شرح وتفسير: "وكان عرشه على الماء".
النقاش عن كون العرش مخلوقا أو غير مخلوق عبث:
فقال عليه السلام: الناس يتفننون في آرائهم حول هذا الموضوع، بعضهم يصفونه بالمخلوق وبعضهم يصفونه بغير المخلوق، ولكن لو لم نصفه بغير المخلوق لبطل الاستواء. لا شك في أن النقاش حول كون العرش مخلوقا أو غير مخلوق عبث أصلا، هذه استعارة، حيث بين الله فيه رفعته العالية، أي هو مقام منزه عن كل جسم ونقص، ويقابله هذه الدنيا وهذا العالم كله. وليس للإنسان اطلاع كامل عليه. هذا المقام يمكن أن يسمى قديم، فالناس يستغربون من ذلك ويحسبونه شيئًا ماديا. وانطلاقا من القدم يرد الاعتراض على ورود الحرف "ثم". فالحقيقة أن القدم يشمل "ثم" أيضًا. كما عندما يكون القلم بيد الإنسان فتتحرك اليد أيضًا حيثما يتحرك القلم، لكن يكون التقدُّم لليد. يعترض الآريون على المسلمين عن قدم الله، ويقولون إن إله المسلمين موجود منذ ستة أو سبعة آلاف سنة. وهذا خطؤهم، فمن الغباوة أن يقدر عمر الله بالنظر إلى هذا المخلوق. فلا نعلم ما الذي كان قبل آدم ومن أي نوع كان ذلك المخلوق. والله الله أعلم بذلك الوقت: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ). صحيح أن صفاته قديمة، ولكن ليس لزاما عليه أن يُطلعنا على كل صفة من صفاته. وهذه الدنيا لا تتسع لأعماله كلها. فبإلقاء نظرة دقيقة على كلام الله والإمعان فيه يتبين أنه أزلي ،وأبدي وإن ترتيب المخلوقات لا ينافي كونه أزليا. إن حمل الاستعارات على المشهودات أيضًا غباء وحمق. ومن صفاته وعل: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ (الأنعام: (١٠٤) نؤمن بالعرش والاستواء ونفوّض حقيقته وكنهه إلى الله. حين لم يكن هذا العالم موجودا كان العرش موجودا يومذاك أيضا، كما ورد في قوله : كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ (هود: (۸).
الملفوضات الرابع 181 192.
إن الله وحده يعرف كنه كانَ عَرْشِهُ عَلَى الْمَاءِ :
كان عرشه على الماء أيضًا تجل، ولا نفسر الماء هنا بالماء المادي المعروف. بل الله أعلم ما المراد من الماء هنا في هذه الآية، وهو يعلم كنهه. كذلك نؤمن بنعماء الجنة أيضًا، إذ لن تكون هنالك بقرات وجواميس كثيرة تُحلب وتجمع ألبانها وتُصَبُّ في حوض كبير . كلا! بل قال رسول الله ﷺ إن تلك الأشياء لم ترها عين ولم تسمع عنها أذن ولم يتذوقها لسان، ولم تخطر على قلب أحد. مع أنها سميت باللبن والعسل وغير ذلك من النعم وهي تُرى بالعين ونشربها أيضًا. كذلك هناك أمور كثيرة نلاحظها لكننا لا نجد الكلمات المناسبة للتعبير عنها ولا نقدر على بيانها. لو قسنا هذه الأمور على العالم المادي لنشأت مئات الاعتراضات ويتبين: مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى (الإسراء: ٧٣) أن وعد الرؤية موجود هنا أيضًا، لكننا لا نستطيع حملها على الماديات.
الملفوضات المجلد الرابع 183
. والآية الثالثة التي يستدلون بها على كون العرش مخلوقا ماديًا، قوله تعالى ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (هود: ٨) يقولون : بما أن العرش على الماء المادي فلا بد أن يكون عرضًا ماديًا مخلوقا. والحق أن الماء هنا ليس ماديا، إذ لم يكن له وجود قبل خلـق السماوات والأرض، وإنما كان جزءًا منها وقد خُلق بعدها. ولو أنهم قالوا بأن العرش وضع بشكل مادي على الماء المادي بعد خلق السماوات والأرض، فهذا أيضا لن يستقيم، لأننا لا نرى أي عرش موضوع على الماء بل لا نجد آثارا أو علامات لذلك. إن الله حكيم وقول الحكيم لا يخلو من حكمة. فأي جدوى وحكمة من ذكر شيء لا يَمُت إلينا بصلة ولا علاقة لنا به. فمثل هذا العرش المزعوم لا يكشف لنا العظمة الإلهية لأن الله جعلنا في معزل عن إدراك حقيقته فلا الماء هنا مادي إذا ولا العرش مادي. وإنما الحق أنه في لغة الوحي والدين - يعبر بالماء عن كلام الله . فالآية تعني أن العرش الإلهي موضوع على الكلام الإلهي بمعنى أن العظمة الإلهية أكبر وأسمى من أن يُدركها العقل الإنساني، إلا أنه يستطيع إدراكها إلى حد ما عندما تأخذ صفات الله التنزيهية من خلال كلامه ووحيه - طابع المماثلة والتشابه. ومن أجل – ذلك أردف ذلك بقوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ . والعلاقة بين الوحي والصفات الإلهية التشبيهية وبين أعمال الإنسان لواضحة بينة، ولكن من ذا الذي بإمكانه أن يزعم أن عرشا ماديا غير مرئي موضوعا على الماء المادي يلعب أي دور في كون أعمالنا حسنة أو سيئة، أو يزعم أن مثل هذا البيان يعود علينا بأي نفع. ثم إنه لزعم يرفضه العقل والمنطق السليم أيضا، إذ إنه لمما يتعارض مع العقل تماما أن الله تعالى بعد أن خلق السماوات والأرض احتاج إلى عرش مادي! كلا، بل إن الإله الذي قدر منذ الأزل على أن يحكم الكون دون أي عرش مادي كان بإمكانه أن يحكمه أيضا في المستقبل دون أي احتياج للعرش المادي. ولو أنهم قالوا بأنه تعالى يتبوأ هذا العرش المادي إظهارا لجلاله وجبروته وعظمته لقلنا: إنما يتم هذا الغرض إذا كان هناك شيء يستطيع الإنسان رؤيته، وما دام العرش المزعوم غير مرئي، ولا يُرى له أثر ولا معالم فكيف يتحقق الهدف المنشود إذا؟ ومما يدل على أن العرش هنا يعني الصفات الإلهية التنزيهية قولُ الله تعالى (لا إلَهَ إلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (المؤمنون: ۱۱۷) إذ يتبين من الآية أن للعرش الكريم علاقة خاصة بما يُثبت توحيد البارئ تعالى وبديهي أن الدليل الحقيقي الحيوي على توحيد البارئ إنما يتمثل في صفاته التنزيهية، ذلك أن صفات الله التشبيهيه يشاركه ويشابهه فيها أيضا المخلوق ولو إلى حد ما، ولذلك نجد ذوي العقول الساذجة يعانون معاناة = شديدة في فهم قضية توحيده سبحانه وتعالى.
التفسير الكبير م 3 ص 42, 42
الوحي الإلهي، ومنطوق الآية هو أن الله تعالى أقام حكومته على الناس بواسطة وحيه ليبلوهم أيّهم أحسن عملا. فالمراد من العلوم الدينية والدنيوية
كذلك يقول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. فإذا استنبطنا من الآية معنى ماديا، فهي تعطي المعنى نفسه المذكور في : وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ في: شَيْءٍ حَيّ. أي أظهر الله صفته الخالق بواسطة الماء. وإذا استنبطنا معنى روحانيا فالمراد من الماء هو الوحي الإلهي، ومنطوق الآية هو أن الله تعالى أقام حكومته على الناس بواسطة وحيه ليبلوهم أيّهم أحسن عملا. فالمراد من العلوم الدينية والدنيوية أيضا.
السياحة الروحانية - مجموعة خطابات Page 687
في النفس قبل الإبراز باللفظ قول، فيقال: في نفســـي قول لم أُظهره. الثالث للاعتقاد، نحو: فلان يقول بقول أبي حنيفة. (أي بعقيدة أبي حنيفة). الرابع: يقال للدلالة على الشيء، نحو قول الشاعر: امتلأ الحوض وقال قطني. وليس المراد أن الحوض تكلم باللسان بل المراد أنه قال بلسان حاله أنه قـــد امتلأ، ولم يبق فيه مكان للمزيد من وهناك أمثلة كثيرة على استخدام لفظ القول للدلالة على بيان الأمر الواقع، كقول الشاعر: الماء. قالت له العينان سمعا وطاعة... وحدّرتا كالدِّر لما يُتَقَّب
التفسير الكبير - المجلد الأول Page 429
الله وعل
يشعر في القرب منه. وحين يدرك المرء كل هذا، يفيض قلبه بحب بقوة عارمة من المحبة والإخلاص تجذبه نحو خالقه أكبر وأشد من تلك التي تجذب الطفل إلى أحضان أمه ؛ ويتوجه الله أيضًا إلى مثل هذا العبد بحبه ورحمتـــــه وحنانه، بأضعاف مضاعفة لحب الأم التي تندفع نحو وليدها الذي يبكي موجوعًا مكروبًا. الإنسان - مركز الكون يبين القرآن المجيد أن الله تعالى شاء أن يخلق كونًا يكون مظهرًا لعظمت ونوره، وأن هذا هو الغرض من خلق الكون. ويقول القرآن المجيد إن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، أي على مدى ستّة مراحل، وقبل ذلك كان الله تعالى يحكم على الماء. وكان غرض الله تعالى من خلق السماوات والأرض من الماء هو أن يأتي إلى الوجود بكائن له إرادة من أجل أن يختار بــين الخير والشر. وكان من المقدّر أن تمر هذه الكائنات بمختلف أنواع التجارب والابتلاءات، وأن تتنافس بعضها مع البعض في فعل الخير، وبذلك تبين أيهـا وصل إلى الكمال، وإلى هذا يشير قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)) (هود: (۸) وتبين هذه الآية الكريمة أن المادة كانت في شكل سائل قبل أن تأخذ شكلها الحالي، أو بمعنى آخر، بدأ خلق الكون المادي بذرة من الهيدروجين، وأن الكون كله تكوّن تدريجيًا منها. ويقول القرآن المجيد عن مرحلة ما قبل المادة: أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلِّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء: ۳۱) وتذكر الآية الكريمة أن السماء والأرض كانتا في أول الأمر عبارة عن كتلة واحدة لا شكل لها، ثم شطرها الله تعالى وفصل بين السماء والأرض، وكـــون منهما المجموعة الشمسية، ومنذ البداية كان دائمًا يخلق الحياة من الماء. وتبين مقدمة التفسير الوسيط ٤٩٣
التفسير الوسيط - الجزء الأول Page 529
تفيدهم.
هذه السياحة الروحانية يَتَفَكَّرُونَ . يتبين من هنا أن العلوم الدينية والدنيوية تكون نقيَّة مثل الماء، ولكن أفكار الناس السيئة التي هي مثل نبات الأرض، وتهيج في قلوبهم بين حين وآخر - تفسد الدين أو الدنيا، فتُصبح تلك العلوم حسرة على الناس بدلا من أن كذلك يقول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. فإذا استنبطنا من الآية معنى ماديا، فهي تعطي المعنى نفسه المذكور في : وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ في: شَيْءٍ حَيّ. أي أظهر الله صفته الخالق بواسطة الماء. وإذا استنبطنا معنى روحانيا فالمراد من الماء هو الوحي الإلهي، ومنطوق الآية هو أن الله تعالى أقام حكومته على الناس بواسطة وحيه ليبلوهم أيّهم أحسن عملا. فالمراد من العلوم الدينية والدنيوية أيضا. مماثلة رسول الله بمطر غزير الماء هو يقول رسول الله ﷺ عن نفسه: مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتْ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتْ الْكَلَا وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَت الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بَهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا . تعبير طعام روحي وشراب روحي في الإنجيل لم يُستخدم هذا التعبير في القرآن الكريم فقط بل ورد في الإنجيل أيضا؛ إذ جاء فيه : وَجَمِيعَهُمْ أَكَلُوا طَعَامًا وَاحِدًا رُوحِيًّا * وَجَمِيعَهُمْ شَرِبُوا شَرَابًا وَاحِدًا رُوحِيًّا، لأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ، وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ. يونس: ٢٥ هود ۸ الأنبياء: ٣١ صحيح البخاري؛ كتاب العلم، باب من عَلِمَ وَعَلَّمَ. رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ الأُولَى إِلَى أَهْلِ كُورِنْثُوسَ ١٠: ٣-٤
السياحة الروحانية - مجموعة خطابات Page 687
الإنسان - مركز الكون:
يبين القرآن المجيد أن الله تعالى شاء أن يخلق كونًا يكون مظهرًا لعظمت ونوره، وأن هذا هو الغرض من خلق الكون. ويقول القرآن المجيد إن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، أي على مدى ستّة مراحل، وقبل ذلك كان الله تعالى يحكم على الماء. وكان غرض الله تعالى من خلق السماوات والأرض من الماء هو أن يأتي إلى الوجود بكائن له إرادة من أجل أن يختار بــين الخير والشر. وكان من المقدّر أن تمر هذه الكائنات بمختلف أنواع التجارب والابتلاءات، وأن تتنافس بعضها مع البعض في فعل الخير، وبذلك تبين أيهـا وصل إلى الكمال، وإلى هذا يشير قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)) (هود: (۸) وتبين هذه الآية الكريمة أن المادة كانت في شكل سائل قبل أن تأخذ شكلها الحالي، أو بمعنى آخر، بدأ خلق الكون المادي بذرة من الهيدروجين، وأن الكون كله تكوّن تدريجيًا منها. ويقول القرآن المجيد عن مرحلة ما قبل المادة: أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلِّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء: ۳۱) وتذكر الآية الكريمة أن السماء والأرض كانتا في أول الأمر عبارة عن كتلة واحدة لا شكل لها، ثم شطرها الله تعالى وفصل بين السماء والأرض، وكـــون منهما المجموعة الشمسية، ومنذ البداية كان دائمًا يخلق الحياة من الماء. وتبين الآية أن العالم الروحي يتكوّن أيضًا بنفس الطريقة التي تكوّن بها العالم المادّي.
فحسب القوانين التي وضعها الله تعالى، فتق سبحانه كتلة المادة فحـــــدث فيهـا اضطراب وانشقاق ومن بقاياها المبعثرة تكونت المجموعة الشمسية. وكذلك يُحدث الله تعالى انقلابًا في العالم الروحاني، فعندما تتدهور الأحوال الروحية في المجتمع الإنساني، ويصبح الجو ممتلئا بالظلم والجور، يُظهر الله تعالى نورا من لدنه يسبب اضطرابا وانقساما في الظلام، ويهتز النظام القائم وينشق، ويخلق الله تعالى هذه الكتلة التي تبدو بلا حياة، نظامًا روحيًّا متحركا على نمط المجموعــــة الشمسية، يبدأ في الانتشار من المركز، ومع الوقت يشمل البلاد كلها أو الأرض بأكملها، حسب القوة الدافعة التي من ورائها. إن بداية الحياة في العالم المــادي تبدأ من الماء؛ وأيضًا تبدأ الحياة في العالم الروحي من الماء السماوي الذي هـو الوحي الإلهي. وحسب القرآن المجيد نعلم أن الكون المادي مرّ من مرحلة إلى أخرى، إلى أن أخذت الأرض شكلها الحالي، وتكونت فيها الخواص التي تساعد على قيام واستمرار حياة الإنسان ويبين القرآن المجيد أن خلق الإنسان كان هو الغرض النهائي من الخلق، أو على الأقل من خلق المجموعة الشمسية. وعندما جاءت هذه المرحلة خلق الله تعالى الإنسان في عالم المادة، ليكون هو مظهرًا للصفات الإلهية، وأن يكون مرآة يتجلّى فيها جمال صورة الله، ويكون الأساس الذي ينبني عليه العالم الروحاني. التفسير الوسيط 493 494
الجزء الأول
٠٥ سورة البقرة المعنى الذي بينته حيث قال تعالى ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (هود: (۸)، أي أن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة عصور خلقا تدريجيا، وأن عرش حكمه قائم على الماء الروحاني، أي على الوحي، لكي يرى من منكم هو أحسن عملا. أي بعد خلق السماوات والأرض بدأ الله حُكمه على الإنسان من خلال الوحي والإلهام، لكي تُتاح للناس الكُمَّل الفرصة لإبراز كفاءاتهم وليرتقوا إلى الدرجات العُلا وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة : ٣١) شرح الكلمات: قال: ورد في المفردات: القولُ يُستعمل على أوجه، أظهرها أن يكون للمركب من الحروف المبرز ،بالنطق، مفردًا كان أو جملة... الثاني: يقال للمتصوّر في النفس قبل الإبراز باللفظ قول، فيقال: في نفســـي قول لم أُظهره. الثالث للاعتقاد، نحو: فلان يقول بقول أبي حنيفة. (أي بعقيدة أبي حنيفة). الرابع: يقال للدلالة على الشيء، نحو قول الشاعر: امتلأ الحوض وقال قطني. وليس المراد أن الحوض تكلم باللسان بل المراد أنه قال بلسان حاله أنه قـــد امتلأ، ولم يبق فيه مكان للمزيد من وهناك أمثلة كثيرة على استخدام لفظ القول للدلالة على بيان الأمر الواقع، كقول الشاعر: الماء. قالت له العينان سمعا وطاعة... وحدّرتا كالدِّر لما يُتَقَّب
التفسير الكبير - المجلد الأول Page 429
الله وعل
يشعر في القرب منه. وحين يدرك المرء كل هذا، يفيض قلبه بحب بقوة عارمة من المحبة والإخلاص تجذبه نحو خالقه أكبر وأشد من تلك التي تجذب الطفل إلى أحضان أمه ؛ ويتوجه الله أيضًا إلى مثل هذا العبد بحبه ورحمتـــــه وحنانه، بأضعاف مضاعفة لحب الأم التي تندفع نحو وليدها الذي يبكي موجوعًا مكروبًا. الإنسان - مركز الكون يبين القرآن المجيد أن الله تعالى شاء أن يخلق كونًا يكون مظهرًا لعظمت ونوره، وأن هذا هو الغرض من خلق الكون. ويقول القرآن المجيد إن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، أي على مدى ستّة مراحل، وقبل ذلك كان الله تعالى يحكم على الماء. وكان غرض الله تعالى من خلق السماوات والأرض من الماء هو أن يأتي إلى الوجود بكائن له إرادة من أجل أن يختار بــين الخير والشر. وكان من المقدّر أن تمر هذه الكائنات بمختلف أنواع التجارب والابتلاءات، وأن تتنافس بعضها مع البعض في فعل الخير، وبذلك تبين أيهـا وصل إلى الكمال، وإلى هذا يشير قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)) (هود: (۸) وتبين هذه الآية الكريمة أن المادة كانت في شكل سائل قبل أن تأخذ شكلها الحالي، أو بمعنى آخر، بدأ خلق الكون المادي بذرة من الهيدروجين، وأن الكون كله تكوّن تدريجيًا منها. ويقول القرآن المجيد عن مرحلة ما قبل المادة: أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلِّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء: ۳۱) وتذكر الآية الكريمة أن السماء والأرض كانتا في أول الأمر عبارة عن كتلة واحدة لا شكل لها، ثم شطرها الله تعالى وفصل بين السماء والأرض، وكـــون منهما المجموعة الشمسية، ومنذ البداية كان دائمًا يخلق الحياة من الماء. وتبين مقدمة التفسير الوسيط ٤٩٣
التفسير الوسيط - الجزء الأول Page 529
تفيدهم.
هذه السياحة الروحانية يَتَفَكَّرُونَ . يتبين من هنا أن العلوم الدينية والدنيوية تكون نقيَّة مثل الماء، ولكن أفكار الناس السيئة التي هي مثل نبات الأرض، وتهيج في قلوبهم بين حين وآخر - تفسد الدين أو الدنيا، فتُصبح تلك العلوم حسرة على الناس بدلا من أن كذلك يقول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. فإذا استنبطنا من الآية معنى ماديا، فهي تعطي المعنى نفسه المذكور في : وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ في: شَيْءٍ حَيّ. أي أظهر الله صفته الخالق بواسطة الماء. وإذا استنبطنا معنى روحانيا فالمراد من الماء هو الوحي الإلهي، ومنطوق الآية هو أن الله تعالى أقام حكومته على الناس بواسطة وحيه ليبلوهم أيّهم أحسن عملا. فالمراد من العلوم الدينية والدنيوية أيضا. مماثلة رسول الله بمطر غزير الماء هو يقول رسول الله ﷺ عن نفسه: مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتْ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتْ الْكَلَا وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَت الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بَهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا . تعبير طعام روحي وشراب روحي في الإنجيل لم يُستخدم هذا التعبير في القرآن الكريم فقط بل ورد في الإنجيل أيضا؛ إذ جاء فيه : وَجَمِيعَهُمْ أَكَلُوا طَعَامًا وَاحِدًا رُوحِيًّا * وَجَمِيعَهُمْ شَرِبُوا شَرَابًا وَاحِدًا رُوحِيًّا، لأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ، وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ. يونس: ٢٥ هود ۸ الأنبياء: ٣١ صحيح البخاري؛ كتاب العلم، باب من عَلِمَ وَعَلَّمَ. رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ الأُولَى إِلَى أَهْلِ كُورِنْثُوسَ ١٠: ٣-٤
السياحة الروحانية - مجموعة خطابات Page 687
The end.
السابق صفحة
الجزء الأول
٠٥ سورة البقرة المعنى الذي بينته حيث قال تعالى ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (هود: (۸)، أي أن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة عصور خلقا تدريجيا، وأن عرش حكمه قائم على الماء الروحاني، أي على الوحي، لكي يرى من منكم هو أحسن عملا. أي بعد خلق السماوات والأرض بدأ الله حُكمه على الإنسان من خلال الوحي والإلهام، لكي تُتاح للناس الكُمَّل الفرصة لإبراز كفاءاتهم وليرتقوا إلى الدرجات العُلا
التفسير الكبير ج١ 429
غاية خلق الإنسان أن يسعى ليكون مظهرًا للصفات الإلهية، لأنه تعالى جاء بهذه الجملة بعد قوله (وكان
التفسير الكبير - المجلد الثالث Page 218
الجزء الثالث
۲۱۲ سورة هود عرشه على الماء ليبين أننا إنما نتجلى بهذه الصفات لكي تقوموا بأحسن ما يمكن من الأعمال، مما يؤكد أنه تعالى إنما يتجلى بها لكي يسعى الإنسان إلى تقليدها والاتصاف بها. كما أن قوله تعالى وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء يعني أيضًا أنه ما دامت قدرته تعالى لم تزل تتحكم في كل حلقة من سلسلة خلق الإنسان فكيف يمكن أن يخرج هذا الإنسان عن دائرة قدرة الله تعالى وحكمه. وهناك معنى ثالث لقوله تعالى ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء وهو: أن الله قد جعل ظهور صفاته منوطًا بوحيه وكلامه. ذلك أن القرآن قد شبّه الوحي الإلهي بالماء في مواضع عديدة منه، ولذلك فقد يراد بالماء هنا الوحي، والمعنى: أننا قدرنا ظهور من خلال الوحي لكي تهتموا بالعمل وتنتفعوا بهذه الصفات. والحق أنه تعالى لو لم يجعل الرقي الروحاني مشفوعا بالنعم المادية لحرم الكثيرون من هذا الرقي الروحاني، ولكنه تعالى قد أعلن سنته هذه بقوله كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلَبَنَّ أَنَا وَرُسُلي صفاتنا (المجادلة: (۲۲). فالذين يتشرفون بنعمة الوحي الإلهي يحققون هم وأتباعهم غلبة مادية ٢٢). الله أيضا، لكي ترى الدنيا كيف يعمل هؤلاء بوحي بعد نيل القوة والحكم. إن الآية تشير أيضًا إلى النظرية الإسلامية عن الارتقاء والتطور البشري حيث يعلن الحية سباق يُظهر فيه كلُّ كائن كائن حي بأن يصبح غاية للحياة. بمعنى سبحانه قائلاً إننا جعلنا عرشنا على الماء أي على عملية الحياة لكي يتم بين الكائنات ملكاته وقدراته، حتى يتضح في آخر المطاف أيّ هذه الكائنات الحية جدير من أن الهدف الأخير من عملية خلق الحياة إنما كان ينحصر في أن يخلق الله تعالى كائنا قادرًا على التجلي بالحياة على أكمل الوجوه. وهذا يبيّن جليا أن الإنسان لم يُخلق إلا في آخر مرحلة من مراحل شتى مرت بها عملية الخلق وتطورت. وهذا يعني أن الإسلام لا يعترف بكون الإنسان مخلوقا قد تطور من القرد أو أي حيوان آخر، غير أنه يعترف بكل تأكيد بأن الحياة لم تزل في تطور تدريجي إلى أن خُلق الإنسان، وإن كان الله قد دبّر تطوير بذرة خلقه منذ البداية بحيث لا يخرج منها في آخر المطاف إلا الإنسان.
التفسير الكبير - المجلد الثالث Page 219
الجزء الأول
٠٥ سورة البقرة المعنى الذي بينته حيث قال تعالى ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (هود: (۸)، أي أن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة عصور خلقا تدريجيا، وأن عرش حكمه قائم على الماء الروحاني، أي على الوحي، لكي يرى من منكم هو أحسن عملا. أي بعد خلق السماوات والأرض بدأ الله حُكمه على الإنسان من خلال الوحي والإلهام، لكي تُتاح للناس الكُمَّل الفرصة لإبراز كفاءاتهم وليرتقوا إلى الدرجات العُلا وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة : ٣١) شرح الكلمات: قال: ورد في المفردات: القولُ يُستعمل على أوجه، أظهرها أن يكون للمركب من الحروف المبرز ،بالنطق، مفردًا كان أو جملة... الثاني: يقال للمتصوّر في النفس قبل الإبراز باللفظ قول، فيقال: في نفســـي قول لم أُظهره. الثالث للاعتقاد، نحو: فلان يقول بقول أبي حنيفة. (أي بعقيدة أبي حنيفة). الرابع: يقال للدلالة على الشيء، نحو قول الشاعر: امتلأ الحوض وقال قطني. وليس المراد أن الحوض تكلم باللسان بل المراد أنه قال بلسان حاله أنه قـــد امتلأ، ولم يبق فيه مكان للمزيد من وهناك أمثلة كثيرة على استخدام لفظ القول للدلالة على بيان الأمر الواقع، كقول الشاعر: الماء. قالت له العينان سمعا وطاعة... وحدّرتا كالدِّر لما يُتَقَّب
التفسير الكبير - المجلد الأول Page 429
الله وعل
يشعر في القرب منه. وحين يدرك المرء كل هذا، يفيض قلبه بحب بقوة عارمة من المحبة والإخلاص تجذبه نحو خالقه أكبر وأشد من تلك التي تجذب الطفل إلى أحضان أمه ؛ ويتوجه الله أيضًا إلى مثل هذا العبد بحبه ورحمتـــــه وحنانه، بأضعاف مضاعفة لحب الأم التي تندفع نحو وليدها الذي يبكي موجوعًا مكروبًا. الإنسان - مركز الكون يبين القرآن المجيد أن الله تعالى شاء أن يخلق كونًا يكون مظهرًا لعظمت ونوره، وأن هذا هو الغرض من خلق الكون. ويقول القرآن المجيد إن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، أي على مدى ستّة مراحل، وقبل ذلك كان الله تعالى يحكم على الماء. وكان غرض الله تعالى من خلق السماوات والأرض من الماء هو أن يأتي إلى الوجود بكائن له إرادة من أجل أن يختار بــين الخير والشر. وكان من المقدّر أن تمر هذه الكائنات بمختلف أنواع التجارب والابتلاءات، وأن تتنافس بعضها مع البعض في فعل الخير، وبذلك تبين أيهـا وصل إلى الكمال، وإلى هذا يشير قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)) (هود: (۸) وتبين هذه الآية الكريمة أن المادة كانت في شكل سائل قبل أن تأخذ شكلها الحالي، أو بمعنى آخر، بدأ خلق الكون المادي بذرة من الهيدروجين، وأن الكون كله تكوّن تدريجيًا منها. ويقول القرآن المجيد عن مرحلة ما قبل المادة: أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلِّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء: ۳۱) وتذكر الآية الكريمة أن السماء والأرض كانتا في أول الأمر عبارة عن كتلة واحدة لا شكل لها، ثم شطرها الله تعالى وفصل بين السماء والأرض، وكـــون منهما المجموعة الشمسية، ومنذ البداية كان دائمًا يخلق الحياة من الماء. وتبين مقدمة التفسير الوسيط ٤٩٣
التفسير الوسيط - الجزء الأول Page 529
تفيدهم.
هذه السياحة الروحانية يَتَفَكَّرُونَ . يتبين من هنا أن العلوم الدينية والدنيوية تكون نقيَّة مثل الماء، ولكن أفكار الناس السيئة التي هي مثل نبات الأرض، وتهيج في قلوبهم بين حين وآخر - تفسد الدين أو الدنيا، فتُصبح تلك العلوم حسرة على الناس بدلا من أن كذلك يقول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. فإذا استنبطنا من الآية معنى ماديا، فهي تعطي المعنى نفسه المذكور في : وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ في: شَيْءٍ حَيّ. أي أظهر الله صفته الخالق بواسطة الماء. وإذا استنبطنا معنى روحانيا فالمراد من الماء هو الوحي الإلهي، ومنطوق الآية هو أن الله تعالى أقام حكومته على الناس بواسطة وحيه ليبلوهم أيّهم أحسن عملا. فالمراد من العلوم الدينية والدنيوية أيضا. مماثلة رسول الله بمطر غزير الماء هو يقول رسول الله ﷺ عن نفسه: مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتْ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتْ الْكَلَا وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَت الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بَهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا . تعبير طعام روحي وشراب روحي في الإنجيل لم يُستخدم هذا التعبير في القرآن الكريم فقط بل ورد في الإنجيل أيضا؛ إذ جاء فيه : وَجَمِيعَهُمْ أَكَلُوا طَعَامًا وَاحِدًا رُوحِيًّا * وَجَمِيعَهُمْ شَرِبُوا شَرَابًا وَاحِدًا رُوحِيًّا، لأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ، وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ. يونس: ٢٥ هود ۸ الأنبياء: ٣١ صحيح البخاري؛ كتاب العلم، باب من عَلِمَ وَعَلَّمَ. رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ الأُولَى إِلَى أَهْلِ كُورِنْثُوسَ ١٠: ٣-٤
السياحة الروحانية - مجموعة خطابات Page 687
أما قوله تعالى:
(وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ، فاعلم أن القرآن الكريم قد صرّح في عدة أماكن فيه أن الماء منبع الحياة كقوله تعالى (أَلَمْ نَخْلُقكُم مِّن مَّاء مَّهِينٍ (المرسلات (۲۱)، وقوله فَلْيَنظُر الإنسَانُ مِمَّ خُلقَ خُلقَ من ماء دافق (الطارق: ٦و٧)، وقوله وَهُوَ الَّذي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصَهْرًا) (الفرقان: ٥٥)، وقوله أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء: ۳۱). وهكذا يؤكد القرآن مرارًا وتكرارًا أن الحياة خُلقت من الماء. فالمراد من قوله تعالى ( وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء أن صفات الله الكاملة إنما ظهرت من خلال كائنات ذات حياة. وأيُّ شك في أن الصفات الإلهية إنما تظهر ظهورا كاملاً عن طريق الإنسان الذي هو آخر وأفضل حلقة في سلسلة الحياة. وإن قوله تعالى (لَيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً أَيضًا يؤكد المعنى الذي ذكرته آنفًا. ذلك أن العرش لو كان موضوعًا على الماء المادي في الحقيقة وينحسم - كما يزعم البعض- فكيف يتم به اختبار الأعمال الإنسانية؟ ولكن ما ذكرته من معنى لا يُبقي أي إشكال وينحسم المعنى في الجملتين تماما، إذ إن المراد الحقيقي منهما أن الله عز وجل قد قدر ظهور صفاته الكاملة من خلال المخلوقات الحية، لكي يرى سبحانه أي الناس سينتفع بهذه الصفات ويسبق غيره في مضمار الرقي الروحاني. كما أن قوله تعالى ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً يشير إلى أن غاية خلق الإنسان أن يسعى ليكون مظهرًا للصفات الإلهية، لأنه تعالى جاء بهذه الجملة بعد قوله (وكان
كم وظروفًا لرقيكم، حيث لم يزل يطوّر الحياة إلى أن خلق الإنسان. ألا تدركون من تدركون من ذلك أنه جعله غاية خلق الكون كله؟ ثم فكّروا لماذا جعله غاية الخلق؟ لا شك أن هو ما أُودع هذا الإنسان من ملكات روحانية فكيف يمكن أن يهمل الله ملكاته الروحانية هذه، ولا يهيئ لتنميتها وتطويرها ظروفًا ملائمة؟ ذلك سبب أما قوله تعالى (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ، فاعلم أن القرآن الكريم قد صرّح في عدة أماكن فيه أن الماء منبع الحياة كقوله تعالى (أَلَمْ نَخْلُقكُم مِّن مَّاء مَّهِينٍ (المرسلات (۲۱)، وقوله فَلْيَنظُر الإنسَانُ مِمَّ خُلقَ خُلقَ من ماء دافق (الطارق: ٦و٧)، وقوله وَهُوَ الَّذي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصَهْرًا) (الفرقان: ٥٥)، وقوله أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء: ۳۱). وهكذا يؤكد القرآن مرارًا وتكرارًا أن الحياة خُلقت من الماء. فالمراد من قوله تعالى ( وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء أن صفات الله الكاملة إنما ظهرت من خلال كائنات ذات حياة. وأيُّ شك في أن الصفات الإلهية إنما تظهر ظهورا كاملاً عن طريق الإنسان الذي هو آخر وأفضل حلقة في سلسلة الحياة. وإن قوله تعالى (لَيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً أَيضًا يؤكد المعنى الذي ذكرته آنفًا. ذلك أن العرش لو كان موضوعًا على الماء المادي في الحقيقة وينحسم - كما يزعم البعض- فكيف يتم به اختبار الأعمال الإنسانية؟ ولكن ما ذكرته من معنى لا يُبقي أي إشكال المعنى في الجملتين تماما، إذ إن المراد الحقيقي منهما أن الله عز وجل قد قدر ظهور صفاته الكاملة من خلال المخلوقات الحية، لكي يرى سبحانه أي الناس سينتفع بهذه الصفات ويسبق غيره في مضمار الرقي الروحاني. كما أن قوله تعالى ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً يشير إلى أن غاية خلق الإنسان أن يسعى ليكون مظهرًا للصفات الإلهية، لأنه تعالى جاء بهذه الجملة بعد قوله (وكان
التفسير الكبير - المجلد الثالث Page 218
الجزء الثالث
۲۱۲ سورة هود عرشه على الماء ليبين أننا إنما نتجلى بهذه الصفات لكي تقوموا بأحسن ما يمكن من الأعمال، مما يؤكد أنه تعالى إنما يتجلى بها لكي يسعى الإنسان إلى تقليدها والاتصاف بها. كما أن قوله تعالى وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء يعني أيضًا أنه ما دامت قدرته تعالى لم تزل تتحكم في كل حلقة من سلسلة خلق الإنسان فكيف يمكن أن يخرج هذا الإنسان عن دائرة قدرة الله تعالى وحكمه. وهناك معنى ثالث لقوله تعالى ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء وهو: أن الله قد جعل ظهور صفاته منوطًا بوحيه وكلامه. ذلك أن القرآن قد شبّه الوحي الإلهي بالماء في مواضع عديدة منه، ولذلك فقد يراد بالماء هنا الوحي، والمعنى: أننا قدرنا ظهور من خلال الوحي لكي تهتموا بالعمل وتنتفعوا بهذه الصفات. والحق أنه تعالى لو لم يجعل الرقي الروحاني مشفوعا بالنعم المادية لحرم الكثيرون من هذا الرقي الروحاني، ولكنه تعالى قد أعلن سنته هذه بقوله كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلَبَنَّ أَنَا وَرُسُلي صفاتنا (المجادلة: (۲۲). فالذين يتشرفون بنعمة الوحي الإلهي يحققون هم وأتباعهم غلبة مادية ٢٢). الله أيضا، لكي ترى الدنيا كيف يعمل هؤلاء بوحي بعد نيل القوة والحكم. إن الآية تشير أيضًا إلى النظرية الإسلامية عن الارتقاء والتطور البشري حيث يعلن الحية سباق يُظهر فيه كلُّ كائن كائن حي بأن يصبح غاية للحياة. بمعنى سبحانه قائلاً إننا جعلنا عرشنا على الماء أي على عملية الحياة لكي يتم بين الكائنات ملكاته وقدراته، حتى يتضح في آخر المطاف أيّ هذه الكائنات الحية جدير من أن الهدف الأخير من عملية خلق الحياة إنما كان ينحصر في أن يخلق الله تعالى كائنا قادرًا على التجلي بالحياة على أكمل الوجوه. وهذا يبيّن جليا أن الإنسان لم يُخلق إلا في آخر مرحلة من مراحل شتى مرت بها عملية الخلق وتطورت. وهذا يعني أن الإسلام لا يعترف بكون الإنسان مخلوقا قد تطور من القرد أو أي حيوان آخر، غير أنه يعترف بكل تأكيد بأن الحياة لم تزل في تطور تدريجي إلى أن خُلق الإنسان، وإن كان الله قد دبّر تطوير بذرة خلقه منذ البداية بحيث لا يخرج منها في آخر المطاف إلا الإنسان.
التفسير الكبير - المجلد الثالث Page 219
الجزء الأول
٠٥ سورة البقرة المعنى الذي بينته حيث قال تعالى ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (هود: (۸)، أي أن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة عصور خلقا تدريجيا، وأن عرش حكمه قائم على الماء الروحاني، أي على الوحي، لكي يرى من منكم هو أحسن عملا. أي بعد خلق السماوات والأرض بدأ الله حُكمه على الإنسان من خلال الوحي والإلهام، لكي تُتاح للناس الكُمَّل الفرصة لإبراز كفاءاتهم وليرتقوا إلى الدرجات العُلا وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة : ٣١) شرح الكلمات: قال: ورد في المفردات: القولُ يُستعمل على أوجه، أظهرها أن يكون للمركب من الحروف المبرز ،بالنطق، مفردًا كان أو جملة... الثاني: يقال للمتصوّر في النفس قبل الإبراز باللفظ قول، فيقال: في نفســـي قول لم أُظهره. الثالث للاعتقاد، نحو: فلان يقول بقول أبي حنيفة. (أي بعقيدة أبي حنيفة). الرابع: يقال للدلالة على الشيء، نحو قول الشاعر: امتلأ الحوض وقال قطني. وليس المراد أن الحوض تكلم باللسان بل المراد أنه قال بلسان حاله أنه قـــد امتلأ، ولم يبق فيه مكان للمزيد من وهناك أمثلة كثيرة على استخدام لفظ القول للدلالة على بيان الأمر الواقع، كقول الشاعر: الماء. قالت له العينان سمعا وطاعة... وحدّرتا كالدِّر لما يُتَقَّب
التفسير الكبير - المجلد الأول Page 429
الله وعل
يشعر في القرب منه. وحين يدرك المرء كل هذا، يفيض قلبه بحب بقوة عارمة من المحبة والإخلاص تجذبه نحو خالقه أكبر وأشد من تلك التي تجذب الطفل إلى أحضان أمه ؛ ويتوجه الله أيضًا إلى مثل هذا العبد بحبه ورحمتـــــه وحنانه، بأضعاف مضاعفة لحب الأم التي تندفع نحو وليدها الذي يبكي موجوعًا مكروبًا. الإنسان - مركز الكون يبين القرآن المجيد أن الله تعالى شاء أن يخلق كونًا يكون مظهرًا لعظمت ونوره، وأن هذا هو الغرض من خلق الكون. ويقول القرآن المجيد إن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، أي على مدى ستّة مراحل، وقبل ذلك كان الله تعالى يحكم على الماء. وكان غرض الله تعالى من خلق السماوات والأرض من الماء هو أن يأتي إلى الوجود بكائن له إرادة من أجل أن يختار بــين الخير والشر. وكان من المقدّر أن تمر هذه الكائنات بمختلف أنواع التجارب والابتلاءات، وأن تتنافس بعضها مع البعض في فعل الخير، وبذلك تبين أيهـا وصل إلى الكمال، وإلى هذا يشير قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)) (هود: (۸) وتبين هذه الآية الكريمة أن المادة كانت في شكل سائل قبل أن تأخذ شكلها الحالي، أو بمعنى آخر، بدأ خلق الكون المادي بذرة من الهيدروجين، وأن الكون كله تكوّن تدريجيًا منها. ويقول القرآن المجيد عن مرحلة ما قبل المادة: أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلِّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء: ۳۱) وتذكر الآية الكريمة أن السماء والأرض كانتا في أول الأمر عبارة عن كتلة واحدة لا شكل لها، ثم شطرها الله تعالى وفصل بين السماء والأرض، وكـــون منهما المجموعة الشمسية، ومنذ البداية كان دائمًا يخلق الحياة من الماء. وتبين مقدمة التفسير الوسيط ٤٩٣
التفسير الوسيط - الجزء الأول Page 529
كذلك يقول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. فإذا استنبطنا من الآية معنى ماديا، فهي تعطي المعنى نفسه المذكور في : وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ في: شَيْءٍ حَيّ. أي أظهر الله صفته الخالق بواسطة الماء. وإذا استنبطنا معنى روحانيا فالمراد من الماء هو الوحي الإلهي، ومنطوق الآية هو أن الله تعالى أقام حكومته على الناس بواسطة وحيه ليبلوهم أيّهم أحسن عملا. فالمراد من العلوم الدينية والدنيوية أيضا. مماثلة رسول الله بمطر غزير الماء هو يقول رسول الله ﷺ عن نفسه: مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتْ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتْ الْكَلَا وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَت الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بَهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا . تعبير طعام روحي وشراب روحي في الإنجيل لم يُستخدم هذا التعبير في القرآن الكريم فقط بل ورد في الإنجيل أيضا؛ إذ جاء فيه : وَجَمِيعَهُمْ أَكَلُوا طَعَامًا وَاحِدًا رُوحِيًّا * وَجَمِيعَهُمْ شَرِبُوا شَرَابًا وَاحِدًا رُوحِيًّا، لأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ، وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ. يونس: ٢٥ هود ۸ الأنبياء: ٣١ صحيح البخاري؛ كتاب العلم، باب من عَلِمَ وَعَلَّمَ. رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ الأُولَى إِلَى أَهْلِ كُورِنْثُوسَ ١٠: ٣-٤
السياحة الروحانية - مجموعة خطابات Page 687
التفسير : يقول الله تعالى : انظروا كيف أن الله هيأ بالتدريج أسبابًا لخلقكم وظروفًا لرقيكم، حيث لم يزل يطوّر الحياة إلى أن خلق الإنسان. ألا تدركون من تدركون من ذلك أنه جعله غاية خلق الكون كله؟ ثم فكّروا لماذا جعله غاية الخلق؟ لا شك أن هو ما أُودع هذا الإنسان من ملكات روحانية فكيف يمكن أن يهمل الله ملكاته الروحانية هذه، ولا يهيئ لتنميتها وتطويرها ظروفًا ملائمة؟ ذلك سبب أما قوله تعالى (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ، فاعلم أن القرآن الكريم قد صرّح في عدة أماكن فيه أن الماء منبع الحياة كقوله تعالى (أَلَمْ نَخْلُقكُم مِّن مَّاء مَّهِينٍ (المرسلات (۲۱)، وقوله فَلْيَنظُر الإنسَانُ مِمَّ خُلقَ خُلقَ من ماء دافق (الطارق: ٦و٧)، وقوله وَهُوَ الَّذي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصَهْرًا) (الفرقان: ٥٥)، وقوله أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء: ۳۱). وهكذا يؤكد القرآن مرارًا وتكرارًا أن الحياة خُلقت من الماء. فالمراد من قوله تعالى ( وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء أن صفات الله الكاملة إنما ظهرت من خلال كائنات ذات حياة. وأيُّ شك في أن الصفات الإلهية إنما تظهر ظهورا كاملاً عن طريق الإنسان الذي هو آخر وأفضل حلقة في سلسلة الحياة. وإن قوله تعالى (لَيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً أَيضًا يؤكد المعنى الذي ذكرته آنفًا. ذلك أن العرش لو كان موضوعًا على الماء المادي في الحقيقة وينحسم - كما يزعم البعض- فكيف يتم به اختبار الأعمال الإنسانية؟ ولكن ما ذكرته من معنى لا يُبقي أي إشكال المعنى في الجملتين تماما، إذ إن المراد الحقيقي منهما أن الله عز وجل قد قدر ظهور صفاته الكاملة من خلال المخلوقات الحية، لكي يرى سبحانه أي الناس سينتفع بهذه الصفات ويسبق غيره في مضمار الرقي الروحاني. كما أن قوله تعالى ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً يشير إلى أن غاية خلق الإنسان أن يسعى ليكون مظهرًا للصفات الإلهية، لأنه تعالى جاء بهذه الجملة بعد قوله (وكان عرشه على الماء ليبين أننا إنما نتجلى بهذه الصفات لكي تقوموا بأحسن ما يمكن من الأعمال، مما يؤكد أنه تعالى إنما يتجلى بها لكي يسعى الإنسان إلى تقليدها والاتصاف بها. كما أن قوله تعالى وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء يعني أيضًا أنه ما دامت قدرته تعالى لم تزل تتحكم في كل حلقة من سلسلة خلق الإنسان فكيف يمكن أن يخرج هذا الإنسان عن دائرة قدرة الله تعالى وحكمه. وهناك معنى ثالث لقوله تعالى ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء وهو: أن الله قد جعل ظهور صفاته منوطًا بوحيه وكلامه. ذلك أن القرآن قد شبّه الوحي الإلهي بالماء في مواضع عديدة منه، ولذلك فقد يراد بالماء هنا الوحي، والمعنى: أننا قدرنا ظهور من خلال الوحي لكي تهتموا بالعمل وتنتفعوا بهذه الصفات. والحق أنه تعالى لو لم يجعل الرقي الروحاني مشفوعا بالنعم المادية لحرم الكثيرون من هذا الرقي الروحاني، ولكنه تعالى قد أعلن سنته هذه بقوله كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلَبَنَّ أَنَا وَرُسُلي صفاتنا (المجادلة: (۲۲). فالذين يتشرفون بنعمة الوحي الإلهي يحققون هم وأتباعهم غلبة مادية ٢٢). الله أيضا، لكي ترى الدنيا كيف يعمل هؤلاء بوحي بعد نيل القوة والحكم. إن الآية تشير أيضًا إلى النظرية الإسلامية عن الارتقاء والتطور البشري حيث يعلن الحية سباق يُظهر فيه كلُّ كائن كائن حي بأن يصبح غاية للحياة. بمعنى سبحانه قائلاً إننا جعلنا عرشنا على الماء أي على عملية الحياة لكي يتم بين الكائنات ملكاته وقدراته، حتى يتضح في آخر المطاف أيّ هذه الكائنات الحية جدير من أن الهدف الأخير من عملية خلق الحياة إنما كان ينحصر في أن يخلق الله تعالى كائنا قادرًا على التجلي بالحياة على أكمل الوجوه. وهذا يبيّن جليا أن الإنسان لم يُخلق إلا في آخر مرحلة من مراحل شتى مرت بها عملية الخلق وتطورت. وهذا يعني أن الإسلام لا يعترف بكون الإنسان مخلوقا قد تطور من القرد أو أي حيوان آخر، غير أنه يعترف بكل تأكيد بأن الحياة لم تزل في تطور تدريجي إلى أن خُلق الإنسان، وإن كان الله قد دبّر تطوير بذرة خلقه منذ البداية بحيث لا يخرج منها في آخر المطاف إلا الإنسان.
التفسير الكبير م ٣ ص 218 219
تعليقات
إرسال تعليق