التخطي إلى المحتوى الرئيسي

 التدريب الروحاني:

كان جدي، تشودري اسكندر خان متدينا تقيا، وفي عام ١٨٩٧ حج إلى مكة المكرمة، وزار المدينة المنورة أيضًا، وقد دوّن كامل أحداث رحلته التي كانت في تلك الأيام عسيرة جدًا؛ فقد سافر جدي في قافلة من جدة إلى المدينة عن طريق البحر إلى ينبع، ثم سافر برا إلى المدينة، وعاد بنفس الطريق. وبعد عودته إلى بلاده، قال لجدتي إنه قد دعا لي في كل الأوقات. لم يكن الحج في ذلك الوقت مجرد مشقة جسدية، بل كان يشكل خطرًا جسيمًا على الصحة والحياة، وقد أودى مرض الزحار بحياة العديدين، وبدأ أحد رفاق جدي يعاني من الزحار قبل الوصول إلى مومباي، وتوفي بعد وقت قصير من وصوله إلى الوطن، أما المرافق الآخر، فقد بدأت تظهر عليه أعراض المرض بعد فترة قصيرة من عودته للوطن وتوفي بعد أيام قليلة. أما جدي فبقى بصحة جيدة لعدة أشهر بعد عودته ثم مرض بالزحار، وفي غضون بضعة أيام أصبحت حالته خطيرة، فانتاب والدي القلق وداوم على زيارته كل مساء. الطريق من سيالكوت إلى دسكه تبلغ ستة عشر ميلا، ولم تكن معبدة بعد، فكان والدي يقود حصانه إلى دسكه بعد ظهر كل يوم بعد انتهاء ساعات عمله في المحكمة، ويعود إلى سيالكوت في صباح اليوم التالي، و كان ذلك في شهر شباط / فبراير، وكانت رحلة العودة خلال ساعات الصباح الأولى على ظهر الخيل متعبة. وقد استمرت حالة والده بالتدهور، فبقي معه طوال الوقت في آخر يوم.
عندما وصلت برقية خبر وفاة جدي إلى أمي ذات الأطفال الثلاثة، صبيين وفتاة واحدة، غادرت سيالكوت على الفور إلى دسكه. لقد كان والد زوجها لطيفًا وكريما جدًا معها على الدوام، لذا فقد حطمها الحزن على وفاته. تجمّع الأقارب والأصدقاء والمعجبون به والمواسون بأعداد كبيرة في دسكه وحضر الجنازة عدد كبير. ولقد كان جدي نفسه يرفض طقوس الحداد عند الهندوس المتمثلة بالنواح والندب على الميت والتي كانت سائدة بين المسلمين أيضا في المناطق الريفية، ولكنه لم يعد موجودًا الآن لينهى نساء الأسرة، بما فيهن أمي عن التنفيس عن حزنهن بالعويل. ومع أن الموت يدعو لضبط النفس والكرامة والثبات، بيد أن تحنُّب العرف والتقليد ليس سهلاً. وبعد فترة قصيرة من وفاة جدي، رأته والدتي في المنام يأخذها في رحلة لرؤية بعض المعالم، وكان أول مشهد أراها إياه منظر جهنم حيث كانت بعض النساء يعذَّبن عذابًا رهيبا؛ فقال لها إنهن تلك النسوة اللواتي يندبن الموتى، ونبهها إلى أن معاناتهن ينبغي أن تكون درسًا لها، وأنها يجب أن تتجنب مثل هذه الممارسات. ثم أخذها وأراها قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقبر ابنته فاطمة رضي الله عنها، وكانت هذه القبور في حديقة جميلة يعلوها نافورة مياه شديدة الصفاء، فغسلت وجهها وذراعيها كما لو أنها تتوضأ للصلاة، واستغفرت الله لذنبها. لم يكن سهلاً عليها أن تمتنع كليًّا عن ندب الموتى ولكنها صمّمت على ذلك بإخلاص. وحين توفي أحد أقاربها المقربين اشتركت في بعض ممارسات الحداد خوفًا من لوم قريباتها، رغم أنها كانت قد ابتعدت عن الانغماس في هذه الطقوس وكانت تشعر بالاشمئزاز تجاهها. بعد ذلك رأت عدة رؤى على التوالي أن مجموعة من النمل تتشبث بجسدها، وأنها تبذل جهدها لإزاحتها وإزالتها عنها، ولكن دون جدوى، فكلما أزاحت بيدها حفنة منها هاجمتها حفنات، وكانت تستيقظ في منتصف الرؤيا من شدة ما ناضلت، ولكن عندما تعاود النوم يبدأ نفس الكابوس من جديد، وهكذا جفاها النوم المريح. فأدركت أنها تعاقب على خرقها عهد التوبة عن الحداد، فانهمكت في الاستغفار وصممت على مقاطعة جميع هذه الممارسات. وبعد أيام قليلة، رأت في الرؤيا والد زوجها مرة أخرى يوبخها على تقصيرها، وينبهها إلى ضرورة التقيد بقرارها بتصميم، ثم أعطاها ملاءة نظيفة وأشار إلى بركة مياه صافية وطلب منها أن تستخدم الملاءة كساتر وأن تغسل نفسها في البركة النظيفة. فعندما دخلت البركة وتقدمت نحو المياه العميقة تساقط النمل عن جسدها حتى تخلصت منه نهائيًا، وشعرت بارتياح كبير، واستيقظت منتعشة، وشكرت الله تعالى بامتنان كبير على رحمته بها، ووعدته أنها لن تخطئ مرة أخرى أبدا.
بعد ذلك بوقت قصير، وُضعت في الاختبار مرة أخرى؛ فقد توفي الابن الأكبر لشقيق والدي الصغير، فلم تستطع أمي الامتناع تماما عن
المشاركة في طقوس الحداد، وعندما خلدت إلى النوم رأت ثورين لهما قرون طويلة يطاردانها كأنهما يريدان بقر جسدها بقرونهما، فركضت مذعورة تبحث عن مأوى، وكان الثوران يدركانها أحيانًا فيوقعان بجسدها بعض الجروح، وهكذا جفاها النوم مرة أخرى؛ فأمضت ليلتها تتضرع إلى الله تعالى بإلحاح شديد طالبة منه الصفح والغفران. وقد أثارت حالتها هذه شفقة زوجها عليها، فتضرع بقوة هو أيضا الله تعالى بالنيابة عنها؛ ولكن الحلم المزعج تكرر خلال الشهر كله. وفي النهاية، 
حلمت بوالد زوجها مرة أخرى يوبخها بشدة ويحذرها بأن هذه فرصتها الأخيرة للتوبة ولن يغفر لها أي تراجع بعدها، ثم أمسك بالثيران، ولكنها لم تتمكن من تجاوزها دون أن تصاب بأذى.

وجاء اختبار إيمانها التالي في وقت لاحق عندما توفي الابن الأكبر الشقيقة والدي الكبرى، وكان شابا وسيمًا، وقد ذهبت أمي إلى منزل أخت زوجها للعزاء، وكان العرف في المناطق الريفية أنه عندما تأتي النساء للعزاء بقريب متوفى تتجمع نساء القرية على أسطح منازلهن للاستماع إلى عويل المعزّيات المرتفع، وفي هذه المناسبة كانت أمي من بين مجموعة أقرباء عمتي الثكلى، وعندما نزلن بالقرب من قريتها نبهت أمي صاحباتها أن يمضين بهدوء إلى منزلها وأن لا يبدين أي تصرف لإظهار الحزن وأصيبت المتفرجات بتقدمهن الصامت بخيبة أمل، فقالت إحداهن ساخرة سيداتي، يمكنكن أن تمشين وأنتن تضحكن أيضًا. فسمعن ذلك وتحملن السخرية بصمت، ووصلن إلى منزل الحداد في حالة لا تظهر الحزن ولم يشتركن بالنحيب أيضًا.

انتشار الطاعون فيما بعد قضى على طقوس الحداد السائدة بين الأسر الريفية، حيث مزّق الوباء البلدة لعدة سنوات في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

   
ظلت والدتي تتدرب على القيم الروحية والأخلاقية من خلال الرؤى التي كانت ترى فيها جدي غالبًا. وفي إحدى المرات من عام ١٩٠٣، طلبت منه في رؤيا تغيير الروبية الزائفة التي تمتلكها، فأخذها منها وأعطاها واحدة بدلا منها قائلا: هذه هي الروبية الوحيدة التي لدي، اعتني بها جيدًا لأنه مطبوع عليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله. ففهمت من الرؤيا أنها سترزق بطفل جديد ولكن ابنها الثالث، حمد الله خان، الذي كان ضعيفًا إلى حد ما سيموت وهذا ما كان. فقد ولد أسد الله خان بعد أشهر قليلة، وبعدها بفترة قصيرة توفي حمد الله خان من الحصبة، فتحمل الوالدان المكلومان هذه الخسارة بثبات يُحتذى به.

الملاذ الروحاني:
كان المولوي مبارك علي - وهو ابن المولوي فضل أحمد الذي تشرف بأن يكون أحد معلمي سيدنا ميرزا غلام أحمد في طفولته - إمامــــا ومشرفًا على مسجد الجمعة في معسكر سيالكوت، وكانت هناك أرض زراعية كبيرة تابعة لهذا المسجد، وقد مكن إنتاج هذه الأرض المولــــوي الحفاظ على حسن تنظيم المسجد ومن إعالة نفسه بشكل جيد. وحدث أن انضمّ المولوي مبارك علي إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية في أواخر القرن التاسع عشر، فأدين بشدة من قبل المشايخ المتعصبين بسبب عقائده الخاصة، وأصبح ذلك يقض مضاجع أعــــداد 
ضخمة من المصلين في المسجد، مما أثار التعصب والعداوة تدريجيا. 

في النهاية رفع عدد من المصلين في المسجد دعوى مدنية ضد المولوي مبارك علي زاعمين أنه قد أصبح كافرًا بسبب انضمامه إلى الجماعة، وأنه لم يعد كفئًا للعمل كشيخ أو كإمام المسجد. و لم يكن هنالك في ذلــك الوقت محام أحمدي في سيالكوت، وكان والدي قد وكل محاميًا للمدعى عليه، فاضطر بحكم الضرورة لإعداد دراسة شاملة للأسئلة المذهبية التي طرحها المدعون لدعم ادعائهم أن الأحمدي لا يمكن اعتباره مسلما، فوجد والدي نفسه متعاطفا مع آراء الأحمدية. وهناك مسألة أخرى مع أثرت فيه تأثيراً عميقاً؛ وهي أن المدعين وشهودهم لم يترددوا في الكذب أو المراوغة عند استجوابهم إذا رأوا بأن الصدق قد يمس قضيتهم، رغم أنهم أدلوا بشهاداتهم بعد أداء القسم. في حين أن المدعى عليه والشهود الأحمديين تقيدوا بدقة بقول الحق بغض النظر فيما إذا كان هذا سيؤثر سلبًا على نتيجة القضية، فشعر والدي بأن المعايير الأخلاقية العالية الواضحة للعيان كانت مؤشرًا على مدى صدقهم. وكانت النتائج التي توصل إليها القاضي في صالح المدعى عليه ورفضت الدعوى. استأنف المدَّعون حُكْمَ القاضي الذي ثبتته محكمة الاستئناف، فرفض استئنافهم أيضًا. هذه الدعوى القضائية جعلت والدي يميل جدا نحو الأحمدية. وفي وقت لاحق استدعي والدي للمثول في محكمة الحاكم في غورداســبـور شاهد دفاع في قضية جنائية كان حضرة ميرزا غلام أحمد عليه الصلاة والسلام مؤسس الجماعة الأحمدية يحاكم فيها بتهمة تشويه سمعة المولوي کرم الدين، وهو من أشد معارضيه. هذه المحاكمة أتاحت لوالدي فرصة للقاء تلك الشخصية الفذة، وقد أعجب كثيرًا بشخصيته الكريمة وبروحانيته العالية جدا. فبدأ يبحث في أمر الجماعة الإسلامية الأحمدية بحماس، وأصبح مشتركًا دائما بجريدة "الحكم" الأسبوعية، وبدأ يحضر يوميا درس القرآن الكريم الذي يلقيه المولوي عبد الكريم الصحابي البارز للمسيح الموعود. لم يكن والدي في أي وقت من الأوقات معارضا للجماعة الأحمدية، لكنه اتبع سبيل التفكير المدروس وعزم على أن يتخذ قراره بعد تفكير دقيق وعميق. 
في ذلك الوقت، كان والد أمي وشقيقها قد انضما إلى الجماعة الأحمدية، ولكن أمي كانت لا تعرف سوى قدر قليل عنها، ثم في ربيع وصيف عام ۱۹۰٤ رأت مجموعة من الرؤى التي كان لها كبير الأثر عليها، وفيما يلي تلخيص بعض هذه الرؤى: لقد رأت أن هناك صخبًا كبيرًا في الشارع، وكان الناس يرتدون أفضل ملابسهم، وكانوا جميعا يسيرون في نفس الاتجاه، ففهمت أنهم كانوا في طريقهم لمشاهدة مشهد مهيب. فقالت لزوجها: دعنا نذهب أيضًا في سيارتنا، فوافق على ذلك. وبينما كانوا في طريقهم نادى على والدي المحامي تشودري محمد أمين من منزله، فعاد أدراجه لمقابلته، فتابعت أمي بمفردها إلى سهل واسع حيث تجمع الناس. كان هنالك حشد هائل من الناس الذين تشبّث بعضهم بفروع الأشجار، وكان هناك فضاء مفتوح في الوسط علق فوقه مَهْدٌ تحمله حبال تصل إلى السماء، وشعرت أن هناك طيفا في المهد لم يكن واضحا للعيان، وعلى جانب السهل، كان هناك مجموعة من المقاعد، وكان اثنان منها شاغرين ، فذهبت وجلست على أحدهما وحجزت الآخر لزوجها الذي كان من المتوقع أن ينضم إليها قريبًا. فبدأ المهد يتأرجح من الشرق إلى الغرب ثم إلى الخلف، وكان يشع نوراً، وكلما تأرجح ازداد إشعاع النور منه، وكلما تأرجح المهد في أي اتجاه صرخ الناس على ذلك الجانب بابتهاج: مرحبا برسول الله .. مرحبًا برسول الله . وفي نهاية المطاف، تأرجح المهد على امتداد أصقاع الأرض جميعها. وكان هذا الكشف تجربة روحية ذات فحوى هامة، إنها تبشر بعدة أحداث سوف تظهر في سياقها المناسب.
بعد ذلك بفترة، رأت في الرؤيا كما لو كانت على وشك الذهاب إلى مكة المكرمة في الساعات الأولى من الصباح. ثم شعرت أنها تسافر على إيكا وهي عربة مريحة يجرها حصان كانت تستخدم على الطرق المتربة في تلك الأيام - وعند منتصف النهار ، أوقف السائق الإيكا قرب شجرة تين البنغال، فقالت له إنها تريد الذهاب إلى مكة المكرمة، فأجابها أنها قد وصلت إلى مكة المكرمة. فاستغربت من أن الرحلة تمت في حوالي اثنتي عشرة ساعة فقط، فترجلت من العربة وسارت في شارع ضيق أفضى بها إلى منزل، فصعدت إلى الطابق الأول، فشاهدت هناك مقعدًا خشبيا وضع عليه سجل كبير وصندوق مفتوح الغطاء، فوضعت يديها حول الفتحة، وانحنت قربها متضرعة إلى الله تعالى ثلاث مرات في صوت مسموع: يا رب اغفر لي ذنوبي ثم تساءلت هل ستغفر لي ذنوبي؟ فتلقت استجابة واضحة وصارمة: أنا أرحم الراحمين، وسوف أغفر لك فاسمك مدون في هذا السجل. فتخيلت في منامها" أن هذا السجل يحتوي على تسجيل الولادات والوفيات . وتساءلت ما إذا كان حارس القرية الذي كان مسؤولا عن تسجيل الولادات حين ولدت قد سجل ولادتها.
بعد ذلك بوقت قصير، سنحت لها الفرصة لزيارة "داته زيدكا"، فذكرت رؤياها إلى والدها الذي فسر لها بأن ما رأته كان يشير إلى أن قاديان كانت ضالتها المنشودة، وأن عليها أن تبايع حضرة الميرزا. فردت قائلة، إذا كانت هذه الشخصية الفاضلة التي يشير إليها بالفعل مبعوئًا من الله تعالى فإنها بالتأكيد ستتشرف برؤيته وأن الله تعالى سيكشف لها الحق بطريقته الخاصة.
بعد ذلك رأت في منامها أنها كانت مشغولة في بيتها في مساء أحد الأيام في إعداد الترتيبات اللازمة لاستقبال عدد كبير من الضيوف، ولاحظت فجأةً توهج ضوء في غرفة تقع إلى الغرب، ففوجئت بذلك، لأنها لا تذكر أن هنالك مصباحا في تلك الغرفة. فتقدمت إلى الغرفة، فوجدتها مضاءة جدًا، ورأت فيها شخصا جليلا ذا طلعة مشرقة جالسا على أريكة ويكتب في دفتر ملاحظات، فمشت بصمت باتجاه ظهره كي لا تزعجه، لكنه لاحظ أن أحدًا قد دخل الغرفة، فتحرّك على الأريكة كأنه يهم بالرحيل. فتوسلت إليه أن يبقى فترة أطول لأن وجوده غمرها بفرح يفوق الوصف. فبقي هنيهة، وعندما كان على وشك الرحيل غامرت وسألته سيدي إذا سألني أحدهم من هو صاحب الشخصية الموقرة الذي قابلته، فماذا سأقول؟ فاستدار ينظر إليها من فوق كتفه الأيمن رافعًا ذراعه اليمنى وقال: إذا سألك أحدهم هذا السؤال، قولي له لقد التقيت بأحمد. وعندما أخبرت زوجها عن الرؤيا قال: إن أحمد هو اسم من أسماء الرسول الكريم، ولربما قد حظيت برؤيته . فأجابته: ليس لدي هذا الشعور. أشعر بأنه شخصية معاصرة، ويريد تعالى أن يرشدني بواسطته.

وعندما سمع شقيقها رؤياها ، قال: بالتأكيد قد رأيت حضرة الميرزا. قالت: لكنه لم يقل لي إنه حضرة الميرزا، بل قال إنه أحمد. قال: اسم حضرة الميرزا هو غلام أحمد، وأنت على الدرب الصحيح، فاستمري
بالتضرع إلى الله تعالى حتى تتجلى لك الحقيقة بوضوح. 
 أعلن أنه في ٣ أيلول/سبتمبر ١٩٠٤ ستلقى على الملأ محاضرة للمسيح الموعود في لاهور وسيلقيها في حضوره المولوي عبد الكريم. فذهب والدي إلى لاهور للاستماع إلى المحاضرة، ومن حسن حظي أنه اصطحبني معه. لقد شعرتُ بالهيبة منذ اللحظة التي وقعت فيها عيناي على طلعته المباركة المقدسة ، وطوال فترة قراءة المحاضرة كانت نظراتي المفعمة بالإعجاب لا تفارق وجهه المضيء، واخترقت حقيقة صدقه عقلي وروحي، وشعرت بأنني مرتبط بحضرته ارتباطًا تاما. لقد كنت حينها تلميذ مدرسة في الثانية عشرة من عمري فقط، ولكني كنت مقتنعًا بأن الله تعالى قد منحني هذه الفرصة من وافر نعمته. وصلت الأنباء أن المسيح الموعود سوف يزور سيالكوت في نهاية تشرين الأول/أكتوبر. حلمت أمي بأنها تمشي عبر بعض الشوارع، ومرت عبر ممر ضيق مسقوف أفضى بها إلى منزل، فرأت في الطابق الأول مرة أخرى تلك الشخصية المحترمة التي قابلتها في الرؤيا من قبل، فاستفسرها عما إذا كانت قد آمنت فأجابته ،آمنتُ والحمد الله . وصل المسيح الموعود مع أفراد أسرته وعدد قليل من أتباعه إلى سيالكوت مساء يوم ٢٧ تشرين الأول/أكتوبر. كان قدومه حدثًا هائلاً، وكان هناك حماس كبير في المدينة، وتجمع حشد هائل خارج محطة السكة الحديدية. اتخذت السلطات ترتيبات خاصة من أجل حماية أمنه وأمن مرافقيه أثناء سفرهم من محطة القطار إلى مسكنهم. ذهب والدي برفقة تشودري محمد أمين إلى محطة القطار لمشاهدة وصول الزائر الكبير، وقد رافقتهم أنا أيضًا، ولكن لم نستطع أن نلمح من مركبتنا إلا المحطة، تدافع الحشد الهائل المتجمع خارج ، وشرح لنا خالي فيما بعد بعض الأحداث التي حصلت في طريق التقدم البطيء لعربات الوفد القادم عبر الشوارع المزدحمة لأنه قد شاهد تفاصيل ذلك.
وفي صباح اليوم التالي عندما كان والدي على وشك الذهاب إلى المحكمة ، سألته أمى عما إذا كان يسمح لها أن تذهب لتزور زائر البلدة العظيم لترى إن كان هو نفس الشخص الموقر الذي رأته في رؤاها. فقال والدي: اذهبي بكل تأكيد واستطلعي الأمر ولكن لا تبايعيه. فردّت عليه إذا كان هو نفس الشخص، فسأكون مذنبة في إهمال قدر الله؛ فكيف سأتراجع بعد التوجيهات الواضحة التي هداني الله تعالى إليها؟ قال لها: إنها قضية مصيرية وأنا لا أرغب في أن نختلف عليها، وكما تعلمين فأنا أدرس هذه المسألة، وعلينا أن نناقشها معا وآمل أن نصل إلى نفس القرار. قالت: أنت شخص متعلم وأنا أمية، ولكنني أشعر أن الله بفضل منه قد تولى توجيهي بطريقته الخاصة، وإذا رأيتُ أن الله تعالى يوجهني لمبايعة الميرزا فسأفعل وفقًا لتوجيهات الله التي لا ينبغي أن أتصرف بما يخالفها، وسأكون سعيدة بمناقشة الأمر معك حتى نتمكن من التوصل إلى قرار معًا. قال والدي : إذا أخرت البيعة قليلا لن يضر ذلك بشيء، لأني أخشى أن نجد أنفسنا على طرفي نقيض في خلاف أساسي. قالت: ذكرتُ لك أحاسيسي.
ثم غادر والدي والله وحده يعلم مدى معاناة روح والدتي؛ فهي تواجه أكبر أزمة في محاسبة النفس في حياتها والتي لا تدري كيف ستنتهي،
 لذلك يجب أن تتضرع إلى الله تعالى بقوة ليقودها إلى الحق، فثقتُها بالله تعالى مطلقة واعتمادها عليه مطلق؛ وعليها أن تستمد الراحة من إيمانها أن الله تعالى برحمته وفضله قد وجهها حتى الآن، ولن يتركها في هذه المرحلة في شك وحيرة، فليس لديها من تلجأ إليه غيره، وعليها أن تتخذ القرار بعونه تعالى.
في وقت مبكر من بعد الظهر، خرجت أمي للتحقيق في الأمر الذي توليه أهمية قصوى والذي تتوق إليه روحها, لقد اصطحبتني معها. لما وصلنا المنزل الذي ينزل فيه المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام، اكتشفت والدتي أنه منزل يشبه تماما المنزل الذي رأته في الرؤيا. فصعدت إلى الطابق الأول وقدّمت نفسها لحضرة أم المؤمنين، وتوسلت إليها أن ترتب لها رؤية زوجها الجليل ولو للمحة. فنقلت حضرة أم المؤمنين الطلب إلى زوجها، فأرسل معها الرد إلى أمي بأنه سوف يراها بعد وقت قصير، وسيتوقف بضع دقائق في الطريق إلى المسجد المجاور للمشاركة في إمامة الصلاة. وصل حضرته وجلس بجوار حضرة أم المؤمنين على بعد بضعة أقدام من مكان جلوسي أنا ووالدتي التي بمجرد ما وقع نظرها على محياه، استنار وجهها وأكدت بابتسامة حزينة: سيدي، أريد أن أبايعك. فأجابها بتكرّم ردّدي ورائي ما سأقوله لك. ثم تلا عليها تباعًا شروط البيعة، فردَّدتها بعده، ثم تضرّع للمولى بدعاء صامت وشاركته وأمي وسيدات العائلة الدعاء ثم غادر حضرته بعد ذلك.
أدركتُ في وقت لاحق، وكنتيجة لملاحظاتي الخاصة، أن ما حدث يكن أمرا عاديًا، خاصة أن المبايعة كانت زوجة رجل لم يكن من الجماعة، لكن لم يطرح أي من الجانبين أي سؤال ولم يتبادلا أي كلمة عدا شروط البيعة، فعلى ما يبدو أن هناك انسجاما روحيا تاما بين الباحث عن الحق والهدف المنشود من هذا البحث. اطمأنت نفس والدتي، فقد قادها بحثها إلى الملاذ الروحي، ومع أنها لم ترى حضرة المسيح الموعود مرة أخرى، إلا في الرؤيا، إلا أن التزامها بما جاء به ظل التزاما تامًا لا تشوبه شائبة حتى في المحن والبلايا، واستمرت على ذلك حتى لفظت أنفاسها الأخيرة، وكان ذلك بعد مضي أكثر من ثلث القرن، ولم يعكر صفو إخلاصها شيء. لقد كان إيمانها أقوى من كل شيء، فتمسكت به في جميع الظروف.
بقيت بصحبة حضرة أم المؤمنين حوالي نصف ساعة، كانت بداية لصداقة وثيقة بينهما استمرت طوال حياتها. وعندما عدنا إلى البيت أدركت أمي أنها سوف تواجه في غضون ساعتين أصعب محنة في حياتها، ولكنها كانت على يقين بأن الخطوة إلى اتخذتها اليوم كانت بتوجيه إلهي، ولا بد أن إيمانها الراسخ قد قواها؛ فالله تعالى قد وجهها حتى الآن بفضله المحض، ولا بد أن يرعاها الله على الدوام. لم تواجه أي خلاف جاد في الماضي بينها وبين زوجها، وهما الآن يواجهان أزمة تكاد تعصف بهما. وقد بدأت أمي بالتضرع لله ليمنحها القوة والتوجيه وهي تنتظر عودة والدي إلى المنزل.
وصل والدي، وكان لي شرف أن أكون الشاهد على ما جرى.
هل ذهبت؟ سألها بلهفة وقلق مضاف إليه تحبُّبه المعتاد.
نعم، لقد ذهبت.
إذا؟
إنه نفس الشخص؛ قالت مرتجفة نوعا ما.
أنا متأكد أنك لم تتخذي الخطوة النهائية.
فوضعت يدها اليمنى فوق قلبها، وأكدت لقد بايعته. شحب وجهه وبدأت شفتاه ترتعد، لكنه بذل جهده لضبط نفسه وتمتم: لم تحسني التصرف.
جابهته بقولها : لقد امتثلتُ لمتطلبات إيماني، وسأكون حزينة لو أدى هذا الأمر إلى سخطك، ولكني لا أستطيع فعل غير ذلك، وإذا كان موقفي يسبب لك الانزعاج، فبإمكانك أن تفعل ما تراه مناسبًا، أما بالنسبة إلي، فليس لدي أدنى شك في أن الذي رعاني حتى الآن سوف يرعاني في المستقبل أيضًا.
نادى على خادمه الشخصي وأمره: انقل سريري إلى الغرفة المجاورة.
عندها رفعت صوتها بسخرية ، وقالت للخادم بنبرة حازمة: نعم،
انقُل سريره إلى مسكن الرجال.
ولا بد أن جوابها قد فاجأه، فصرخ بنبرة المجروح:
لم هذا؟
لأن الله تعالى تفضّل عليّ بإبصار النور، وأنت لا تزال 
في الظلام.
أدرك أنها قد فازت عليه، فاستدار نحو الخادم ، وطرده خارجًا وهو
يقول بأسف : كانت مصممة على الفوز.
مرت الأزمة بسلام، ولكن كان على والدي أن يتخذ قراره، وتضرعت أمي باستمرار الله تعالى ليعيد جمعهما روحيًا. كان تشودري محمد أمين مهتمًا أيضًا بأمر الجماعة، ووالدي نفسه يميل الآن إلى المضي قدما مع الجماعة، لذلك استفسره ما إذا كان يرغب في الانضمام معه إلى الجماعة. فقال إنه يرغب في استيضاح بعض النقاط.. واتفقا على أن يطلبا التوجيه من المولوي نور الدين، التابع الأبرز للمسيح الموعود، والذي رافقه إلى سيالكوت، والذي صرح بلطف أنه سيكون سعيدًا لاستقبالهما كل مساء مدة ساعة أو نحو ذلك. فقابلاه أربع مرات ، كان لي الحظ في الحضور أيضًا. وهذا أعطاني فرصة مراقبة المولوي نور الدين عن كتب، وربما هو قد اهتم بي كابن صديقه نصر الله خان. وبعد الاجتماع الأخير. قال والدي لتشودري محمد أمين: هل 
أصبحت قادرًا الآن على اتخاذ القرار. 
فقال:
- لقد وجدت الجواب الشافي للأمور التي كنت أسأل عنها.
- إذا، هل ستبايع؟
- ما رأيك أنت؟
- أنا مستعد لذلك إذا كنت أنت أيضا ستبايع.
- حسنًا، عندما تذهب غدًا لصلاة الفجر خُذني معك لنذهب سوية للبيعة.
وفي صباح اليوم التالي، رافقتُ والدي لصلاة الفجر، وفي طريقنا مررنا على تشودري محمد أمين لينضم إلينا، لكنه قال إنه يشعر بأنه غير مستعد بعد التحمّل المسؤوليات المنوطة بالبيعة. فبايع والدي المسيح الموعود في جلسة خاصة بعد صلاة الفجر، وكنت حاضرًا أيضًا.
بايع والدي بعد أيام قليلة من بيعة والدتي طبقا لرؤياها، فالمقعد الذي حجزته له في منامها احتله اليوم، وعاد الانسجام إلى الأسرة. في الحقيقة أقسمت أمي على الولاء في رؤياها، وأكدت على ذلك من خلال البيعة التي أوفت بها حرفيًا في كل ما تبقى من حياتها. كان كل يوم، بل كل لحظة، يشهد على زيادة ثبات إيمانها. لقد كان إيمانها عميقا بالحب منذ البداية، وكبر حبها وقوي وتعمق حتى أشرق في كل المظاهر، فكانت تشاهد في كل شيء مجد الله تعالى وجلاله ونور النبي الكريم ، وحقيقة المسيح الموعود. لقد اهتمت بالوفاء بجميع الالتزامات الواجبة تجاه خالقها تعالى ومخلوقاته وبأدق التفاصيل، حتى إن حياتها أصبحت بفضل الله مصدرًا دائما لنفع الجميع.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الردود على الأسئلة التي يطرحها الناس عادة السؤال ١: أين يثبت موت المسيح ابن مريم من القرآن الكريم؟ بل إن قوله تعالى: ﴿رَافِعُكَ إِلَيَّ" و"بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ" يدلّ على أن المسيح رفع إلى السماء بجسده. وكذلك الآية: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ؟ تدل على أن المسيح لم يُقتل ولم يمت على الصليب. الجواب: فليتضح أن معنى الرفع إلى الله هو الموت، كذلك إن لقول الله : ارْجِعِي إِلَى رَبِّك"، وقوله: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ" المعنى  نفسه. إضافة إلى ذلك إن الوضوح والجلاء والتفصيل الذي ورد به ذكر موت المسيح في القرآن الكريم لا يتصور أكثر منه؛ لأن الله قد بين وفاة المسيح بوجه عام وبوجه خاص أيضا، كما يقول مثلا على وجه العموم: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ " . إن هذه الآية التي قدّمتُها للاستدلال تدل بصراحة متناهية أن الموت قد  أصاب  جميع الرُّسُل، سواء أكان بالموت الطبيعي أو بالقتل، ولم يسلم من الموت نبي من الأنبياء السابقي...

شرح وتفسير: "وكان عرشه على الماء".

 شرح وتفسير: "وكان عرشه على الماء". النقاش عن كون العرش مخلوقا أو غير مخلوق عبث:  فقال عليه السلام:  الناس يتفننون في آرائهم حول هذا الموضوع، بعضهم يصفونه بالمخلوق وبعضهم يصفونه بغير المخلوق، ولكن لو لم نصفه بغير المخلوق لبطل الاستواء. لا شك في أن النقاش حول كون العرش مخلوقا أو غير مخلوق عبث أصلا، هذه استعارة، حيث بين الله فيه رفعته العالية، أي هو مقام منزه عن كل جسم ونقص، ويقابله هذه الدنيا وهذا العالم كله. وليس للإنسان اطلاع كامل عليه. هذا المقام يمكن أن يسمى قديم، فالناس يستغربون من ذلك ويحسبونه شيئًا ماديا. وانطلاقا من القدم يرد الاعتراض على ورود الحرف "ثم". فالحقيقة أن القدم يشمل "ثم" أيضًا. كما عندما يكون القلم بيد الإنسان فتتحرك اليد أيضًا حيثما يتحرك القلم، لكن يكون التقدُّم لليد. يعترض الآريون على المسلمين عن قدم الله، ويقولون إن إله المسلمين موجود منذ ستة أو سبعة آلاف سنة. وهذا خطؤهم، فمن الغباوة أن يقدر عمر الله بالنظر إلى هذا المخلوق. فلا نعلم ما الذي كان قبل آدم ومن أي نوع كان ذلك المخلوق. والله الله أعلم بذلك الوقت: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْ...
لا بد من التقوى من أجل الفتح: وما دام الأمر هكذا، فاعلموا أن التقوى ضرورية للمرء لكي تنفتح عليه أبواب الحقائق والمعارف فاتقوا الله ، لأن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل (۱۲۹) . ولا أستطيع أن أحصي لكم كم مرة تلقيت هذه الآية في الوحي، إذ أوحيت إلي مرات كثيرة جدا. لو أننا اكتفينا بالأقوال دون الأفعال، فاعلموا أن لا جدوى من ذلك. إن النصر  يتطلب التقوى، فكونوا متقين إن أردتم النصر. ضرورة التضحيات المالية لنشر الإسلام أرى أن نساء الهندوس والنصارى أيضا يوصين بعقارات كبيرة وأموال طائلة لنشر  دعوتهم، ولكن لا نجد نظير ذلك في المسلمين في هذه الأيام. إن أكبر مشكلتنا  هي  الحاجة إلى النصرة المالية لنشر الإسلام. اعلموا أن الله  تعالى هو الذي أراد تأسيس هذه الجماعة بيده وسوف يكون حاميها وناصرها، ولكنه يريد أن يؤتي عباده الأجر والثواب، ومن أجل ذلك قد اضطر الأنبياء لطلب المساعدة المالية. لقد طلب رسول الله النصرة المالية ، وعلى نفس المنهاج ، الذي هو منهاج النبوة، نذكر أحبابنا بحاجات الجماعة من حين لآخر. ومع ذلك أقول: إ...