التخطي إلى المحتوى الرئيسي

 الفساد، سواء في العقائد أو الأعمال. وكما أن جسد الإنسان لا يكون في حالة الصلاحية إلا إذا كانت جميع في حد الاعتدال، دون نقص أو زيادة، إذ لو تجاوز شيء منها حد الاعتدال مرِضَ الجسدُ ، كذلك فإن صلاح روح الإنسان أيضا متوقف على الاعتدال، وهو الصراط المستقيم في مصطلح القرآن الكريم. في حالة الصلاح يصبح الإنسان الله فقط مثل سيدنا أبي بكر الصديق . ثم يتطور الإنسان الصالح رويدا رويدا ويبلغ مقام النفس المطمئنة، وهنالك يتيسر الصدر، كما قال الله تعالى لرسوله : أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ (الشرح: ٢). غير أنه ليس بوسعنا بيان كيفية انشراح الصدر بالكلمات.

صدرُ الإنسان بيت الله وقلبه الحجر الأسود

له

انشراح

تذكروا بقلوب واعية أنه كما أن الحجر الأسود موضوع في بيت الله كذلك القلب موضوع في الصدر. لقد جاء على بيت الله زمان وضعَ فيه الكفار الأصنام. وكان من الممكن ألا يأتي ذلك الزمان على بيت الله ولكن الله تعالى سمح بذلك ليكون نظيرا ومثالا للناس إن قلب الإنسان أيضا يشبه الحجر الأسود، وصدره يشبه بيت الله، وإن أفكار ما سوى الله هي بمنزلة الأصنام الموضوعة في الكعبة، وقد كُسرت أصنام مكة حين ذهب إليها رسول الله ل ل ل ل ل ع ع ع ع ع عشرة آلاف قدوسي، وتم فتحها. لقد سمي هؤلاء العشرة آلاف صحابي ملائكةً في الكتب السابقة والحق أن شأنهم كان كشأن الملائكة تماما. إن القوى البشرية أيضا بمنزلة الملائكة من وجه، إذ ورد في صفتهم يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (النحل: (٥١) ، كذلك فمن خاصية القوى البشرية أنها

أنهم:


الملفوظات

۱۸۲

المجلد الأول تفعل ما تؤمر وإن جميع القوى والجوارح البشرية تابعة لأوامر الإنسان. فلا بد لإلحاق الهزيمة بأصنام ما سوى الله تعالى وللقضاء عليها مِن شَنّ هجوم مماثل عليها. والجند الذي يشنّ هذا الهجوم إنما يُعَدُّ بتزكية النفس، ولا يُكتب النصر إلا لمن يقوم بتزكية نفسه، فقد قال الله تعالى : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَاهَا) (الشمس: ١٠). وورد في الحديث الشريف أنه إذا صلح القلب صلح الجسد كله وما أصدقه من قول، فإن العين والأذن والرّجل واللسان وغيرها من الأعضاء والجوارح كلها تعمل بأوامر القلب، حيث تخطر

بالقلب فكرة عن أمر فلا يلبث العضو المتعلق به أن ينفذها.

اتبعوني وأطيعوا أمري

هناك ضرورة لنوع من الجهاد لتطهير بيت الله هذا من الأوثان وها إني أدلكم على سبيل هذا الجهاد، وأؤكد لكم أنكم لو عملتم به لحطمتم هذه الأوثان. وهذا السبيل ليس من اختراع نفسي، بل قد أمرني الله تعالى بأن أخبركم به. وما هو ذلك السبيل؟ إنما هو أن تطيعوني وتتبعوا خطواتي. وهذا النداء ليس بالجديد، بل قال رسول الله الذي طهر مكة من الأصنام قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله آل عمران (۳۲) كذلك فلو اتبعتموني لتمكنتم من كسر الأوثان التي هي في باطنكم، وقدرتم على تطهير صدوركم المليئة بأنواع الأصنام. لا حاجة بكم للاعتكافات الأربعينية من أجل تزكية النفوس؛ إذ لم يقم أصحاب النبي الله أيضا بهذه الاعتكافات الأربعينية، ولم يقوموا بهذه الأوراد المختلفة من قبيل ما يسمى ذِكْر الأره والنفي والإثبات وما إلى ذلك كلا، بل كانوا يملكون شيئا آخر تماما، ألا وهو أنهم كانوا متفانين في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان النور الموجود في شخصه الا الله ينزل على قلوبهم عبر أنبوب الطاعة هذا، فكان يقضى على فكرة كل ما سوى الله قضاء نهائيا، ويملأ صدورهم نورًا مكان الظلام.

ا ذكر النفي والإثبات هو ترديدهم "لا إله إلا الله" بطريقة معينة، حيث "لا إله" نفي، و"إلا الله" إثبات . أما ذكر "الأزه" فيُخرجون عند ترديده صوتاً من الصدر كصوت المنشار. (المترجم)


الملفوظات

۱۸۳

المجلد الأول واعلموا جيدا أن الأمر نفسه الآن أيضا، فما لم ينزل على قلوبكم النور الآتي من أنبوب الله تعالى، فلن تتزكى نفوسكم. إن صدر الإنسان مهبط الأنوار، ولذلك يسمَّى بيت الله، وإن تحطيم ما فيه من الأصنام هو الأمر الأهم، لكي لا يبقى فيه إلا الله تعالى. ورد في الحديث أن رسول الله الله قال : " الله الله في أصحابي."، أي ليس في قلوب أصحابي إلا الله فقط. وليس المراد من كون الله وحده في القلب أن يؤمن المرء بعقيدة وحدة الوجود، ويعتبر أن كل كلب وحمار هو الله تعالى والعياذ بالله كلا، إنما المراد منه ألا يكون هدف المرء من كل عمل من أعماله إلا مرضاة الله وهذه الدرجة لا تنال بدون

فضل الله تعالى. ونِعْمَ ما قال الشاعر :

بر کریماں کا رہا دشوار نیست

أي: لا شيء صعب على الكرام.

القرآن هدي لتكميل الإنسان علماً وعملاً

ثم اعلموا أيضا أن في القرآن الكريم الهدي لتكميل الإنسان علمًا وعَملًا، وأن قول الله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (الفاتحة : ( ٦) يشير إلى تكميله العلمي، وقوله تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ (الفاتحة: ٧) بيان لتكميله العملي، حيث بين الله تعالى أن هدي القرآن الكريم يعطي أكمل النتائج وأتمها. فكما أن الشجرة التي تزرع لا تحمل الزهر والثمر ما لم يكتمل نماؤها ، كذلك فإن الهدي الذي لا يأتي بأفضل النتائج وأكملها فهو هَدْيُ ميّت وعارٍ من أي قوة وقدرة على النماء. فمثلاً ما الجدوى من هَدْي كتاب الفيدا الهندوسي ما دام من المستحيل على المرء العامل به حقَّ العمل أن يأمل في النجاة الأبدية ونيل السعادة الأبدية، متخلصًا ولادته المتكررة على شاكلة الديدان والحشرات وغيرها ؟ أما القرآن الكريم فإذا عمل

سنن الترمذي، كتاب المناقب عن رسول الله (المترجم)

من


١٨٤

المجلد الأول

الملفوظات بهديه الإنسان نال أسمى الكمالات، ونشأت له صلة حقة بالله تعالى، حتى إن أعماله الصالحة الصادرة بحسب هدي القرآن تنمو كالشجرة الطيبة التي ضرب القرآن الكريم مثلها والتي تؤتي أُكُلَها العظيمة الحلاوة واللذة. فمن كان إيمانه مفتقرا إلى قوة

النماء والازدهار فإيمانه ،ميت فكيف يرجى أن تحمل شجرة إيمانه ثمارًا كالتي تحملها الشجرة الطيبة للأعمال الصالحة، ومن أجل ذلك قد وصف الله الصراط المستقيم بقوله: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)) (الفاتحة : ( ليبين أن هذا الصراط لا يجعل

سالكه حيران وقلقًا وفاقِدَ الثمار كلا بل إنه ينال بغيته وفلاحه.

سلب إيمان معارضي المأمور الرباني ولا بد للإنسان من العبادة من أجل تكميله العَمَلي، وإلا فلن يعدو إيمانه مجرد لعبة ذلك أن الشجرة التي لا تحمل الثمار تكون عقيمة الجدوى مهما طالت وضخمت وهذه هي حال معارضينا مما يجعلهم عرضةً لخطر سلب الإيمان وحبطه، إذ يرون البار شريرًا والمأمور الرباني كذابًا ، الأمر الذي يجعل المرء في حرب على الله تعالى. من البديهي أن الله تعالى قد أرسلني إلى الدنيا باسم المأمور والمسيح الموعود، فالذين يعارضونني، فإنهم لا يعارضونني، إنما يعارضون الله تعالى. فمعظمهم كانوا قبل دعواي يحترمونني ويجلّونني، وكانوا يعتبرون صب الماء عليّ بالإبريق وقت وضوئي مدعاة للثواب ومفخرة لهم، وكان أكثرهم يحتّون الناس على الدخول في بيعتي، ولكن لما بدأ أمري هذا باسم الله وإعلامه انبروا لمعارضتي، مما يدل على أنهم لا يعادونني عداءً شخصيا، إنما يعادون الله تعالى. لو كانوا على صلة حقيقية الله تعالى فكان من مقتضى صلاحهم واتقائهم وخشيتهم أن يلبوا ندائي قبل

مع

الآخرين ويصافحوني ويسجدوا سجود شكر الله تعالى. ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل خرجوا ضدي حاملين السلاح، وبلغوا في عداوتي أن سموني كافرا وملحدا ودجّالا. لم يَدْرِ هؤلاء الحمقى للأسف أنه كيف يمكن أن يعبأ بسبابهم وشتائمهم


الملفوظات

١٨٥

المجلد الأول

شخص يسمع نداء الله يقول له: "قل إني أُمرتُ وأنا أول المؤمنين. وأنت مني

بمنزلة توحيدي وتفريدي"؟

من المؤسف حقا أن هؤلاء الجهّال لا يدرون أنّ قضية الكفر والإيمان لا علاقة لها بأهل الدنيا، إنما هي بيد الله تعالى، والله تعالى يشهد على أني مؤمن ومأمور

منه،

ـه ، فأَنَّى لي أن أعبأ بسبابهم؟ باختصار، إن هذه الأمور تدل على أنهم لم يعارضوني بل عارضوا أمر الله تعالى، وهذا هو الأمر الذي يسلب إيمان معارضي المأمور الرباني. ومن البديهي أن الذين يعارضونني إنما يعارضون الله تعالى. فإذا كنت أتقدم إلى النور - ومن المؤكد أنني أتقدم إلى النور باستمرار، إذ كانت ولا تزال تظهر من عند الله آيات كثيرة لتأييدي، وتنزل هذه الآيات من السماء نزول المطر - فمن المؤكد أيضا أن الذين يعارضونني إنما يتوجهون إلى الظلام إن النور والضياء يأتي بروح القدس، وأما الظلام فيقرب إلى الشيطان، وهكذا فإن معارضة الولي تسلب الإيمان وتجعل صاحبها قرينًا لمن وصف بـ (بئس القرين). باختصار، لا يتأتى الإصلاح إلا بتحقق مراتب التكميل العملي. وتشير كلمة "آمنوا" في قول الله تعالى في سورة العصر : إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ العصر: (٤ إلى التكميل العلمي، بينما تشير كلمة "وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" إلى التكميل العملي. والحكمة أيضا جزءان أحدهما أن يتيسر العلم الأكمل الأتم، والثاني : أن يكون العمل على الوجه الأكمل والأتم.

وتواصوا بالحق

لقد أخبرنا الله تعالى هنا أن المحفوظين من الخسران يقومون بتكميلهم العلمي أولاً، ثم لا يقعون في السيئات، بل يبلغون تكميلهم العلمي إلى درجة الكمال العملي، ثم عندما تتيسر لهم البصيرة الكاملة ويتجلى كمال علمهم بكمال عملهم،


١٨٦

الملفوظات المجلد الأول فلا يبخلون بل يعملون بقول الله تعالى وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ، ويدعون الآخرين إلى الحق الذي وجدوه. ومن معاني وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ (العصر : (٤) أيضا أنهم يكشفون للآخرين نور أعمالهم أيضا، ذلك أن الواعظ إذا لم يعمل بما يعظ به فلا يكون لكلامه تأثير أبدا، بل الحق أنه إذا قال ما لا يفعله فإنه يترك في الآخرين تأثيرا سيئا جدا. فمثلا إذا منع الزاني من الزنا، ثم انكشفت حقيقة أمره للناس فيُخشى أن يصبح الذين يسمعون كلامه من الملحدين؛ إذ يقولون إذا كان الزنا أمرًا شنيعا في الواقع، وإذا كان الزاني يعاقب عند الله على تصرفه الخبيث هذا، وإذا هناك إلة حقا، فلماذا وقع هذا في هذه الفاحشة وهو ينهى عنها الآخرين؟

أعلَمُ شخصًا أراد أن يدخل في الإسلام نتيجة صحبة أحد المشايخ، ولكنه رآه

(

ذات يوم يشرب الخمر فقسا قلبه وامتنع عن قبول الإسلام. باختصار، إن قوله تعالى: تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ يعني أنهم ينصحون الآخرين من

خلال نور أعمالهم.

وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر

كما أن من شيمتهم وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ، أي أنهم ينصحون الآخرين بالصبر والمثابرة، فلا يُرْغون ولا يُزبدون مستعجلين. إذا كان المرء شيخًا وإمامًا ثم يثور غضبا بسرعة ويفقد الصبر والأناة فلماذا يضر الناس هكذا؟

والمعنى الثاني لقوله: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ (العصر : ٤) هو أن الذي لا يسمع بصبر

وهدوء فلا يستفيد من الوعظ إن معارضينا لا يأتوننا بقلب حليم، ولا يذكرون

.

مشاكلهم بصبر وهدوء، بل لا يريدون أن ينظروا في كتاب من كتبنا، ويسعون ليلبسوا الحق بالباطل مثيرين الضجة، فأنّى لهم أن يستفيدوا؟ ما الذي كان بأبي جهل وأبي لهب؟ لم يكن بهما إلا مرض الاستعجال وقلة الصبر ؟ فقالا: إذا كنت قد جئتَ من عند الله ففجّر لنا من الأرض ينبوعا. لم يصبر هذان الشقيان وكانا من الهالكين،


۱۸۷

الملفوظات المجلد الأول وإلا فقد أتت القناة التي فجرتها "زبيدة" على أية حال، كذلك يقول معارضونا أن ادْعُ لنا ويجب أن يجاب دعاؤك فورا، ويجعلون هذا الأمر معيارا لمعرفة الحق من الباطل، ويقترحون من عندهم أمورا أخرى ويقولون : لو حَدَثَ كذا ووقع كذا لآمنا، ولكن لا يقبلون أي شرط منا. من المؤسف حقًّا أن هؤلاء هم مصداق قوله تعالى: وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (الشمس: (١٦).

يصبر

فكأنه

اعلموا أن الصابر وحده ينال مرتبة انشراح الصدر، أما الذي لا يريد فرضَ حُكمه على الله تعالى، ولا يريد أن يقبل حكومة الله على نفسه، ومثل هذا المتجاسر الوقح الذي لا يخاف جلال الله وعظمته يُحرَم ثم يُقطع.

صحبة الصادقين

ثم لا يغيبن عن البال أيضا أن من شروط الصبر العمل بقول الله تعالى: كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: (۱۱۹). إن المكوث في صحبة الصالحين ضروري. هناك كثيرون يعيشون بعيدين متقاعسين ويقولون : نعم سوف نأتي لزيارتك في يوم من الأيام، ولسنا متفرغين في الوقت الحالي. إن الذي يجد جماعة الموعود المنتظر منذ ١٣٠٠ عام، ثم لا ينصرها ولا يحضر مجلس هذا الموعود من عند الله ورسوله، فأنى له أن ينال الفلاح ؟ كلا، لن يناله. واللهِ دَرُّ القائل:

ہم خدا خواہی و ہم دنیائے دوں ایں خیال است و محال است و جنوں

أي : تريد وصال الله والدنيا الدنية أيضا! هذا خيال ومحال وجنون.

إنما يريد الدِّينُ المكوث في الصحبة، فمن لم يرد الصحبة فكيف يتوقع التدين والصلاح؟ لقد نصحت أحبائي مرارا وها إني أنصحهم مرة أخرى وأقول عليهم

زبيدة هي زوجة هارون الرشيد وهي التي قامت بمشروع ضخم في تلك الأيام لنقل المياه وتوفيرها للحجيج والمعتمرين عبر مئات الكيلومترات لتصل إلى مكة ثم إلى منى عبر قنوات من عيون وسيول تتوفر في مواسم الأمطار، وما زالت آثار هذا المشروع باقية إلى يومنا هذا. (المترجم).


۱۸۸

المجلد الأول

الملفوظات أن يأتوا هنا مرة بعد أخرى ويمكثوا وينتفعوا ولكني أرى أن الاهتمام بهذا الأمر قليل جدا. يعاهدني الناس على إيثار الدين على الدنيا واضعين أيديهم في يدي، ثم لا يبالون بعهدهم هذا شيئا. اعلموا أن القبور تناديكم، والموت يقترب منكم كل حين، وكل نفَس تتنفسونه يقربكم من الموت، ولكنكم تظنونها ساعات الفراغ والبطالة. لا يليق بالمؤمن التحايل على الله تعالى. إذا جاء الموت فلن يتقدم ساعة ولن يتأخر. إن المعارضين الذين لا يقدرون هذه الجماعة ولا علم لهم بعظمتها دعوهم جانبا، ولكن الأشقى والأظلم من يعرف صدق هذه الجماعة وينضم إليها ثم لا يقدرها حق قدرها إن الذين لا يأتون هنا بكثرة، ولا يمكثون في صحبتي ولا يسمعون ولا يرون ما يُظهره الله تعالى كل يوم من الآيات لتأييد جماعته هذه فإنهم مهما كانوا صالحين وأتقياء وورعين إلا أني أقول إنهم ما قدروا هذه الجماعة حق قدرها. لقد قلت آنفًا إن الإنسان بحاجة لتكميله العملي بعد التكميل العِلمي، والتكميل العملي محال بدون التكميل العلمي، وتكميلهم العلمي صعب ما لم يأتوا ويمكثوا هنا. تصلني رسائل كثيرة بأن فلانا أثار كذا وكذا من الاعتراض، ولكنا لم نستطع الردّ عليه. ما سبب ذلك؟ إنما سببه أن هؤلاء لا يحضرون هنا ولا يسمعون الأمور العلمية التي يُريها الله تعالى لتأييد جماعته. إن كنتم قد عرفتم صدق هذه الجماعة حق المعرفة، وآمنتم بالله تعالى وعاهدتم بصدقٍ على إيثار الدين على الدنيا، فأسألكم: ما الذي عملتم بهذا الصدد ؟ هل تظنون أن حكم الله كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (التوبة: (۱۱۹) قد نُسخ؟ إن كنتم مؤمنين حقا، وترون أن هذه الحقيقية، فآثروا الله على كل شيء. أما إذا استهنتم بهذه الأمور واعتبرتموها

عبئًا، فاعلموا أنكم ستُعَدّون من المستهزئين بالله تعالى.

الحكم، مجلد ٥ عدد ٣١ يوم ٢٤ - ۸ - ۱۹۰۱ ص ۱-۳

١

هي

السعادة


الملفوظات

۱۸۹

المجلد الأول

الفاتحة تشمل جميع معارف القرآن تدبّروا سورة الفاتحة التي هي رسم دقيق للقرآن الكريم، والتي تسمّى أم الكتاب أيضا

لتضمُّنِها معارف القرآن كلها إجمالاً. لقد بدأت هذه السورة بقوله تعالى: (الحَمْدُ لِلَّهِ (الفاتحة: (٢)، ومعناه أن المحامد كلها الله وحده. وقد عُلّمنا بذلك أن كافة أنواع المنافع والخير والرخاء في الحياة المدنيّة إنما تأتي من عند الله تعالى، لأنه تعالى ما دام هو صاحب الحمد والثناء بكل أنواعه، فليس هناك مُعط حقيقي إلا هو، وإلا للزم القول أنه لا يستحق بعض أنواع الحمد أو الثناء، وهذه الكلمة كفر. فكم يحتوي قوله تعالى : الحَمْدُ لِلَّهِ مِن تعليم رائع وجامع لتوحيد البارئ ،تعالى، حيث ينبه الإنسان أن كل ما في الكون هو عبد الله تعالى، وليس بنافع في حد ذاته. كما يرسخ هذا التعليم في الأذهان بكل جلاء ووضوح أن كل نفع وخير إنما هو من عند الله تعالى في الواقع، لأنه تعالى هو صاحب المحامد كلها ، فآثروا الله دوما على كل نفع وخير إذ ليس هناك من ناصر ولا معين سواه. إذا كان المرء يخالف رضا الله تعالى، فقد ينقلب أولاده أعداءً له، بل بالفعل يصبحون أعداء في بعض الأحيان.

الصفات الأمهات لله تعالى

ثم إن سورة الفاتحة نفسها ترسم لنا ذلك الإله الذي يقدمه القرآن الكريم للناس ويطالبهم بالإيمان به. فقد ذكرت الفاتحة بالترتيب أربع صفات الله التي تسمى أمهات الصفات وكما أن الفاتحة هي أم الكتاب كذلك فإن صفات الله المذكورة فيها هي أمهات الصفات، وهي: (رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، وبالتدبر في هذه الصفات الأربع يتراءى للإنسان وجه الله تعالى.

والربوبية فيضها فيض واسع جدا وعام وفيها إشارة إلى تكفل الله تعالى بتربية المخلوقات كلها في جميع مراحلها وتكميلها. فكّروا كم يصبح أمل الإنسان واسعًا حين يفكر في ربوبية الله تعالى.


الملفوظات

۱۹۰

المجلد الأول

أما الرحمانية فتعني أن الله تعالى يهيئ كافة الأسباب الضرورية لبقاء الموجودات بدون أي عمل من عامل انظروا مثلاً إلى القمر والشمس والهواء والماء وما إلى ذلك، فكيف سخرها الله تعالى لبقاء وجودنا بدون دعاء أو التماس أو عمل منا. أما الرحيمية فتعني أن الله تعالى لا يضيع عمل عامل. أما صفة مَالِكِ يَوْمِ الدِّين فمن مقتضاها أن يجعلنا من الناجحين. فلو اجتهد الطالب من أجل الامتحان كثيرا ومع ذلك نقصت بضع علامات من أجل النجاح، فإن النظام الدنيوي سيُعلن فشله غير آبه باجتهاده الشديد، ولكن رحيمية الله تعالى ستستره وتعلن نجاحه. فالرحيمية فيها نوع من الستر أيضا.

إن إله المسيحيين ليس ستارًا على الإطلاق، وإلا فما الحاجة إلى الفداء والكفّارة؟ كذلك فإن إله الآريين الهندوس ليس ربًّا ولا ،رحمانا ، إذ لا يقدر على أن يهب شيئًا بدون عمل ومقابل. وليس هذا فحسب، بل إنّ اقتراف الذنب ضروري بحسب مبدأ الفيدا على ما يبدو. فمثلاً لو أُريدَ إعطاء المرء حليب بقرة جزاءً على عمله لاستلزم ذلك بحسب روايتهم إن كانت صحيحة أن تزني امرأة من فرقة البراهمة، فتتحول إلى بقرة عبر عملية التناسخ جراء فاحشتها وفسقها، لتسقي هذا الإنسان حليبًا وإنْ كان زوجها باختصار يستحيل لعامل أن ينال جزاء عمله من كنوز إله الفيدا ما تُرتكب هذه السلسلة من الأفعال، لأن نظام إله الفيدا كله قائم على هذا النمط. أما الإسلام فقد قدّم ذلك الإله الذي يستحق المحامد كلها، ومن أجل ذلك فهو المعطي الحقيقي. وهو الرحمن يُنعِم بدون عمل عامل. ثم إن "مالك الدين" يجعل الإنسان ناجحا كما قلت آنفا الحكومات الدنيوية لا تضمن أبدًا إعطاء وظيفة لكل حائز على شهادة البكالوريوس مثلا ، ولكن حكومة الله كاملة وتملك الكنوز التي لا نفاد لها، ولا عوز عند الله تعالى فيكتب النجاح لكل عامل، كما يستر بعض ما فيه من نقاط ضعف ونقائص إزاء حسناته وخيراته. وإنه تعالى توّاب

يوم

11


الملفوظات

۱۹۱

المجلد الأول وحَيِي أيضا، فهو يعلم الآلاف من عيوب عباده ولكنه لا يكشفها. غير أنه يأتي وقت حين يصبح المرء جريئا ويتمادى في سيئاته باستمرار، ولا يستفيد من حياء الله وستره بل يتقوى فيه عرق الإلحاد، وعندها لا تطيق غيرة الله أن يترك هذا المتجاسر الوقح بدون عقاب فيلقى الخزي والهوان كان حضرة المولوي عبد الله الغزنوي تلقى بشأن محمد حسين وحيًا يشير إلى عيب فيه، فطلب منه محمد حسين أن يخبره بذلك، فقال: إن حياء الله يمنعني من ذلك. كما أن حضرة الغزنوي كان

رأى في الرؤيا أن ثياب محمد حسين قد تمزقت وقد تحققت هذه الرؤيا الآن. إنما قصدي من هذا البيان أن من خواص الرحيمية الستر أيضا، ولكن الاستفادة من هذا الستر يقتضي أن يكون هناك عمل من قبل الإنسان، فلو بقي في عمله نقص أو عيب ستره الله تعالى برحيميته. والفرق بين الرحمانية والرحيمية أن لا دخل للعمل أو الفعل في الرحمانية، أما الرحيمية ففيها دخل للعمل، ولكن يبقى في العمل نوع من الضعف أيضا، ورحم الله يقتضي ستره. أما مَالِك يَوْمِ الدِّينِ فهو الذي يحقق الهدف الحقيقي. واعلموا جيدًا أن هذه الصفات التي هي تعالى ،روحانيا، إذ يتراءى لنا وجه الله على الفور بالتدبر فيها، وتقفز الروح بنشوة وتخرّ أمامه ساجدة. إذ بدأ هذا الذكر بـ الحَمْدُ لِلَّهِ ، وهي صيغة الغائب، ولكن بعد ذكر هذه الصفات الأربع قد تغير هذا الذكر فجأة، لأن هذه الصفات قد قدمت الله أمامنا عيانا فكان حريا به وكان من مقتضى الفصاحة أيضا ألا يظل سبحانه وتعالى غائبًا، بل يتحول إلى مخاطب حاضر ، ومن أجل ذلك قد تحوّل الكلام هنا إلى الخطاب فقيل : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ .

أمهات الصفات صورة تُرينا وجه الله

واعلموا أنه ليس ثمة فاصل بين إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، غير أن إِيَّاكَ نَعْبُدُ متقدم زمانًا إلى حد ما، لأن الله تعالى حين خلقنا برحمانيته أناسًا ومنحنا


الملفوظات

۱۹۲

المجلد الأول

صنوف القوى والنعم، لم يكن هناك أي دعاءٍ أو طلب من قبلنا، وإنما فعل ذلك

كله بمحض فضله، وهذا هو التقدم.

الرحيمية والرحمانية

وأعود ثانية إلى ما كنت بصدد بيانه وأقول اعلموا أن الرحمة نوعان، أولهما يسمى الرحمانية والآخر الرحيمية والرحمانية فيض بدأ قبل وجودنا وخلقنا. فمثلاً قد خلق الله قبل وجودنا أيضا الأرض والسماء والقمر والشمس وغيرها من الأشياء الأرضية والسماوية، وهي كلها نافعة لنا وتنفعنا فعلاً. لا شك أن الحيوانات الأخرى أيضا هذه الأشياء، ولكن الحيوانات نفسها ما دامت تنفع الإنسان وتخدمه،

تستفيد من

فثبت أن المستفيد الحقيقي من كل هذه الأشياء هو الإنسان في الحقيقة. ترون في الأمور الجسمانية كيف أن الإنسان يأكل أطيب الأطعمة وأفضلها، وكيف أن أجود اللحم يكون من نصيب الإنسان، أما العظام والأجزاء الرديئة فتكون للكلاب. لا شك أن الدواب تستمتع باللذة الجسمانية لحد ما ولكنها لا تكون شريكة للإنسان في اللذة الروحانية.

باختصار هذان نوعان من الرحمة، وقد أُعطينا أَوَّلهما حتى قبل وجودنا، وأما الثاني، أي الرحيمية، فتتجلى مظاهره بعد الدعاء ويقتضي منا العمل والجهد.

العلاقة بين الدعاء ونواميس الطبيعة وأرى من المناسب هنا أن أبين أن الدعاء وثيق الصلة بالنواميس الطبيعية دائما. إن الطبيعيين المعاصرين الذين يجهلون العلوم الحقة كل الجهل والذين جُل همهم تقليد الأوروبيين في طريقة عيشهم يعتبرون الدعاء ،بدعة، لذا أرى لزاما على أن أبين هنا موضوع الدعاء بإيجاز.

ترون أن الرضيع عندما يضطرب من شدة الجوع ويبكي ويصرخ للحليب، يتدفق أن الرضيع لا يعرف حتى اسم الدعاء، إلا أن صرخاته

الحليب في ثدي أمه.

ومع


الملفوظات

۱۹۳

المجلد الأول تجلب الحليب فما السبب وراء ذلك؟ هذا أمر قد جربه الجميع عموما. ومن الملاحظ أن الأم لا تشعر بوجود الحليب في ثديها أحيانا، بل لا يوجد بالفعل في بعض الأحيان، ولكن ما إن تصل صرخاته الأليمة إلى مسامعها حتى يتدفق الحليب في ثدييها وكما أن هناك صلة وثيقة بين صرخات الرضيع وبين تدفق الحليب، فأقول والحق أقول لو كانت صرخاتنا أمام الله مليئة بالاضطرار والألم اللذين يوجدان في صرخات الوليد فلا بد أن تستثير فضل الله ورحمته وتجذبها جذبًا. وأقول بناء على خبرتي فإني قد أحسست بل رأيتُ فضل الله ورحمته اللذين ينزلان نتيجة استجابة الدعاء ينجذبان إلي ،انجذابًا، أما إذا لم يحس الفلاسفة المعاصرون ذوو العقول المظلمة بهذه الحقيقة أو لم يروها، فهذا لا يعني أن هذه الحقيقة منعدمة من

الدنيا، ولاسيما ونحن مستعدون في كل وقت لإراءة نموذج استجابة الدعاء. باختصار، إن نظائر استجابة الدعاء لموجودة في نواميس الطبيعة، ويرسل الله في كل زمان نماذج حية لذلك، ومن أجل ذلك علمنا الله تعالى دعاء اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) . إن هذه مشيئة الله وقانونه، وليس بوسع أحد أن يبدلها.

إن قوله تعالى اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ دعاء بأن يجعل الله أعمالنا كاملة أتم الكمال. والتدبر يكشف أن هذه الكلمات، وإن كانت تأمرنا بالدعاء للاهتداء إلى الصراط المستقيم، إلا أن كلمات إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ التي سبقتها تشير إلى أن واجبنا اغتنام هذه الفرصة المتاحة لنا أعني أن نستعين بالله تعالى مستخدمين قوانا السليمة على السير في الصراط المستقيم. لذا فلا بد من الأخذ بالأسباب الظاهرية أيضا، ومن تركها فقد كفر بنعمة الله. فمثلاً إن اللسان الذي خلقه الله من العروق والأعصاب، إذا لم يكن كما هو لما قدرنا على الكلام. لقد رزقنا الله للدعاء لسانًا قادرا على التعبير عما تختلج في قلوبنا من نوايا وأفكار، وإذا لم نستخدم


الملفوظات

١٩٤

المجلد الأول

اللسان للدعاء فهي شقاوتنا. هناك أمراض عديدة لو أصابت اللسان لتعطل عن العمل. فهذا المثال يبين لنا رحيمية الله تعالى. كذلك قد أودع الله قلوبنا الخشوع

والخضوع وقوة التفكر والتدبر، ولو دعونا الله تعالى بدون بذل هذه القوى والقدرات

فلن يكون دعاء مجديا ونافعا أبدا، إذ لم نستفد العطية الأولى فماذا عسى

من

أن

يعني

نستفيد من الثانية؟ فكأن ورود إِيَّاكَ نَعْبُدُ قبل اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . أننا نقول لربنا : ربنا إننا ما أضعنا المواهب والقوى التي أعطيتنا من قبل أيضا. واعلموا أن ميزة الرحمانية أنها تجعل الإنسان أهلاً للاستفادة من الرحيمية، ولذلك قال الله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (غافر : (٦١). هذا ليس كلاما فارغا، بل هذا ما يقتضيه الشرف الإنساني. إن الدعاء من صفات الإنسان، ومن لم يسأل الله تعالى استجابة دعائه فهو ظالم. إن الدعاء حالة من السرور والمتعة اللذين لا أجد كلمات لبيانهما للدنيا للأسف، لأن هذه المتعة لا تُدرك إلا بالخبرة.

قصارى القول، إن من أول شروط الدعاء أن يعمل المرء الصالحات، ويعتقد اعتقادا سليما، لأن الذي يدعو الله تعالى بدون إصلاح المعتقدات وفعل الصالحات الله تعالى. الحق أننا بقولنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ نسأل الله تعالى

فكأنما يختبر أن

يجعل أعمالنا أكمل وأنتم ، ثم نصرح أكثر ونقول: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، أي أننا نريد أن تهدينا إلى صراط المنعم عليهم، وتنقذنا من صراط المغضوب عليهم الذين حل بهم العذاب نتيجة سوء أعمالهم. وأما قوله تعالى وَلَا الضَّالِّينَ فعلمنا فيه أن ندعوه بأن يحفظنا من أن نكون من المحرومين من حمايته، فنظل هائمين على وجوهنا بعيدا عن الصراط المستقيم.

وجدير بالذكر هنا أن هذه الآيات جاءت على طريقِ اللَّفِ والنشر المرتب، إذ قيل هنا أولاً : الحَمْدُ لِلَّهِ ، أي أن الله تعالى مستجمع للصفات الكاملة، ومتصفّ بالمحاسن كلها، ومنزه عن العيوب والنقائص جمعاء، وثانيا : رَبِّ الْعَالَمِينَ وثالثا:


الملفوظات

۱۹۵

المجلد الأول

الرَّحْمَنِ ورابعا: الرَّحِيمِ وخامسا : مَالِكِ يَوْمِ الدِّين، والطلبات الخمسة المذكورة بعد ذلك جاءت كلها منسجمة مع هذه الصفات الخمس تماما، حيث قيل : إِيَّاكَ نَعْبُدُ إزاءَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أي يا إلهنا المستجمع للصفات الحميدة كلها والمنزه عن العيوب كلها، إنما نعبدك أنت وحدك. إن المسلم يعرف ذلك الإله الذي متصف بجميع تلك المحاسن التي يتصورها العقل الإنساني، بل إنه تعالى أسمى وأرفع من ذلك أيضا، إذ الواقع أن عقل الإنسان وفكره لا يقدران على الإحاطة بصفات الله أبدا فالمسلم يؤمن بهذا الإله المتصف بالصفات الكاملة، أما سائر

هو

الأمم فتتعرض عند ذكر إلهها في المجالس للخجل والندم، ويجب أن تخجل.

تصور الإله عند الهندوس

خذوا الهندوس مثلاً، فإن الإله الذي يؤمنون به ويقولون إن كتابهم "الفيدا" يقدّم ذلك الإله، لو ذكروا في مجلس أن إلههم هذا لم يخلق ولا ذرة من الكون ولم يخلق الأرواح أيضا، فهل يبقى لقائل هذا الكلام مجال للفرار إذا قيل له: ما الحرج إذا مات مثل هذا الإله؟ ذلك أن الأشياء ما دامت قد وُجدت بنفسها، وما دامت قائمة بذاتها كما يزعمون فما الحاجة لحياة هذا الإله من أجل حياتها وبقائها؟ فمثلاً لو أطلق المرء سهما ثم مات والسهمُ منطلق إلى هدفه، فأي تغير يمكن أن يطرأ على السهم، لأنه بعد انطلاقه ليس بحاجة إلى من أطلقه. كذلك فلو جاز الموت لإله الهندوس في وقت من الأوقات فليس بوسع هندوسي أن يبين لنا الخسارة التي يؤدي إليها .موته ولكن لا يمكننا قول ذلك بحق الله تعالى، لأن لفظ "الله" نفسه يدل على أنه بريء من كل عيب ونقيصة. وبالمثل يؤمن الآريون بكون الأجسام والأرواح أزلية، أي أنها موجودة منذ الأزل. لو قلنا لهم أي دليل يمكن أن تقدموه على وجود الإله مع إيمانكم هذا؟ فلو قالوا: إن الإله قام بتركيب الأرواح والذرات بعضها ببعض، لقلنا: ما دمتم تؤمنون بأن


الملفوظات

١٩٦

المجلد الأول الذرات والأرواح أزلية وقائمة بذاتها، فتركيب بعضها ببعض ليس إلا عملا أدنى،

ويمكن أن تتركب بنفسها.

كذلك حين يقول لنا الآريون أن من تعاليمهم أن إلههم يأمرهم في أن إلههم يأمرهم في كتابهم "الفيدا" بأن المرأة إذا لم تقدر على الإنجاب من زوجها، فعليها أن تضاجع رجلا أجنبيا لتنجب الأولاد، فماذا عسى أن يقال عن مثل هذا الإله؟ أو لو قالوا أن من تعاليمهم بأن الإله لا يعطي النجاة الأبدية أيًا من محبيه الصالحين، بل لا بد له عند القيامة الكبرى من إلقاء الناجين في دورة التناسخ مرة أخرى أو لو قالوا أن إلههم لا يعطي أحدًا أي شيء فضلا منه وكرما ، بل ينال كل إنسان نتائج أعماله فقط، فما الحاجة إلى مثل هذا الإله أصلا؟ باختصار إن الذي يؤمن بمثل هذا الإله يتعرض لندم شديد.

تصور الإله عند المسيحيين كذلك عندما يقول المسيحيون بأن إلههم هو يسوع، ثم يقولون أنه ضُرب على أيدي اليهود، وظل يُختبر على يد الشيطان ويقاسي آلام الجوع والعطش، وفي النهاية عُلّق على الصليب فاشلا، فهل من عاقل سيرضى بمثل هذا الإله؟

ذكرهم

باختصار، إن كل الأمم تتعرض للندم والخجل على هذا النحو عند آلهتهم، ولكن المسلم لا يلقى الندم عند ذكره إلهه في أي مجلس أبدا، إذ ليست هناك ميزة أو صفة حسنة إلا وتوجد في الإله الذي يؤمن به المسلم، وما من عيب ونقيصة إلا هو منزه عنها، كما نجده تعالى قد وُصف في سورة الفاتحة بالصفات الحميدة كلها.

باختصار قد ورد الحَمْدُ لِلَّهِ، إزاء إِيَّاكَ نَعْبُدُ . ثم قال الله تعالى: رَبِّ الْعَالَمِينَ . ومهمة الربّ التربية والتكميل، كما تربي

ولدها وتنظفه وتزيل عنه كل نوع من النجاسات والشوائب، وترضعه، وبتعبير تساعده. وقد ورد إزاء صفة رَبِّ الْعَالَمِينَ  َقولُ الله تعالى ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.

آخر


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الردود على الأسئلة التي يطرحها الناس عادة السؤال ١: أين يثبت موت المسيح ابن مريم من القرآن الكريم؟ بل إن قوله تعالى: ﴿رَافِعُكَ إِلَيَّ" و"بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ" يدلّ على أن المسيح رفع إلى السماء بجسده. وكذلك الآية: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ؟ تدل على أن المسيح لم يُقتل ولم يمت على الصليب. الجواب: فليتضح أن معنى الرفع إلى الله هو الموت، كذلك إن لقول الله : ارْجِعِي إِلَى رَبِّك"، وقوله: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ" المعنى  نفسه. إضافة إلى ذلك إن الوضوح والجلاء والتفصيل الذي ورد به ذكر موت المسيح في القرآن الكريم لا يتصور أكثر منه؛ لأن الله قد بين وفاة المسيح بوجه عام وبوجه خاص أيضا، كما يقول مثلا على وجه العموم: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ " . إن هذه الآية التي قدّمتُها للاستدلال تدل بصراحة متناهية أن الموت قد  أصاب  جميع الرُّسُل، سواء أكان بالموت الطبيعي أو بالقتل، ولم يسلم من الموت نبي من الأنبياء السابقي...

شرح وتفسير: "وكان عرشه على الماء".

 شرح وتفسير: "وكان عرشه على الماء". النقاش عن كون العرش مخلوقا أو غير مخلوق عبث:  فقال عليه السلام:  الناس يتفننون في آرائهم حول هذا الموضوع، بعضهم يصفونه بالمخلوق وبعضهم يصفونه بغير المخلوق، ولكن لو لم نصفه بغير المخلوق لبطل الاستواء. لا شك في أن النقاش حول كون العرش مخلوقا أو غير مخلوق عبث أصلا، هذه استعارة، حيث بين الله فيه رفعته العالية، أي هو مقام منزه عن كل جسم ونقص، ويقابله هذه الدنيا وهذا العالم كله. وليس للإنسان اطلاع كامل عليه. هذا المقام يمكن أن يسمى قديم، فالناس يستغربون من ذلك ويحسبونه شيئًا ماديا. وانطلاقا من القدم يرد الاعتراض على ورود الحرف "ثم". فالحقيقة أن القدم يشمل "ثم" أيضًا. كما عندما يكون القلم بيد الإنسان فتتحرك اليد أيضًا حيثما يتحرك القلم، لكن يكون التقدُّم لليد. يعترض الآريون على المسلمين عن قدم الله، ويقولون إن إله المسلمين موجود منذ ستة أو سبعة آلاف سنة. وهذا خطؤهم، فمن الغباوة أن يقدر عمر الله بالنظر إلى هذا المخلوق. فلا نعلم ما الذي كان قبل آدم ومن أي نوع كان ذلك المخلوق. والله الله أعلم بذلك الوقت: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْ...
لا بد من التقوى من أجل الفتح: وما دام الأمر هكذا، فاعلموا أن التقوى ضرورية للمرء لكي تنفتح عليه أبواب الحقائق والمعارف فاتقوا الله ، لأن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل (۱۲۹) . ولا أستطيع أن أحصي لكم كم مرة تلقيت هذه الآية في الوحي، إذ أوحيت إلي مرات كثيرة جدا. لو أننا اكتفينا بالأقوال دون الأفعال، فاعلموا أن لا جدوى من ذلك. إن النصر  يتطلب التقوى، فكونوا متقين إن أردتم النصر. ضرورة التضحيات المالية لنشر الإسلام أرى أن نساء الهندوس والنصارى أيضا يوصين بعقارات كبيرة وأموال طائلة لنشر  دعوتهم، ولكن لا نجد نظير ذلك في المسلمين في هذه الأيام. إن أكبر مشكلتنا  هي  الحاجة إلى النصرة المالية لنشر الإسلام. اعلموا أن الله  تعالى هو الذي أراد تأسيس هذه الجماعة بيده وسوف يكون حاميها وناصرها، ولكنه يريد أن يؤتي عباده الأجر والثواب، ومن أجل ذلك قد اضطر الأنبياء لطلب المساعدة المالية. لقد طلب رسول الله النصرة المالية ، وعلى نفس المنهاج ، الذي هو منهاج النبوة، نذكر أحبابنا بحاجات الجماعة من حين لآخر. ومع ذلك أقول: إ...