كل الأسف أن هؤلاء القوم قد قلبوا الشريعة الغراء رأسا على عقب لعدم فهمهم، إذ يزعمون أن أول الداخلين إلى الجنة هم الشهداء، ولعلّ دور الأنبياء والصديقين قد يأتي بعد سنين طويلة تفوق العد والحساب. إن هذه الإساءة إلى هؤلاء الأبرار والمساس بشأنهم هي بمنزلة اتهام كبير لهم لن يُمحى بأعذار واهية. لا شك أن الجميع يستطيعون أن يدركوا أن السابقين بالإيمان والأعمال يجب أن يكونوا سابقين بالدخول إلى الجنة أيضا، وليس أن تُفتح لهم نافذة كما تُفتح لضعاف الإيمان، بينما سيبدأ الشهداء باقتطاف ثمار الجنة فور انتقالهم من هذه الدنيا. إذا كان دخول الجنة مقصورا على إيمان كامل وإخلاص كامل واجتهاد كامل، فلا شك أنه ما من أحد أحق بذلك من الأنبياء والصديقين الذين تكون حياتهم مكرّسة الله، ويتفانون في سبيل الله تعالى كأنهم يموتون في هذا السبيل، ويتمنون أن يُستشهدوا في سبيله ثم يُحيوا ثم يُستشهدوا ثم يُحيوا ثم يُستشهدوا.

لقد تبين جليا من بياني هذا أن هناك أسبابا قوية لإدخال الناس الجنة بحيث إن كل المؤمنين الصادقين تقريبا سيدخلونها على أكمل وجه قبل يوم الحساب. ثم لن يُخرجوا منها يوم الحساب بل ستُقرَّب الجنة أكثر من ذي قبل. يجب أن يُفهم من مَثَل النافذة كيف تُقرَّب الجنةُ من القبر. هل تأتي الجنة إلى الأرض المتصلة بالقبر؟ كلا، بل تُقرَّب الجنةُ روحانيا. كذلك سيكون أهل الجنة موجودين في ميدان الحساب وفي الجنة أيضا روحانيا في الوقت نفسه، يقول نبينا الأكرم ما مفاده تحت قبري روضة الجنة . ففكروا جيدا إلام يشير إليه هذا الكلام؟
يبدو أن المسيح الموعود قد ذكر الحديث بالمعنى هنا، ولعل أقرب حديث لهذا المعنى هو قوله : "مَا بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ" (مسند أحمد). (المترجم)

 أما الحجة التي قدمت عن موت "عُزير" وعودته إلى الحياة بعد مئة عام، فلا تنفع معارضينا شيئا، لأنه ما قيل قط إن عُزيرا أُحيي وأُرسل مرة ثانية إلى الدنيا، دار الهموم والأحزان، حتى يستلزم ذلك مأساة إخراجه من الجنة، بل لو حملت تلك الآية على معناها الحرفي أيضا، لما ثبت شيء إلا تجلّي قدرة الله التي أحيت عُزيرا لحظةً واحدة ليهب له اليقين بقدرته . ولكن المجيء إلى الدنيا كان مؤقتا فحسب، وبقي عُزَيرٌ في الجنة في الحقيقة. وليكن معلوما أيضا أن الأنبياء والصِّدِّيقين يُحيون بعد الممات ويُعطون جسما نورانيا، وفي بعض الأحيان يقابلون الأتقياء في اليقظة أيضا. وإن هذا العبد المتواضع صاحب تجربة في هذا المجال. فأيّة غرابة لو أحيا الله تعالى عُزيرا على هذا النحو؟ أما الاستنباط من هذا النوع من الحياة أنه أحبي وأخرج من الجنة فهو جهل غريب من نوعه، بل الحق أن تجلّي الجنة يتعاظم بهذه الحياة. 


السؤال ٤ : إن الآية: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ" تدل على حياة المسيح ابن مريم لأنها تعني أن جميع أهل الكتاب سيؤمنون بالمسيح قبل موته. فيبدو من هذه الآية أن المسيح سيعيش حتما إلى أن يؤمن به أهل الكتاب جميعا.
 أما الجواب: فليكن واضحا أن السائل مخطئ في ذلك، إذ يزعم أن الآية أنه لا بد أن تؤمن جميع فرق أهل الكتاب بالمسيح قبل موته، لأنه لو قبلنا جدلا أن هذا ما تعنيه الآية كما فهم السائل لاستلزم ذلك أن يؤمن به جميع أهل الكتاب الذين خلوا منذ زمن صعوده والموجودون حاليا والذين سيأتون في المستقبل إلى زمن نزوله، وهذا باطل بداهة. يعرف الجميع جيدا أن عددا هائلا لا يُعدُّ ولا يُحصى من أهل الكتاب قد وصلوا جهنم إلى الآن لإنكارهم نبوة المسيح، ويعلم الله وحده كم منهم سيدخلون أتون هذه النار لكفرهم به في المستقبل أيضا. لو كان في مشيئة الله أن يؤمن بالمسيح كافة أهل الكتاب الذين ماتوا أيضا عند نزوله، لأبقاهم جميعا على قيد الحياة ما لم ينزل المسيح من السماء. أما الآن، فكيف يمكن أن يؤمنوا به بعد موتهم؟

يرد على ذلك بعض الناس بتجشم كثير من التكلف أنه من الممكن أن يُحيِي الله كافة أهل الكتاب الذين ماتوا في كفرهم منذ زمن بعثة المسيح إلى نزوله الثاني. 

وجوابه: لا شك أنه لا شيء مستحيل على الله، ولكن الموضوع قيد البحث هو: هل يوجد لمثل هذه الأفكار أي أثر في القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة؟ وإذا كان موجودا فلم لا يُقدِّمونه؟
يقدّم البعض بصوت خافت وبشيء من الاستحياء تفسيرا أن المراد من أهل الكتاب هم أولئك الذين سيكونون موجودين في الدنيا عند عودة المسيح، فسيؤمنون به فور رؤيتهم إياه، وسينضمون إلى فوج المؤمنين قبل موت المسيح. لكن هذه الفكرة أيضا باطلة بحيث لا حاجة للإسهاب فيها أكثر من ذلك، لأنه أولا وقبل كل شيء: إن الآية قيد البحث تفيد العموم بوضوح تام، وهذا يعنى أن المراد من أهل الكتاب هم أهل الكتاب جميعا الذين كانوا في زمن المسيح أو سيأتون بعده ، ولا توجد في الآية كلمة تجعل زمنها مقتصرا على زمن محدد


إضافة إلى ذلك، فإن هذا المعنى باطل بداهة لأن الأحاديث تعلن بأعلى صوتها أن منكري المسيح - سواء أكانوا من أهل الكتاب أو غيرهم - سيموتون بنفسه في حالة كفرهم. وليس ضروريا أن نكرر نقل تلك الأحاديث، إذ يمكن قراءتها في مكانها في هذا الكتاب.
لقد بينت من قبل المعنى الحقيقي لموت الناس بنفس المسيح، أي أن المراد من ذلك موتهم بالحجة والبيِّنة، وإلا فبعيد من الأدب القول بأن مادةً سُمِّيَّة أو وبائية ستخرج من فم المسيح وتختلط بالهواء وتقتل الكفار الضعفاء فقط، ولن تقدر على قتل الدجال، منه.


إضافة إلى ذلك، فمن معتقدات المسلمين المسلم بها أن الدجال أيضا سيكون من أهل الكتاب، ويعتقدون أيضا أنه لن يؤمن بالمسيح! الآن لا يسعني أن أتصور مدى الخجل الذي سيصيب أصحاب تلك الفكرة باطلاعهم على هذه الأحاديث. ومن المسلَّم به أيضا والوارد في صحيح مسلم أن القيامة ستقوم على شِرَار الناس الذين سيبقون بعد المسيح. فلو لم يبق أحد كافرا فكيف ستقوم القيامة؟


والآن سيطرح سؤال طبيعي نفسه بأنه إذا كان معنى الآية المذكورة آنفا غير صحيح، فما هو معناها الصحيح إذن؟
 فليتضح في الجواب أن المعنى الصحيح هو ذلك الذي يتحتم التسليم به بالنظر إلى جميع الآيات الواردة في هذا الموضوع، ولا يستلزم التسليم به أي عيب أو نقيصة. فأولا وقبل كل شيء أنقل فيما يلي تلك الآيات، ثم سأتطرق إلى إثبات معانيها الصحيحة. ففيما يلي تلك الآيات: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اختَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتَّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ، وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) (النساء: ١٥٨ - ١٦٠)



أي أن سبب حرمان اليهود من رحمة الله والإيمانِ كان نتيجة أعمالهم السيئة التي ارتكبوها. ومن جملتها قولهم انظروا قد قتلنا المسيح ابن مريم الذي كان يدعي أنه رسول الله. إن قولهم هذا لا يعني أنهم كانوا يؤمنون بالمسيح رسولاً، وإلا لما علّقوه على الصليب. بل إن قولهم إننا قتلنا الرسول كان استهزاء وسخريةً، لأنه قد ورد في التوراة أن المعلَّق ملعون من الله، أي بعيد من رحمة الله وقربه. كان اليهود يقصدون من وراء قولهم هذا أنه إذا كان عيسى بن مريم رسولا صادقا لما قدرنا على صلبه؛ لأن التوراة تعلن بأعلى صوتها أن المصلوب ملعون. ثم يقول القرآن بعد ذلك إن اليهود ما قتلوا المسيح ابن مريم وما صلبوه، بل هذا الأمر مشبوه فيه في قلوبهم وليس يقينيا، وقد جعل الله الأمر مشتبها عليهم ليظهر عليهم غباءهم وقدرته ثم يقول تعالى بأن الذين يشكون في كون المسيح قد صُلب فعلا، ليس لديهم دليل قطعي ويقيني على أنه مات على الصليب، بل الأمر اليقيني هو أنه مات ميتة طبيعية، ثم رفعه الله تعالى إليه كما يرفع عباده الصالحين. إن الله عزيز ويرزق العزة للذين يصبحون له، وهو حكيم فيفيد بحكمه أولئك الذين يتوكلون عليه. ثم قال تعالى : ما من أهل الكتاب إلا ويؤمن ببياننا الذي ذكرناه آنفا عن أفكار أهل الكتاب أنفسهم، قبل أن يؤمن بحقيقة أن المسيح قد مات موتا طبيعيا.
أي بينا من قبل أنه لا أحد من أهل الكتاب يؤمن من أعماقه بأن المسيح قد مات على الصليب في الحقيقة بل إن اعتقاد اليهود والنصارى كلهم بموته على الصليب مبني على الظن والشك فقط، وإن بياننا هذا صحيح تماما ولا يسع أحدا إنكاره . غير أنهم لا يعرفون عن موعد موته، فها نحن نخبرهم بذلك بأنه قد مات، وأن روحه قد رفعت إلينا بإكرام.


ليكن معلوما هنا أن قول الله تعالى بأنه ما من أهل الكتاب إلا ويؤمن ببيانه عن أفكارهم إنما هو بيان إعجازي ومطابق تماما لما قاله الله تعالى لليهود: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ . فالمراد من هذا القول هو أن اليهود يقولون بأنهم قتلوا المسيح على الصليب، ويستنتجون من ذلك أنه ملعون وليس نبيا صادقا - والعياذ بالله - وكذلك يقول النصارى إن المسيح قد مات على الصليب، ويستنتجون من ذلك أنه صار كفّارة عن ذنوبهم، ولكن الحق أن كلا الفريقين مخطئ في أفكاره ولا أحد من كلا الفريقين يؤمن في قرارة قلبه بهذه الأفكار. بل اعتقادهم القلبي هو أن المسيح ما مات على الصليب يقينا. لقد أراد الله تعالى من هذا الكلام أن يدرك المنصفون على وجه القطعية من سكوت اليهود والنصارى أنه ليس في أيديهم بهذا الصدد شيء إلا الشك. ولما لزم اليهود والنصارى الصمتَ بعد الاطلاع على هذه الآية ولم يبرزوا في الميدان للإنكار، اتضح أن السبب في ذلك أنهم كانوا يعرفون جيدا أنهم لو برزوا للمواجهة وادعوا بما ليس في قلوبهم، لواجهوا ذلة وخزيا، ولسوف تظهر من الله آيةٌ تُثبت كذبهم لذا لم ينبسوا ببنت شفة، بل لزموا الصمت. مع أنهم كانوا يعرفون جيدا أن سكوتهم سيُثبت إقرارهم بالأمر، وهذا سيؤدي من ناحية إلى استئصال عقيدة هؤلاء الكافرين ومن ناحية أخرى يُبطل اعتقاد اليهود أن المسيح ليس رسولا صادقا من الله وليس من الذين يُرفعون إلى الله بالإكرام. ولكن السيف اللامع لصدق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبهر أبصارهم. فكما قيل لهم في القرآن الكريم: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) ولكن لم يفعل ذلك أحد لخوفهم، كذلك لا يسع أحدا الإنكار هنا أيضا لشدة خوفه، أي لم يستطيعوا القول بأننا نوقن بموت المسيح على الصليب، فلماذا تعد من غير الموقنين؟ فإن سكوتهم في زمن النبي صار حجة إلى الأبد، وأثرت أعمالهم وتصرفاتهم على ذرياتهم المقبلة أيضا، لأن السلف يكونون بمنزلة الشهود للخلف، ولا بد للأجيال القادمة من أن تقبل شهاداتهم.
والآن يمكن للقراء أن يدركوا أن البحث الذي بدأه الله تعالى – وهو أن المسيح لم يمت على الصليب بل مات موتا طبيعيا كان الهدف من ورائه أن الفئتين المختلفتين أي) اليهود والنصارى كانوا يستنتجون من موته على الصليب نتيجتين مختلفتين لدعم موقفهما قال اليهود إنه مات على الصليب، والمصلوب ملعون حسب التوراة، أي يُحرم من قرب الله ومن شرف الرفع إلى الله، وإن شأن النبوة أرفع وأعلى من أن يصيبها هذا النوع من الذلة، أما المسيحيون فقد ابتدعوا - خشية طعن اليهود - أن موت المسيح على الصليب لا يضره بشيء، بل قبل لنفسه هذه اللعنة برغبته ليخلص منها المذنبين. فقد أراد الله أن يثبت بطلان موقف كلتا الفئتين وبين أنه لا أحد منهم يوقن بموت المسيح على الصليب وإذا كان منهم من يوقن بذلك فليخرج للعيان. فلاذوا بالفرار ولم ينبسوا ببنت شفة. وإنها لمعجزة عظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم وللقرآن الكريم، ولكنها خافية عن أعين المشايخ المعاصرين قليلي الفهم.
وأقسم بالذي نفسي بيده أن هذه الحقيقة قد كشفت عليّ في هذه اللحظة بالذات، بالكشف، وكلّ ما كتبته آنها فقد كتبته بتعليم ذلك المعلّم الحقيقي، فالحمد لله على ذلك.
ولو اختبر الموضوع على محك العقل لشهد كل عقل سليم على صدق هذا البيان، لأن كلام الله نزية من اللغو. ولكل عاقل أن يفهم أنه لو لم يشمل هذا البحث تلك المقاصد العظيمة لكان البيان كله لغوا لا حقيقة فيه، لأنه لو كان الأمر كذلك لصار النقاش – هل مات نبي من الأنبياء على الصليب أو موتا طبيعيا - عقيما لا يسفر عن نتيجة مرضية.


لذا يجب التأمل جيدا؛ ما هو الهدف السامي الذي يريد الله تحقيقه ببيانه بهذه القوة والشدة بأنه ما من يهودي أو مسيحي يعتقد يقينا بموت المسيح على الصليب؟ أو ما هو الهدف العظيم الذي لإثباته، أسكت الله كلا الفريقين من اليهود والنصارى وأفحمهما؟ إنه الهدف نفسه الذي أظهره الله بواسطة كشفه الخاص على هذا العبد الضعيف الذي هو كافر وملحد في نظر المشايخ. 

"يا رب نفسي فداء أسرارك، فقد رزقت الأميين فهما وذكاء، أين مثلي في كونك كله؟ فقد نشأت وترعرعت في بيئة يسودها الجهل. كنت دودةً صغيرة، فجعلتني بشرا، إن شأني أغرب من مسيح كان بلا أب.

ترجمة أبيات فارسية (المترجم)

إذا طُرح سؤال: هل يمكن الاستدلال من الإنجيل على عدم موت المسيح على الصليب أم لا ؟ أي هل يثبت أن عملية الصلب لم تكتمل وإن كان قد علّق على الصليب في الظاهر، بمعنى هل لم يمت المسيح على الصليب؟ 
فجوابه أن الأناجيل الأربعة تشهد بكل جلاء على بيان القرآن الكريم: مَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ)) لأن القرآن لا يقصد قط من: (مَا صَلَبُوهُ أنه ما عُلِّق على الصليب، بل المراد منه أن الله نجاه من الهدف من الصلب، أي أنقذه من الموت عليه وقد أقدم اليهود على هذه الفعلة - أي تعمدوا قتله - ولكن قدرة الله وحكمته حالت دون تكميلها. وكما ورد في الأناجيل أنه قد حدث أن اليهود طلبوا من "بيلاطس" أن يسلّمهم المسيحَ الذي كان في السجن- ليصلبوه فبذل بيلاطس قصارى جهده ليُطلق سراحه لأنه لم يجد فيه علة، ولكن اليهود أصروا وألحوا عليه كثيرا أن يصلبه. وقال الكهنة والفريسيون كلهم أجمعون إنه كافر ويصرف الناس عن أوامر التوراة. بينما كان بيلاطس يعرف جيدا من الأعماق أن قتل إنسانٍ صادق بناء على الاختلافات الفرعية ذنب كبير بلا أدنى شك، لذلك كان يبحث عن أعذار لإطلاق سراحه ولكن الكهنة ما كانوا ليرتدعوا عن موقفهم، فاختلقوا أمرا آخر وقالوا بأن هذا الشخص يدعي أنه ملك اليهود، وهو متمرد على حكومة "قيصر" سرا، وإذا أطلقت سراحه فاعلم أنك قد حَميتَ متمردا. فخاف بيلاطس لأنه كان خاضعا لأمر قيصر. ولكن يبدو أنه مع ذلك ظل خائفا من سفك الدم بغير حق. ولقد رأت امرأته في الحلم أن المسيح صادق، ولو قتله بيلاطس لكان ذلك مجلبة دمار له، فخاف بيلاطس أكثر بسماع الحلم. فلكل قارئ لبيب أن يفهم من التأمل في هذه الرؤيا المسجّلة في الإنجيل أن إنقاذ المسيح من القتل كان من مشيئة الله. فأول إشارة إلى مشيئة الله هذه تُستدلّ من الرؤيا نفسها، فتدبروها
جيدا.
ثم حدث أن عقد بيلاطس اجتماعا لاتخاذ القرار النهائي، وحاول قدر المستطاع أن يُقنع الكهنة والكتبة الأشقياء أن يرتدعوا عن طلب قتل المسيح، ولكنهم لم يتراجعوا عن موقفهم بل ازدادوا صراخا قائلين "ليُصلب، ليُصلب" لأنه منحرف عن الدين. عندها طلب بيلاطس ماء وغسل يديه أمام الجميع قائلا: إني بريء من دمه فقال اليهود والشيوخ والكتبة: "دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلادِنَا". عندها سُلّم المسيح إليهم فجُلِد، وتعرَّض لكل ما كان في نصيبه من السباب والضرب واللطم والاستهزاء والسخرية بإيعاز من الشيوخ والكهنة حتى استعدوا لصلبه. كان الوقت عصرا يوم الجمعة وكان عيد الفصح أيضا عند اليهود ، فالوقت كان ضيقا، إذ كان يوم السبت الذي يبدأ بغروب الشمس - على وشك الحلول، لأن اليهود - مثل المسلمين - يعدُّون الليل الذي قبل النهار، جزءا من اليوم التالي. وكان هناك أمرٌ شرعي مؤكد ألا تبقى جثة معلقة على الصليب يوم السبت. فأسرع اليهود في تعليق المسيح - مع لصين- – على الصليب، وذلك كي يتم إنزال الجثث قبل حلول المساء. ثم اتفق أن هبت عاصفة شديدة في الحال وعمّ ظلام حالك. فقلق اليهود على أنه لو حلّ المساء في تلك العاصفة لارتكبوا الجريمة المذكورة فأنزلوا المصلوبين الثلاثة عن الصلبان بناء على ذلك الخوف.
وليكن معلوما أنه من المتفق عليه أن الصليب في تلك الأيام ما كان مثل المشنقة المعروفة في العصر الراهن حيث يُقضى على المزمع قتله خلال ساعة واحدة بشد الحبل على عنقه. ففي تلك الأيام ما كان يُوضع في العنق حبل، بل كانوا يدقون المسامير في بعض الأعضاء. وكان المصلوبون يتركون على الصليب إلى ثلاثة أيام جياعا وعطاشى ثم تُكسر عظامهم للتأكد من موتهم. ولكن شاءت مشيئة الله ألا يحدث كل هذا مع المسيح. فقد اجتمعت الأسباب كلها في آن معا؛ مثل عيد الفصح، وضيق الوقت أي وقت العصر، وخوفهم من حلول السبت وهبوب العاصفة. وقد أدّت هذه الأمور كلها إلى إنزال المسيح واللصين عن الصلبان في وقت قصير. ثم حين جاء الأمر بكسر العظام أظهر الله تعالى نموذج قدرته الكاملة؛ إذ أن بعضا من جنود بيلاطس الذين كانوا قد أفهموا سرًّا هَوْلَ عاقبة الرؤيا، كانوا موجودين آنذاك، وكانوا يرغبون في أن يزول هذا البلاء عن المسيح حتى لا تتحقق بقتله الرؤيا التي رأتها زوجة بيلاطس، فيحل ببيلاطس بلاء، فكسروا عظام اللصين أولا. ولما كانت العاصفة شديدة وعمّ الظلام، قلق الناس للعودة فعادوا إلى بيوتهم مسرعين. فوجد الجنود فرصة مواتية، وحين فرغوا من كسر عظام اللصين وجاء دور المسيح، قال أحدهم بعدما لمسه باليد: إنه قد مات، فلا حاجة لكسر عظامه ، وقال آخر: أنا سأتولّى دفن جثته. وكانت العاصفة من الشدة والقوة بحيث دفعت اليهود لمغادرة ذلك المكان. وهكذا أنقذت حياة المسيح، ثم قابل الحواريين وأكل معهم السمك. وحين وصل اليهود إلى بيوتهم وتوقفت العاصفة، ارتابوا في عدم اكتمال خطتهم، وانتابهم الشك في تصرفات الجنود أيضا.

إذن، فلا يزال اليهود والنصارى على الحال نفسها، إذ لا يستطيع أحد منهم أن يقول حالفا بالله أو مؤكدا البلاء أو العذاب لنفسه بأنه واثق ومتيقن أن المسيح قد قتل في الحقيقة. والحق أن هذه الشكوك قد أطلت برأسها في ذلك الوقت نفسه. ولقد حاول "بولس" بحذلقته أن يزيل تلك الشكوك، ولكنها ظلت تزداد وتتفاقم. فمن الواضح تماما من بعض رسائل بولس أنه لما أُنزل المسيح عن الصليب، ظهرت حجة قوية أخرى للعيان على كونه حيا، وهي أنه عندما طُعن بحربة في جنبه، تدفق منه على الفور دم. فلا يزال اليهود في شك بسبب عجلتهم، وأما النصارى فيشاركون في هذا الشك بناء على بيان الإنجيل. الحق أنه لا يسع مسيحيا يتدبر الإنجيل أن يعتقد على وجه اليقين أن المسيح مات على الصليب في الحقيقة، بل لا تزال قلوبهم في شك من أمره إلى يومنا هذا. والكفارة التي يشيعونها مبنية على تلة رملية قد ذَرَتها بيانات الإنجيل نفسه. فإن الآية القرآنية: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ . لا تتضمن نبوءة كما يزعم إخواننا المشايخ الذين يدّعون أنهم علماء كبار بل تبين واقع الحال الذي كان موجودا في زمن النبي . بمعنى أن الله تعالى يسرد ماهية أفكار اليهود والنصارى السائدة آنذاك إتماما للحجة، ويُظهر عليهم حقيقة قلوبهم، ويُدينهم ويفهمهم أنه إذا كان بيانه هذا غير صحيح، فليبرزوا في الميدان وليعلنوا بوضوح أن هذا الخبر ليس صحيحا، ولم تتطرق الشكوك والشبهات إلى قلوبهم، بل يوقنون بأن المسيح قد مات مصلوبا في الحقيقة.

هنا يجب أن يكون معلوما أيضا أن الله جل شأنه يهدف من قوله: قَبْلَ مَوْتِهِ، الوارد في نهاية الآية أنه يجب ألا يستنتج أحد من عدم موت المسيح على الصليب إنه ما دام المسيح لم يمت على الصليب، لذا فإنه لم يمت إلى الآن. فقال تعالى : إن هذا بيان لما جرى قبل موته ميتة طبيعية، فلا تستنبطوا من ذلك عدم موته، إذ قد مات المسيح بعد ذلك ميتة طبيعية. فقد قال الله في هذه الآية بأن اليهود والنصارى يؤمنون ببياننا هذا بالاتفاق على أن المسيح لم يمت حتما على الصليب، وليس لديهم إلا الشكوك والشبهات فقط بهذا الصدد. فإنهم يؤمنون بالأحداث التي سبقت موته - قبل أن يؤمنوا بموت المسيح الطبيعي الذي حدث في الحقيقة ؛ لأنه ما دام المسيح لم يمت على الصليب الأمر الذي كان اليهود والنصارى يريدون أن يستنتجوا منه نتائج معينة لتحقيق أهدافهم – صار إيمانهم بموته الطبيعي محتوما عليهم، لأن الذي يولد سيموت حتما. فإن تفسير العبارة: قَبْلَ مَوْتِهِ، هو : قبل إيمانه بموته.

ومن ناحية ثانية يُستنبط من الآية معنى آخر أيضا وهو أن هذه الأفكار والشكوك والشبهات لا تزال تراود قلوب اليهود والنصارى منذ وقت لم يكن المسيح قد مات فيه بعد. فمن منطلق هذا المعنى يشهد القرآن الكريم ضمنيًّا على موت المسيح. فباختصار، قد ذُكر موت المسيح في ثلاث آيات من القرآن الكريم، ولكن من المؤسف حقا أن المشايخ لا يقرؤون هذه الآيات. يقول بعضهم بمنتهى الحذلقة: حسنا، قبلنا أن القرآن الكريم يقول بموت المسيح، ولكن أليس الله جلّ شأنه قادرا على أن يُحييه مرة أخرى ويعيده إلى الدنيا؟ الحق أن عقول هؤلاء المشايخ وأفهامهم تدعو للرثاء والبكاء فعلا.
أيها السادة، نحن نؤمن بأن الله قادر على كل شيء، وقادر على أن يحيي الأنبياء جميعا إذا شاء ذلك. ولكن السؤال المطروح أمامكم هو أن القرآن الكريم قد حكى قصة المسيح إلى موته ثم سكت، فإذا كنتم تعرفون آية قال الله تعالى فيها بأنه قد أحيا المسيحَ بعد موته فأخرجوها لنا، وإلا فإنكم تتصدون للقرآن الكريم كالأعداء حيث أعلن موته، وأنتم تدعون - على عكس ذلك - أنه لم يمت، بل لا يزال حيا.
إن بعض المشايخ يقول بمنتهى البساطة إن قوله تعالى ﴿بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وقوله رَافِعُكَ بعد قوله إنِّي مُتَوَفِّيكَ يدل على عودته إلى الحياة. ثم يقولون بأنه إذا لم يكن هذا المعنى ،صحيحا، فلم لم ترد كلمة: رَافِعُكَ بحق أحد غير المسيح؟ 

لقد سبق أن كتبتُ ردًّا مفصلا في كتاب إزالة الأوهام" هذا نفسه على كل هذه الوساوس وقلت إن المراد من الرفع هو رفع الروح بعزة وإكرام؛ إذ تُرفع روح كل مؤمن بعد وفاته إلى الله تعالى بعزة وإكرام بحسب نصوص القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة. أما السبب وراء ذكر رفع المسيح هنا، فلأن مهمته لتبليغ الدعوة كانت شبه فاشلة، وزعم اليهود أنه كاذب، لأنه كان ضروريا حسب زعمهم أن ينزل "إيليا" من السماء قبل المسيح الصادق. فأنكروا رفع المسيح إلى الله تعالى بالعزة والإكرام مثل بقية الأنبياء، بل اعتبروه ملعونا، والعياذ بالله، وملعون من لا يُرفع بالعزة والإكرام. فأراد الله أن يزيل هذه التهمة عن المسيح.
فأولا وقبل كل شيء؛ أبطل الله تعالى الأساس الذي بناء عليه اعتبر اليهود والنصارى الأشرار المسيحَ ملعونا في قرارة قلوبهم. ثم ذكر بصراحة تامة أن المسيح ليس ملعونا حتى يُحرم من الرفع بل رُفع بالعزة والإكرام. فقد ارتحل المسيح من الدنيا بعد قضاء حياته المؤقتة كمسكين، وبالغ اليهود كثيرا في الإساءة إليه، ووجّهوا إلى أمه تُهما باطلة، واعتبروه ملعونا، ورفضوا رفعه كالصادقين ولم يقتصر ذلك على اليهود فقط، بل تورط النصارى أيضا في الفكرة نفسها وابتدعوا بوقاحة شديدة حيلة لنجاتهم المزعومة؛ أن يعتبروا الصادق ملعونا. ولم يفكروا أنه إذا كانت النجاة مقتصرة على كون المسيح ملعونا، وإذ كانت لا تُنال إلا بجعل صادق طيب السيرة، ومحبوب عند الله معلونا، فتبا لهذه النجاة، بل إن جهنم أفضل منها بألف مرة.
قصارى القول: إن كلتا الفئتين اليهود والنصارى، جوزوا بحق المسيح ألقابا مسيئة، فلم تُرد غيرة الله أن تترك كرامة هذا المقدس دون شهادة تثبتها. فبعث الله تعالى - كما وعد في الإنجيل من قبل - سيدنا ومولانا خاتم المرسلين وشهد في القرآن الكريم على قداسة المسيح ورفعه.

لقد وردت كلمة: "الرفع" في عدة أماكن في القرآن الكريم؛ منها قوله في قصة بلعام: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ، ومنها قوله عن نبي لم يحقق أي نجاح: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ..
الأنبياء منتصرون حتما، ويحققون كل نجاح، ولكن المسيح الموعود العليا يشير هنا إلى ما يقوله الآخرون الذين ينسبون إلى الأنبياء الفشل. (المترجم)
 الحقيقة أن الناس رفضوا رفع هذا النبي (إدريس ) أيضا. كذلك أُريدت إهانتي أنا أيضا مثل المسيح، فمن خصومي من يكفّرني، ومنهم من يسمِّيني ملحدا ومنهم من يعدُّني عديم الإيمان، حتى إن الفقهاء والمشايخ مستعدون ليعلقوني على الصليب كما كتب ميان عبد الحق في إعلانه المنشور بأن من واجب المسلمين أن يُعملوا أيديهم أيضا في قضية هذا الشخص. ولكن هذه الحكومة تراعي البريء أكثر من بيلاطس، ولا تخشى الرعية مثله. غير أن قومنا هؤلاء لم يدخروا جهدا لإهانتي لتتحقق المماثلة من كلتا الجهتين. فقد تلقوا أيضا "إلهامات" عني تقول إنه من أهل جهنم ويدخل جهنم في نهاية المطاف، ولن يكون من الذين يُرفعون إلى الله بالعزة والإكرام. فاليوم فهمتُ معنى الإلهام الذي ورد في "البراهين الأحمدية" منذ عدة أعوام ونصه : يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة أي أن هذين الشيخين؛ عبد الرحمن وعبد الحق، يؤكدان حاليا على أني من أهل جهنم. ولكن الله قد وعدني قبل إدلائهما بهذا البيان بعشر سنوات بأنني من أهل الجنة. وكما زعم اليهود أن المسيح عيسى ملعون - والعياذ بالله - ولن يُرفع بالعزة والإكرام فنزلت الآية: إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ للرد عليهم، كذلك، ولعلمه الأزلي؛ ألقى الله هذا الإلهام على قلبي أيضا نبوءةً سلفا. ولما كان الله يعلم أن ميان عبد الحق وعبد الرحمن سيعتبرانني بعد بضع سنوات ملعونا كما اعتبر اليهود المسيح، فقدر أن تسجل هذه النبوءة في "البراهين الأحمدية" قبل الأوان ويجعلها معروفة في العالم كله حتى تظهر قدرته وحكمته، ولكي يُعلم أنه كما اعتبر الشيوخ اليهود المسيح ملعونا في عهده وأنكروا أنه من أهل الجنة ولم يقبلوا رفعه إلى الله بالعزة والإكرام وانضمامه إلى جماعة الصادقين، كذلك أراد المشايخ من أهل ديني أيضا أن يحرموا هذا العبد الضعيف من رحمة الله. والمعلوم أن المؤمنين المذنبين أيضا يحظون بشيء من الاحترام ولكن هؤلاء القوم لم يبالوا بذلك أيضا بحقي أنا العبد الضعيف بل ألقوا بهذا الصدد خطابات عامة وبعثوا رسائل ونشروا إعلانات، فقد استخدمهم الله تعالى لتحقيق المماثلة، وإلا فإن حقيقة كون المرء من أهل الجنة أو النار يعلمها كل امرئ بعد موته حين يقول البعض بحسرات وهم في جهنم: مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَار.
"يا أيها الزاهد الورع؛ لا تذكر عيوبنا نحن المخطئين، فلا تدري ما هو الجيد وما هو السيئ وراء الحجاب
ترجمة بيت فارسي (المترجم)
فحاصل الكلام أن كلمة "الرفع" التي وردت في القرآن الكريم هي الكلمة نفسها التي استخدمها وكل بحقي أنا العبد الضعيف أيضا في الإلهام.




ولو أثار أحد إشكالية أن المسيح يقول في الإنجيل إنه سيموت حتما
وسيقوم في اليوم الثالث، فكيف إذًا ينسجم الكلام المذكور آنفا مع کلامه هذا ؟

فجوابه أنه ليس المراد من هذا الموت موت حقيقي، بل المراد هو موت مجازي. ومثل هذا هناك تعبير شائع؛ حيث يقال عمن ينجو من الموت المحتوم: إنه أحيي من جديد، والبلية التي حلّت بالمسيح - إذ علّق على الصليب ودقت في أطرافه المسامير التي أدت إلى إغمائه لم تكن أقل من الموت قط. ويقال بوجه عام عن الذي ينجو من الموت المحتوم بأنه نال الحياة من جديد، ولو قال هو بنفسه إنه أحيى أو نال الحياة من جديد، لما اعتبر كلامه كذبا أو مبالغة. 


وإذا طُرح سؤال: أي قرينة في كلام المسيح تدل على أن المراد من الموت ليس الموت الحقيقي؟ فجوابه أن المسيح بنفسه أقام هذه القرينة حين جاءه الشيوخ والكتبة والفريسيون وقالوا بأنك تدعي أنك المسيح، ولكن أنى لنا أن نؤمن بذلك دون أن نرى منك آية؟ فَأَجابَ وَقَالَ لَهُمْ: حِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةٌ، وَلَا تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلَّا آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ.
أي أنهم يُعطون آيةً كآية يونان النبي؛ فكما أنه بقي في بطن الحوت حيا لثلاثة أيام ولم يمت كذلك سيبقى المسيح أيضا حيا في القبر لثلاثة أيام – قدرها الله تعالى- ولن يموت.
فيجب التأمل هنا أنه لو حملت كلمات المسيح محمل الموت الحقيقي لبطلت آية مماثلته مع يونان النبي؛ لأنه بقي في بطن الحوت حيا غير ميت. ولكن لو كان المسيح قد مات، وأُدخل القبر ميتا، فما هو وجه الشبه بين حادثه وحادث يونان النبي؟ وأية مماثلة بين الأحياء والأموات؟ فيكفي قرينةً قول المسيح - إنه سيموت لثلاثة أيام - على أن كلامه ليس محمولا على الحقيقة،
بل المراد منه هو الموت المجازي، أي حالة الإغماء الشديد.

وإذا قُدّم عذر أن المسيح قال أيضا حين علّق على الصليب، بأني سأدخل الجنة اليوم، فمن قوله هذا يتبين موته بجلاء.
فليكن واضحا في الجواب أن المسيح كان قد وعد بدخول الجنة والرفع إلى الله، ولكن هذا الوعد كان مؤجّلا لوقت آخر لم يُكشف للمسيح كما ورد في القرآن الكريم : إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ. فقد ظن المسيح في ذلك الوقت العصيب لعل هذا الوعد سيتحقق في اليوم نفسه. كان المسيح بشرا ورأى أن جميع أسباب موته متوفرة، فظن نظرا إلى الأسباب البادية للعيان أنه قد يموت في اليوم نفسه. أي قد تغلّب عليه ضعف البشرية نتيجة هيبة التجلّي الجلالي نظرا إلى الظروف المحيطة به، فدعا مكتئبا إيلي إيلي لما شبقتني؟ أي لماذا تركتني يا ربي؟ ولماذا ما وفيت بوعدك الذي وعدتني به بأني لن أموت، بل يكون حالي مثل حال النبي يونس؟
وإذا قيل: لماذا شك المسيح في وعد العصمة؟ قلتُ: إن ذلك كان ناتجا عن مقتضى البشرية، إذ لا تقوم للبشرية قائمة أمام التجلي الجلالي. إن الله تعالى يُري جميع الأنبياء أياما كهذه، فأولا يبشر نبيّه بوعد البشارة، وعندما يفرح النبي بذلك يضع في سبيل تحققها - على سبيل الابتلاء - عراقيل من كل الجوانب والنواحي تبعث على اليأس والخيبة على وجه اليقين والقطعية؛ فقد بشر الله تعالى سيدنا ومولانا النبي بالفتح والانتصار في معركة بدر، ومن جانب ثان؛ حين اندلعت الحرب عُلم أن الخصوم يملكون جمعا لا يترك مجالا للأمل في الانتصار نظرا إلى الظروف السائدة. عندها دعا النبي في حضرة الله متضرعا في كرب شديد وقلق متزايد أن يرزق الله هذه الفئة فتحا وانتصارا، وقال: اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكَ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ. ولكن هذه الكلمات لا تدل على أن النبي خالجه نوع من الشك في صدق النبوءة بل كانت نظرته إلى أن الله غني، والظروف مخالفة للمرام، وكان هيابًا لهيبة جلال الله تعالى. والحق أنه كلما قيل للنبي في القرآن الكريم بألا يكون من الممترين تجاه وعود الله، كان ذلك في ظروف تهدد بالخيبة بكل شدة، وكانت الأسباب المعادية ظهرت بصورة مرعبة تترك كل شخص في حيرة من أمره بمقتضى ضعفه البشري. فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه المواقف بغية طمأنته: إن عليك ألا ترتاب بمقتضى البشرية في أمر تحققها وإن بدت الظروف جد حرجة في الظاهر، ولا تظننّ أنه قد يكون للنبوءة معنى آخر.
إن مؤلف هذا الكتاب صاحب تجربة في هذا المجال. لقد كشف الله تعالى علي قبل ثلاثة أعوام تقريبا - بناء على بعض الأمور التي ذكرتها مفصلا في إعلان نشر بتاريخ ۱۰ تموز/يوليو ۱۸۸۸م - نبوءة أن البنت الكبرى للميرزا أحمد بيك بن الميرزا غامان بيك سترتبط بك بالزواج في نهاية المطاف، وأن الناس سيعادون ذلك كثيرا وسيمانعون بشدة وسيبذلون قصارى جهودهم يتم ذلك ولكنه سيتم في نهاية المطاف. وقال بل أيضا إنه سيأتي بها إليك في كل الأحوال، بكرا أو ثيبا، وسيرفع كل عائق في هذا السبيل وسيتم هذا الأمر حتما ولا راد له.

لقد بينت هذه النبوءة بالتفصيل مع ذكر ميعادها وموعدها المحدد ومستلزماتها التي جعلتها فوق قدرة الإنسان، وذلك في الإعلان المنشور في ۱۰ - ۱۸۸۸-۷م، والذي شهد عليه بعض من المنصفين الهندوس أيضا، وقالوا بأنه لو تحققت هذه النبوءة، لكان ذلك فعل الله دون أدنى شك. لقد كانت هذه النبوءة بحق قوم بلغوا من المعاداة الغاية وكأنهم سلّوا سيوف الحقد والعناد. وكل من يعرف عن أحوالهم شيئا سيُدرك عظمة النبوءة جيدا. لم أكتب هنا تفاصيل النبوءة حتى لا تُجرح مشاعر أحدٍ من المعنيين. ولكن الذي سيقرأ الإعلان المشار إليه لا بد له من الاعتراف مهما كان متعصبا ومتعنتا أن مضمونها يفوق قدرة البشر. وسيجد أيضا في الإعلان نفسه جوابا كاملا ومفحما على تساؤلات مثل: لماذا أنبأ الله تعالى بهذه النبوءة أصلا؟ وماذا تضم في طياتها من الحكم؟ وكيف وبأي دليل تفوق قدرات البشر؟ ما أنوي قوله هنا هو أنه بعدما أُطلعت على هذه النبوءة، ولم تكن قد تحققت بعد كما لم تتحقق إلى اليوم الموافق ١٦ -٤ - ١٨٩١م - أُصبتُ بمرض شديد حتى أشرفتُ على الموت، بل كتبتُ الوصية أيضا نظرا إلى الموت الوشيك. عندها مثلت هذه النبوءة أمام عيني وبدا لي أنه النفس الأخير وأن جنازتي ستُشيّع غدا عندها فكرتُ في نفسي في تلك النبوءة أنه قد يكون لها معنى آخر لم أفهمه. ففي هذه الحالة الموشكة على الموت تلقيتُ إلهاما نصه: "الحق من ربك فلا تكونن من الممترين عندها كشف علي سر قول الله تعالى في القرآن الكريم لرسوله : فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ففهمتُ أَن هذه الآية تُعنى بمواقف حرجة كهذا الذي أواجهه الآن من الضيق واليأس. وتيقنت أنه كلما واجه نبي من الأنبياء موقفا كهذا الذي أواجهه حاليا، وهبه الله يقينا متجددا قائلا: لم ترتاب في الأمر، ولماذا جعلتك البلية يائسا؟ فلا تكونن من الممترين.

السؤال ٥ : لم يفسّر أحد من السلف والخلف نزول ابن مريم في الأحاديث - التي يُفهم منها أنه المسيح عيسى ظاهريا – بأن "ابن مريم" يراد منه غير ابن مريم الحقيقي بل مثيله. وبالإضافة إلى ذلك هناك إجماع على حمل النصوص على ظاهرها ولا يجوز صرفها إلى باطنها دون قرائن قوية. 
أما الجواب فليتضح أن الأمر كان قضية إيمان عند السلف والخلف فآمنوا بالنبوءة إجمالا، ولم يدعوا قط أنهم وصلوا إلى كنهها، ولم يقولوا إن المراد من ابن مريم هو عيسى بن مريم حقيقةً. لو قاموا بادعاء كهذا، لما اعتقدوا بموت الدجال، ولما سكتوا على آيات القرآن الكريم التي تتناول ذكر موت المسيح معتبرين إياها خارجة عن موضوع النقاش. ولو افترضنا جدلا أن أحدا من الصحابة حسب أن المراد من ابن مريم هو عيسى بن مريم نفسه، لما حدث أي خلل، فقد صدرت أحيانا أخطاء من الأنبياء أيضا في فهم النبوءات قبل تحققها، فلا غرابة إذا أخطأ صحابي في ذلك. إن فراسة رسولنا وفهمه، أكثر من فراسة كافة أفراد الأمة وفهمها مجتمعة . ولولا أن يغضب إخواننا المسلمون بسرعة، فإن مسلكي الذي أستطيع إثباته بالحجة هو أن فراسة جميع الأنبياء وفهمهم لا يساوي فراسة النبي الأكرم. ومع ذلك اعترف بنفسه أنه أخطأ في فهم حقيقة بعض النبوءات. لقد ذكرتُ بضع مرات من قبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزوجاته بوضوح : أَسْرَعُكُنَّ لَحَاقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا، فبدأن بحضوره - يَتَطَاوَلْنَ أَيْتُهُنَّ أَطْوَلُ يَدًا. ولما لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا يعرف حقيقة النبوءة حينها، فلم يمنعهن من ذلك، ولم يقل بأنكُن مخطئات في ذلك، حتى سُدّد الخطأ عند تحقق النبوءة. ولو أمهل الله تعالى أمهات المؤمنين وبقين كلهن على قيد الحياة إلى عصرنا هذا لكان واردا تماما أن تبقى الأمة مجمعةً منذ عهد الصحابة إلى العصر الراهن على أن أطولهن يدا ستموت قبل غيرها. وكم كان هذا الإجماع سيكون مدعاة للخجل والندم إن ماتت من ليست أطولهن يدا عند تحقق النبوءة، وإلى أي مدى كانوا سيعرضون النبي صلى الله عليه وسلم للإساءة بغير حق، ويعرضون إيمانهم للشبهات!
وبالمناسبة، تذكرت قول أحد الأصدقاء، وكان اسمه المرحوم
" الحافظ هدايت علي - تغمده الله بواسع رحمته - وقد شغل فيما سبق منصب نائب المفوض في محافظة غورداسبور، ورئيس المديرية في بتالة إلى فترة طويلة، اذ قال في أحد الاجتماعات: إن الأمور التي وعد بظهورها في الزمن الأخير والنبوءات التي أنبئ بها، ينبغي ألا نعتقد أنها ستتحقق بمعناها الحرفي حتما، وذلك حتى لا نتعثّر ولكي يسلم إيماننا لو ظهرت حقيقتها بطريقة أخرى في المستقبل. وأضاف قائلاً: لعلنا قد ولدنا في الزمن الذي قيل عنه قبل ١٣٠٠ عام - أو أقل من ذلك بقليل - إنه الزمن الأخير ؛ فلا غرابة لو تحققت بعض تلك النبوءات في حياتنا. فعلينا أن نتمسك بمبدأ الإيمان الإجمالي بقوة، وينبغي أن لا نركّز على شق معين كتركيزنا عندما نصل إلى كنه حقيقة ما. تم كلامه. وهذا هو الحق والصدق الجلي، أن لا علاقة لإجماع الأمة بأمور النبوءات، وإن المشايخ المعاصرين مخدوعون جدا إذ يريدون أن يجروا إلى قبضة الإجماع تلك النبوءاتِ أيضا التي لا تزال في حُجب الغيب.

 الحق أن مثل الأنباء كمثل امرأة حامل فيمكننا مثلا أن نقول إن في أحشائها جنينا حتما، وأنه سيولد أيضا في غضون تسعة أشهر وعشرة أيام، ولكن لا يمكننا الجزم على وجه الدقة بشكله أو حالة جسمه أو ملامح وجهه، أو إن كان ذكرا أم أنثى.

وهنا قد يخالج قلب أحد اعتراض أنه لو كان هذا هو حال النبوءات، لما كانت جديرة بالاعتبار، ولما كانت جديرة بأن تُعد دليلا على صدق نبي أو جديرة بأن تقدم شهادةً أمام معارض ومنكر.
فجوابه أن النبوءات تتحقق أحيانا بصورة ظاهرية، وفي بعض الأحيان بصورة باطنية، وهذا لا يحط من شأن النبوءات الإلهية شيئا، بل تزداد عظمةً في عيون أصحاب النظرة الدقيقة. فمثلا: لو فهم ذو فهم بليد قول فيلسوف على عكس الحقيقة، ثم تبينت بعد ذلك معانيه المعقولة والمتحققة والثابتة، فهل يحط خطأ الغبي من شأن المعنى الصحيح شيئا؟ كلا.
إضافة إلى ذلك يبقى قاسم مشترك ملحوظا في الأنباء في كل الأحوال، بحيث لو حملت على ظواهر كلماتها أو ظهرت لها معانٍ مجازية في نهاية المطاف، فإن ذلك القاسم المشترك يُبيّن بالبداهة أن النبوءة صادقة في الحقيقة وتفوق قدرات البشر.
إضافة إلى ذلك فالنبوءات التي تُقدَّم أمام الخصوم تحديا تضم في طياتها لمعانا خاصا وبداهة، ويتوجه الملهمون إلى الله تعالى بوجه خاص فتكشف عليهم حقيقتها أكثر. ومع ذلك تكون معظم زواياها خافية كما جرت العادة. فمن الجهل والتعنت الظنُّ أن النبوءات تُحمّل على ظواهرها في كل الأحوال. كل من قرأ كتب اليهود والنصارى يعلم جيدا كم استخدمت من الاستعارات في النبوءات الواردة فيها بحيث قد ذُكر في بعض الأماكن فيها يومٌ وأُريدَ منه سنة. الحق أن النبوءات تكون من قبيل الكشوف وتصدر من النبع الذي يتدفق بالاستعارات. تأملوا في رؤاكم هل ترون رؤيا واضحة تمام الوضوح إلا فيما شذ وندر. كذلك يُظهر الله الكشوف أيضا بواسطة أنبيائه مزينة بخلعة الاستعارات. وإن تسمية قبول هذه الحقيقة إلحادًا هو إلحاد في حد ذاته، لأن الإلحاد ليس إلا صرف المعنى عن حقيقته. فما دام قانون الله في الطبيعة قد وضع للكشوف والرؤى الصالحة مبدءا بأن تغلب عليها الاستعارات في معظم الحالات فإن صرفها عن هذا المبدأ والادعاء أن النبوءات تُحمل على ظاهرها دائما ليس إلا الإلحاد بعينه. إن اعتبار النبوءة حقيقة مكشوفة مثل أحكام الصوم والصلاة خطأ فادح وخديعة كبرى. لقد شرح لنا النبي هذه الأحكام بعمله وأماط اللثام عنها كليا. ولكن هل قال بحق الأنباء أيضا بأنها مكشوفة من كل الوجوه، ولا توجد فيها حقيقة أو كيفية مكنونة تفهم عند تحققها؟ إذا كان هناك حديث بهذا المعنى ، فلماذا لا تقدمونه؟ 
لستم أكثر فراسة وعلما من النبي ، و اقرأوا صحيح البخاري تجدوا أن ، النبي أري صورة عائشة رضي الله عنها على قطعة حرير على أنها ستكون زوجه، ولكنه لم يدع أبدا أن المراد منها هو عائشة في الحقيقة، بل قال إنه إذا كان المراد من صورة عائشة هو عائشة حقيقةً، فلسوف أنالها، وإلا يمكن أن يكون المراد منها امرأة أخرى. وقال أيضا إنه أعطي عنقودا من عنب الجنة لأبي جهل، ثم ثبت أن مصداق هذه النبوءة هو ابنه عكرمة. فلم يصرح شيئا قط بشأن جزء معين من أجزاء نبوءة ما لم يكشف الله عليه جميع جوانبها بوضوح.
تعرفون جيدا أنه حين شارط أبو بكر الصديق أبا جهل، وجعل مدار الشرط في نبوءة القرآن الكريم: ا ل م * غُلِبَتِ الرُّومُ غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ . مدة ثلاثة أعوام لتحققها؛ غير النبي بفراسته في الشرط بعض الشيء فورا نظرا إلى طبيعة النبوءة، وقال لأبي بكر : إن عبارة بضع سنين مجملة، وتطلق في معظم الأحيان على مدة تمتد إلى تسع سنين.
كذلك ذكر النبي لإفهام الأمة، أنه قد صدر منه أيضا خطأ أحيانا في
فهم بعض النبوءات.
كالنبأ عن الهجرة؛ حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: رأيتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضِ بِهَا نَخلٌ فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةَ أَوْ هَجَرُ فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ (البخاري، كتاب المناقب، باب النبوة في الإسلام، ففي هذا الحديث ذكر النبي أنه قد صدر منه خطأ في فهم النبوءة. وهناك أمثلة أخرى تطرق إليها المسيح الموعود في هذا الكتاب. (المترجم)

 ألا يكفي الآن تعليم النبي هذا؟ ألا يعلن هذا التعليم بأعلى صوته أن آمنوا بالنبوءات إجمالا وفوضوا حقيقتها إلى الله ولا تفرقوا الأمة واسلكوا سبيل التقوى؟
يا أيها الناس، فكّروا في الأمر جالسين في بيوتكم فُرادى، وتدبروا في كلامي  ببساطة وأنتم في أسرتكم، اذهبوا إلى المقابر، واطلبوا لأنفسكم نظرة غير ضبابية ذاكرين موتكم، وتأملوا جيدا؛ ما هو طريق التقوى؟ وما هي سبل الحذر وخشية الله؟ وإن كان تشابه عليكم ما قدَّمتُه لكم، فأي ضير في أن تبقوا قائمين على إيمانكم إجمالا ولا تتدخلوا في تفاصيله الخفية وتفوضوا أمري إلى الله؟ لا أكره أحدا على شيء، إن هو إلا تبليغ، سواء أأصغى إليه أحد أم لم يُصغِ. فلو رزق الله أحدا يقينا وعرفني وآمن بكلامي، فهو أخي بوجه خاص، وله الأجر على إيمانه دون شك. ففكروا في أنفسكم؛ أي ضير عليكم وأية مؤاخذة يمكن أن تتعرضوا لها عند الله لو فوَّضتم - على الأقل – الدقائق الخفية لهذه النبوءة إلى الله وتوقفتم على حدود الإيمان فقط وما ادعيتم المعرفة الكاملة دون مبرر؟ هل ستؤاخذون لو فعلتم ذلك؟ ولكن لو تجاوزتم حدود الإيمان وادعيتم ما لم تُعطَوا من علمه شيئا، لسُئلتم حتما عن هذا التدخل غير المبرر.

 يا أيها المشايخ الكرام، لماذا تلقون الناس في الابتلاء؟ ولماذا تدعون أكثر مما تعلمون؟ حتى لو لم تكن هناك قرينة مضادة في حديث عن نزول ابن مريم، بل كشف عليكم مسلم المعنى بإلهامه فقط، وقال إن المراد من ابن مريم هنا ليس عيسى بن مريم في الحقيقة لما كان لكم حق بأن تدّعوا وتقولوا مقابله بأن المراد من ابن مريم هو ابن مريم الحقيقي، لأن الاستعارات هي السمة الغالبة في الكشوف، وإن الإلهام من الله يفيد قرينة قوية لصرفها عن الحقيقة، وأنتم مأمورون بحسن الظن.
أما هنا ، فلا يقتصر الأمر على الإلهام فقط بل هناك قرائن قوية أخرى أيضا . ألا يكفيكم قرينةً أن الله تعالى قد بيّن في عدة آيات موت المسيح، ولم يذكر كونه حيًّا أو رفعه إلى السماء حيًّا ولو بإشارة خفيفة؟ أولا يكفيكم قرينةً أن النبي ذكر ملامح ابن مريم الآتي مختلفة عن الراحل؟ أولا يكفيكم قرينةً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بأن المسيح الآتي سيكون فردا من الأمة، ورآه يطوف بالكعبة؟

 أما العذر بأن هناك إجماعا على حمل النصوص على ظواهرها أي أن تؤخذ من القرآن والأحاديث معانٍ ظاهرية، فليتضح في جوابه أنه عذر تتم به حجتنا على خصومنا في الحقيقة، لأنهم هم الذين اختاروا طريقا غير سليم إذ يصرفون نصوص كلام الله البينة إلى الباطن دون قرينة. لقد استخدم القرآن الكريم فعل "التوفّي" في ۲٥ موضعا بمعنى قبض الروح، وبين في كل موضع أن معنى "التوفي" هو قبض الروح وترك الجسد على حاله. لكن هؤلاء القوم - هداهم الله -يقبلون هذا المعنى المذكور في ۲۳ موضعا، أما في الموضعين المتنازع فيهما حيث ذكر موت المسيح، فينحتون معاني أخرى من عند أنفسهم.


والآن يجب الانتباه جيدا، أنحن من أعرض عن ظواهر النصوص أم هؤلاء القوم؟ صحيح أن المراد من كلمة نزول "ابن مريم" الواردة في الأحاديث ليس ابن مريم الحقيقي رأينا ولكن هذا لا يستلزم أننا صرفنا النص من الظاهر إلى الباطن بل اضطررنا لقبول هذه الاستعارة - بغض النظر عن إلهام الله - لأن نصوص القرآن البيّنة والأحاديث الصحيحة تحول دون حملها على الحقيقة، ولقد بينا الأدلة الصريحة بهذا الصدد مرارا، فحتّامَ نكرر الكلام نفسه؟ 



السؤال ٦: ما وُجدت كلمة "مثيل" مع ذكر المسيح الموعود في الأحاديث، أي لم يرد في أي مكان أنه سيأتي مثيل المسيح ابن مريم، بل ورد أنه سيأتي المسيح ابن مريم. أما الجواب: يجب التأمل في أنه ما دام الله تعالى قد أطلق على المثيل المقبل ابن مريم" نفسه فما حاجته ليذكره كمثيل ابن مريم؟ فكروا أيضا أن الذين يسمون أولادهم "موسى"، و"داود" و "عيسى" وغيرهم، يتمنون طبعا أن يصبح أولادهم أمثال هؤلاء الأنبياء في البر والخير والبركة، ولكنهم مع ذلك لا ينادون أولادهم قائلين: يا مثيل موسی، یا مثیل داود، يا مثيل عيسى، بل ينادونهم بأسماء حقيقية على سبيل التفاؤل. ألا يمكن أن يفعل الله القادر على كل شيء ما يفعله الإنسان تفاؤلا ؟ أليس الله قادرا على أن يجعل حالة روحانية لأحدٍ شبيهة بحالة شخص آخر ويُطلق عليه نفس الاسم؟ ألم يسم الله يحيى من قبل باسم إيليا بناء على المماثلة بينهما في الحالة الروحانية؟ ألم يُطلق في التوراة في سفر التكوين الإصحاح ٤٩ اسم "شيلون" على المسيح ابن مريم بناء على المماثلة الروحانية بينهما، بينما كان "شيلون" اسم حفيد يهوذا بن يعقوب؟ ولقد بُشِّر يهوذا في الإصحاح نفسه بمجيء المسيح ابن مريم بكلمات: "لاَ يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا.... حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُونُ". وما قيل: حتى يأتي ابن مريم.

 ولما كان المسيح ابن مريم بمنزلة حفيد يهوذا لولادته في العائلة نفسها، لذا أُطلق عليه اسم "شيلون". كذلك ورد في التوراة نفسها في التّكوين ٤٨: ١٥-١٦) دعاء يعقوب ،إذ طلب البركة ليوسف ودعا لأبنائه قائلا: "اللَّهُ الَّذِي سَارَ أَمَامَهُ أَبَوَايَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْحَاقُ، اللَّهُ الَّذِي رَعَانِي مُنْذُ وُجُودِي إِلَى هَذَا الْيَوْمِ، الْمَلَاكُ الَّذِي خلَّصَنِي مِنْ كُلِّ شَرّ، يُبَارِكُ الْغُلاَمَيْنِ. وَلْيُدْعَ عَلَيْهِمَا اسْمِي وَاسْمُ أَبَوَيَّ إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْحَاق".

 فلا يمكن إنكار سنة الله القديمة أنه يُطلق اسم شخص على آخر بناء على المماثلة الروحانية بينهما. فالذي يحمل صفات إبراهيم هو إبراهيم عند الله، الله، والذي يحمل صفات موسى فهو موسى عند الله، والذي يتحلى بصفات عيسى فهو عيسى في نظر الله، أما الذي نال نصيبا من كل هذه الصفات فهو مصداق لكل تلك الأسماء. أما إن كان هناك أمر جدير بالنقاش فهو:

لماذا يُصرف اسم " ابن "مريم" عن معناه الظاهري والمتبادر إلى الذهن بوجه عام؟
وجوابه أن ذلك يعود إلى مقتضى القرينة القوية، لأن القرآن الكريم
والأحاديث النبوية تدل بصراحة تامة أن المسيح ابن مريم مات ورفع إلى الله وانضم إلى إخوته. وقد رآه نبي آخر الزمان صلى الله عليه وسلم ليلة معراجه مع النبي الشهيد يحيى في السماء الثانية، أي وجده مع جماعة الذين خلوا وماتوا. إن القرآن لكريم والأحاديث الصحيحة تُعطي أملا وبشارة بالتواتر أنه سيأتي مثيل ابن مريم وأمثال آخرون أيضا. ولكن لم يُذكر في أي مكان أن نبيا سابقا قد مات من قبل سيعود إلى الدنيا ثانية. فمن الثابت المتحقق بالبداهة أنه ليس المراد من ابن مريم ذلك النبي ابن مريم رسول الله نفسه الذي مات من قبل وانضم إلى جماعة الأموات.
انظروا إلى حكمة الله العجيبة أنه قد سماني أنا العبد الضعيف "عيسى" قبل عشر سنوات تقريبا، وبفضله وتوفيقه الخاص قدّر أن يُنشر ذلك الاسم في "البراهين الأحمدية" ويُذاع في العالم.
أما الآن، فقد أعلن عز وجل بعد مدة مديدة بإلهامه الخاص؛ أن هذا هو عيسى نفسه الذي وعد بمجيئه. لقد ظل الناس يقرؤون هذا الاسم في "البراهين الأحمدية" إلى عشر سنوات متتالية. ولقد أبقى الله تعالى الإلهام الثاني الذي كان شرحا للإلهام الأول في طي الكتمان إلى عشر سنوات حتى تثبت أعماله الحكيمة منزهة من التصنّع في نظر المتدبرين، لأن سلسلة التصنع التي يُخطط لها مسبقا لا تطول هكذا. فتدبروا يا أولي الأبصار.




السؤال 7 : لقد قلت إنه من الممكن أن يأتي أكثر من مثيل المسيح، فهل المراد من ذلك أن الموعود هو شخص واحد فقط وهو أنت، أو سيكون الجميع موعودين؟ وبأي منهم نؤمن بكونهم موعودين صادقين؟
أما الجواب: فليتضح أن المسيح الموعود الذي وجب مجيئه بحسب الإنجيل والأحاديث الصحيحة قد جاء على وقته وبآياته، وقد تحقق اليوم ذلك الوعد الذي جاء في نبوءات الله المقدسة من قبل. أما إذا راود أحدا شك أن كيفية نزول هذا المسيح الذي قد نزل لا تبدو منسجمة ظاهريا مع ما جاء في بعض الأحاديث مثل حديث مسلم ورد فيه ذكر دمشق، فجوابه الأول هو أنها كلها استعارات، والاستعارات هي السمة الغالبة في الكشوف بحيث يُذكر بالكلمات شيء ويراد منه شيء آخر. فمن الخديعة الكبرى والخطأ الفادح أن يحاول المرء حملها على ظاهرها، أو يتردد ويحتار فيقول: لماذا لا تتحقق تلك العلامات ظاهريا؟
أليس صحيحا أن خصومنا أيضا قد اضطروا في معظم الأماكن لتأويل هذه الأحاديث عند شرحها، فأولوها بكثير من التكلف؟ ففي مهمة جليلة الشأن للمسيح ابن مريم وهي أنه سيقتل الخنزير عند مجيئه إلى الدنيا، يجدر الانتباه إلى أي مدى حاول العلماء في شرح ذلك صرف الألفاظ من الظاهر إلى الباطن ! كذلك إلى أي مدى قاموا بتأويلات بعيدة عن الحقيقة في قضية طواف الدجال بالكعبة! فلو تنحى الفريق الثاني تماما عن التأويلات في هذه المواضع، لكان لهم بعض العذر في اعتبارنا من المؤولين. أما الآن، وقد سلكوا السبيل نفسه فبأي وجه يتهموننا بذلك؟
الحق أنه ما دامت هذه العبارات المبنية على الكشوف زاخرة بالاستعارات، فلا يمكن لأي فريق أن يحملها على الظاهر في كل مكان. فالحديث الذي جاء فيه: "أَطْوَلُكُنَّ يَدًا" يعلن بكل قوة وشدة أنه أن لا ينبغي تركزوا على ظواهر هذه الكشوف، وإلا ستنخدعون، ولكن لا أحد منكم يقبل هديه .
لقد ورد في الأحاديث بكثرة عن عذاب القبر بأنه ستكون في قبور
المذنبين عقارب وأفاع ونار، فإن كنتم تريدون أن تحملوا مثل هذه الأحاديث على ظاهرها في كل الأحوال، فانبشوا بعض هذه القبور وأرونا فيها الأفاعي والعقارب.
إضافة إلى ذلك نقول أيضا بأنه إذا أُريدَ حمل الأحاديث المختلفة التي لا تطابق حالتي في الوقت الراهن فلا ضير في ذلك أيضا، لأنه الممكن أن يحققها الله تعالى في زمن من الأزمان بواسطة تابع كامل لي يهبه الله مرتبة مثيل المسيح. ويُدرك الجميع أن تحقق بعض المهمات على يد الأتباع كتحققها على يد المتبوع، ولا سيما إذا تصبّغ بعض أتباعي بصبغتي تماما سالكين مسلك "الفناء في طاعة الشيخ"، فيهبهم الله تعالى بفضله بصورة ظلية مرتبة وهبنيها. ففي هذه الحالة تُعتبر إنجازاتهم كلها كأنها إنجازاتي أنا دون أدنى شك، لأن الذي يسلك مسلكي ليس منفصلا عني، والذي يحقق أهدافي بكونه منا، فإنه داخل في وجودي أنا. فيكون مشتركا في النبوءة مع المسيح الموعود أيضا، لكونه جزءا مني وغصنا من شجرة وجودي؛ لأنه ليس منفصلا عني. فإذا أُعطي هذا الشخص اسم "مثيل المسيح" بصورة ظلية واشترك في لقب "الموعود" أيضا، فلا ضير في ذلك، لأن الجميع موعودون لكونهم من المسيح الموعود - وإن كان المسيح الموعود واحدا - لأنهم أغصان شجرة واحدة، ومتممون ومُكْملون لهدف موعودٍ وحيد بسبب اتحادهم الروحاني، فتعرفونهم بثمارهم.

اعلموا أن وعود الله تعالى المتعلقة برسله وأنبيائه ومحدثيه تتحقق أحيانا مباشرة دون واسطة وأحيانا أخرى تتحقق بواسطة. إن وعود النصرة والفتوحات التي أُعطيها المسيح ابن مريم لم تتحقق في حياته، بل تحققت بظهور نبي آخر هو سيد الأنبياء أي سيدنا وإمامنا محمد المصطفى خاتم الرسل.
كذلك فيما يتعلق ببشارات فتح كنعان التي أعطيها موسى كليم الله، بل كان عليه السلام حيث كان قد أعطي وعدا بكل وضوح أنه سيأخذ قومه إلى كنعان فيملكون أرض كنعان الخضراء، ولكن هذا الوعد لم يتحقق في حياة موسى، لأنه مات في الطريق، ولكن لا يمكننا القول بأن النبوءة التي لا تزال مسجلة الآن في التوراة كانت ،باطلة، لأن قوة موسى وروحه قد أُعطيها بعد وفاته تلميذه "يوشعُ" فأنجز - بأمر من الله وبنفخه الروح فيه- مهمة موسى بواسطته ومتصبغا بصبغته. فكان يوشع بمنزلة موسى عند الله، لأنه أنجز مهمته من خلاله ، وكان فانيا فناء كاملا في طاعته وحائزا على روحه من تعالى. كذلك هناك نبوءات في التوراة عن سيدنا ومولانا لم يتحقق بعضهارعلى يده مباشرة، بل تحققت بواسطة خلفائه الكرام الذين كانوا فانين في حبه وطاعته . فلا يسع أحدا الإنكار أنه ليس ضروريا أن تتحقق الفتوحات والأمور العظيمة كلها - التي تتعلق بمبعوث من الله وتذكر في حلل النبوءات – على يده هو حتما. بل الحق أن أتباعه المخلصين يُعتبرون مثل جوارحه، فتُنسب أعمالهم وإنجازاتهم كلها إليه. وذلك كمثل قائد الجيش بعدما يأسر العدو أو يقتله في معركة ما بمساعدة الجنود البارعين ومدبري الأمور؛ فإن تلك الإنجازات كلها تُنسب إلى قائد الجيش، ويقال بكل بساطة: إن القائد أسر العدو أو قتله. فما دام هذا الأسلوب شائعا ومعروفا فأي تكلُّف - إذا سلّمنا على سبيل الافتراض أن تحقق بعض النبوءات بصورتها الحرفية، أيضا ضروري - في أن نعترف أيضا إلى جانب ذلك أن هذه النبوءات سوف تتحقق لا محالة، وسيُحققها الله على أيدي أناس ينطبق عليهم حكم وجودي أنا لكونهم فانين في سبل طاعتي الكاملة، ولتلقيهم روحًا سماوية. هذا ما تشير إليه نبوءة سُجِّلت في "البراهين الأحمدية"؛
وهي مبنية على إلهام نصه : يا عيسى إني متوفيك ورافعك
إلي وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة." وتذكروا أيضا المسيح الذي هو من ذريتي أنا العبد الضعيف وسُمِّي ابن مريم أيضا لأني سُمِّيت في "البراهين الأحمدية" باسم "مريم" أيضا. 



السؤال 8 : كان المسيحيون في زمن النبي يعتقدون أن المسيح ابن مريم الحقيقي هو الذي سيعود إلى الدنيا. فإذا لم يكن هذا الاعتقاد صحيحا، فلماذا لم يكذبه الله تعالى في القرآن الكريم، بل وعد في الأحاديث بعودة ابن مريم؟
أما الجواب: فليتضح أن الله تعالى قد كذب هذا الاعتقاد في القرآن الكريم فعلا، إذ بين فيه أن المسيح ابن مريم قدمات حقا، ولم يذكر عودته إلى الحياة قط. والأحاديث أيضا لا تعارض القرآن الكريم في ذلك مطلقا. لن تجدوا حديثا واحدا يذكر رفع المسيح ابن مريم إلى السماء حيا بجسده المادي. إذًا، لم يدخر النبي أيضا جهدا في دحض هذا الاعتقاد، بل أكد على أن المسيح المقبل سيكون من الأمة، وبين ملامح المسيح الأول مختلفة عن ملامح المسيح الثاني، وأكد على موت المسيح ابن مريم. الحق أنه كان في هذا القدر من البيان كفاية، ولكن لما كان الهدف من وراء النبوءات ابتلاء الناس أيضا، وكذلك أن يكون فيها نوع من الخفاء أيضا، فقد أُخفيت فيها بعض الأمور إلى حد ما، لكي يُمتحن الصادقون والكاذبون في وقت مناسب.
وليس صحيحا أيضا القول بأن المسيحيين يعتنقون اعتقادا متّفقا عليه أن المسيح سيعود إلى الدنيا، إذ أن بعض فرقهم تؤمن بموته أيضا. ولا يؤيد إنجيلا متى ويوحنا الحواريين في رفع المسيح إلى السماء في الحقيقة، غير أنه قد ورد ذلك في إنجيلي مرقس ولوقا اللذين ما كانا من الحواريين، ولم يذكرا هذا الأمر برواية أي حواري.




السؤال :۹ ببيانك معنى جديدًا لليلة القدر قد فتحت بابا لمذهب
الطبيعية والباطنية.

أما الجواب: فقد خدع المعترضُ الناس بإثارته هذا الاعتراض. وحقيقة الأمر أن الله تعالى قد كشف عليّ أن معنى ليلة القدر الذي بينه العلماء من قبل صحيح تماما ومسلّم به، وإلى جانب ذلك هناك معنى آخر أيضا بينته، ولا منافاة بينهما قط. والمعلوم أن للقرآن الكريم ظهرا وبطنا، وتكمن فيه مئات المعارف. فإذا بينتُ هذا المعنى لليلة القدر بتفهيم من الله، فكيف ظُنَّ أنني أرفض المعاني المذكورة من قبل. ألا يُسمَّى زمن النبي صلى الله عليه وسلم خير القرون؟ ألم تكن العبادات في ذلك الزمن أكثر ثوابا؟ ألم يكن الملائكة ينزلون في ذلك الزمن لنصرة الدين؟ ألم يكن الروح الأمين ينزل فيه؟ فلا شك أن كافة آثار ليلة القدر وأنوارها وبركاتها كانت موجودة في ذلك الزمن، غير أن نوعا من الظلمة أيضا كان موجودا، فكانت تلك الأنوار والملائكة والروح الأمين وأنواع عدة من النور تنزل لإزالتها . وإضافة إلى ذلك إذا سمي، بإلهام من زمن النبي المقدسُ أيضا ليلة القدر، فأي عيب في ذلك؟ أيجوز تسمية من يسلم بمعنى من معاني القرآن الكريم ملحدا، ثم يبين نقطة دقيقة أخرى اضافة الى ذلك؟ لا شك أن أصحاب هذه الأفكار يعادون القرآن الكريم وينكرون إعجازه. 



السؤال ۱۰ : لقد أنكرت وجود الملائكة وجبريل وقد اعتبرتهم في
"توضيح المرام" قوى الكواكب فقط.

أما الجواب: هذا سوء فهم، والحق أني أؤمن بالملائكة وجبريل تماما كما ورد ذكرهم في القرآن الكريم والأحاديث، ولقد ذكرت في القرآن الكريم الأحاديث الصحيحة علاقات الخدمة الموكلة بالملائكة مع الأجرام السماوية.
كذلك ذُكر في "توضيح المرام" ما كلف به الملائكة من الأعمال بوجه خاص.

"لا تخطى كلام أصحاب القلوب الواسعة، إنك يا صديقي لا تُدرك أسرار الكلام، فهنا يكمن الخطأ"
ترجمة بيت فارسي. (المترجم)



السؤال ١١: لقد ورد في الجزء الأول من الكتاب أي "فتح الإسلام"
أنك ادعيت النبوة.

أما الجواب : ليس ذلك ادّعاء النبوة، وإنما هو ادّعاء المحدثية بأمر من الله  تعالى، ولا شك أن المحدثية أيضا تضم في طياتها شعبة قوية من شعب النبوة. من المعلوم أن الرؤيا الصالحة هي الجزء السادس والأربعين من النبوة، وقد ذكرت المحدثية في القرآن الكريم جنبا إلى جنب مع النبوة والرسالة. وقد ورد بشأنها حديث صحيح أيضا في صحيح البخاري، فإذا اعتبرت - والحال هذه – نبوة مجازية أو شعبة قوية من شعب النبوة، فهل يلزم ذلك ادّعاء النبوة؟ تذكروا قراءة آية القرآن الكريم التي رواها ابن عباس وهي: "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدّث إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يُحكم الله آياته". أين ختم الوحي من الله بعد النبوة الكاملة؟ إذا كان الأمر كذلك فما معنى الآية: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بقَدَرهَا . فيا أيها الغافلون، إن قنوات الوحي جارية في هذه الأمة المرحومة إلى يوم القيامة، ولكن على قدر المراتب.

السؤال ۱۲: في سورة الزخرف آية تقول: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا. والمراد من العلم هنا هو عيسى الذي سينزل قرب القيامة، فمن هذه الآية يثبت نزوله.

أما الجواب: فمن الواضح أن الله تعالى يريد من تقديم هذه الآية أن يُدين منكري القيامة ويقول لهم: لماذا ترتابون في إحياء الموتى بعد رؤيتكم هذه الآية؟ كل عاقل يستطيع أن يفهم بالتدبر في هذه الآية أنه ليست لها أدنى علاقة بنزول عيسى، بل تقول بأن آية إحياء الموتى تلك، ما زالت موجودة الآن أيضا، وتُدين المنكرين وتقول: كيف تشكّون فيها الآن؟ فلكل عاقل أن يفهم الآن أنه إذا كان الله يريد من هذه الآية الإثبات أن عيسى عندما ينزل من السماء يكون نزوله دليلا أو علامة على إحياء الموتى، فكيف يمكن أن يُدينهم الله قبل ظهور هذا الدليل؟ هل يمكن أن تتم الحجة على المنكرين قبل أن يظهر الدليل للعيان وقبل أن يكون له أي أثر، ومع ذلك يقال لهم كيف لا تؤمنون به؟ ألا يصح عذرهم في هذه الحالة أن يقولوا: يا ربنان لم يظهر الدليل أو العلم للساعة الذي بناء عليه يوجه إلينا التهديد المتمثل في: فَلَا تَمْتَرُنَّ بهَا. وهل الطريق لإتمام الحجة في أن يكون الدليل لا يزال في طي الغيب ويُظَنَّ أن الحجة قد تمت؟! إن عزو هذا المعنى إلى القرآن الكريم إنما هو إلصاق وصمة سوداء ببلاغته وبيانه الحكيم؟ صحيح أن البعض قد استنتجوا هذا المعنى، ولكنهم أخطأوا في ذلك خطأ كبيرا. والحق أن الضمير في "إنه" يعود على القرآن الكريم
نفسه، ومعنى الآية هو أن القرآن آية على إحياء الموتى، لأن القلوب الميتة تحيا بواسطته، ويخرج الأموات العفنة من القبور وتدب الحياة في العظام الرميمة.
وذلك مثل قول الله جل شأنه عن القرآن الكريم بأنه نموذج للقيامة : وَأَنْزَلْنَا منَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا
 وكذلك قوله تعالى: وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ)

ق: ١٢ . "إلى هنا ينتهي الجزء الأول من كتاب إزالة الأوهام، مع أن السؤال الثاني عشر لم ينته جوابه، ولعل ذلك يرجع إلى ظروف الطباعة في تلك الأيام. (المترجم)


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الزمان يدعو مصلحا سماويا:

الزمان يدعو مصلحا سماويا: الزمان يدعو مصلحا سماويا: الزمان يدعو مصلحا سماويا: وفيما يتعلق بكون القرآن غير مبدل وغير محرف فنؤمن نحن الأحمديين بذلك إيمانا أقوى من غيرنا. أما قولهم بأنه لا حاجة إلى مصلح إطلاقا بسبب كون القرآن غير مبدّل فهذا ما يرفضه القرآن بنفسه رفضا باتا. يقول الله : وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ  مَهْجُورًا . (الفرقان: ۳۱)  كم هي  أليمة الشكوى التي يرفعها النبي الى الله تعالى عن  الذين  يأتون في أمته لاحقا إذ يقول: يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا.   كم هي موجعة هذه الشكوى التي يشكوها النبي من قومه!  والمعلوم قطعا من هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه الذي هو سيد البشر وأفضل الأنبياء يشكوا إلى الله ولا فيما يتعلق بهذا الكتاب الكامل. ما المراد من هذه الآية، وكيف سيهجر الناسُ القرآن الكريم؟  يوضح  النبي  هذا الأمر أيضا بنفسه فيقول: يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه . "  (مشكاة المصابيح كتاب العلم الفصل الثالث، ورواه البيهقي في شعب الإيمان، وكنز العمال ج ۱۱ باب تتمة الفتن من
لا بد من التقوى من أجل الفتح: وما دام الأمر هكذا، فاعلموا أن التقوى ضرورية للمرء لكي تنفتح عليه أبواب الحقائق والمعارف فاتقوا الله ، لأن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل (۱۲۹) . ولا أستطيع أن أحصي لكم كم مرة تلقيت هذه الآية في الوحي، إذ أوحيت إلي مرات كثيرة جدا. لو أننا اكتفينا بالأقوال دون الأفعال، فاعلموا أن لا جدوى من ذلك. إن النصر  يتطلب التقوى، فكونوا متقين إن أردتم النصر. ضرورة التضحيات المالية لنشر الإسلام أرى أن نساء الهندوس والنصارى أيضا يوصين بعقارات كبيرة وأموال طائلة لنشر  دعوتهم، ولكن لا نجد نظير ذلك في المسلمين في هذه الأيام. إن أكبر مشكلتنا  هي  الحاجة إلى النصرة المالية لنشر الإسلام. اعلموا أن الله  تعالى هو الذي أراد تأسيس هذه الجماعة بيده وسوف يكون حاميها وناصرها، ولكنه يريد أن يؤتي عباده الأجر والثواب، ومن أجل ذلك قد اضطر الأنبياء لطلب المساعدة المالية. لقد طلب رسول الله النصرة المالية ، وعلى نفس المنهاج ، الذي هو منهاج النبوة، نذكر أحبابنا بحاجات الجماعة من حين لآخر. ومع ذلك أقول: إننا مهما جمعنا من الأموا